→ كتاب الوصايا | ابن حزم - المحلى كتاب الوصايا (مسأله 1751 - 1755) ابن حزم |
كتاب الوصايا (مسأله 1756 - 1763) ← |
كتاب الوصايا
1751 - مسألة: الوصية فرض على كل من ترك مالا , لما روينا من طريق مالك عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله ﷺ : ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة قال ابن عمر : ما مرت علي ليلة مذ سمعت رسول الله ﷺ قال ذلك إلا وعندي وصيتي.
وروينا إيجاب الوصية من طريق ابن المبارك عن عبد الله بن عون عن نافع ، عن ابن عمر من قوله.
ومن طريق عبد الرزاق عن الحسن بن عبيد الله قال : كان طلحة , والزبير يشددان في الوصية
وهو قول عبد الله بن أبي أوفى , وطلحة بن مطرف , وطاووس , والشعبي , وغيرهم
وهو قول أبي سليمان وجميع أصحابنا. .
وقال قوم : ليست فرضا , واحتجوا : بأن هذا الخبر رواه يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع ، عن ابن عمر عن النبي ﷺ فقال فيه له شيء يريد أن يوصي فيه. قالوا : فرد الأمر إلى إرادته وقالوا : إن رسول الله ﷺ لم يوص , ورووا : أن ابن عمر وهو راوي الخبر لم يوص , وأن حاطب بن أبي بلتعة بحضرة عمر لم يوص , وأن ابن عباس قال فيمن ترك ثمانمائة درهم : قليل , ليس فيها وصية , وأن عليا نهى من لم يترك إلا من السبعمائة إلى التسعمائة عن الوصية , وأن عائشة أم المؤمنين قالت فيمن ترك أربعمائة دينار : في هذا فضل عن ولده. وعن النخعي ليست الوصية فرضا.
وهو قول أبي حنيفة , ومالك , والشافعي.
قال أبو محمد : كل هذا لا حجة لهم في شيء منه : أما من زاد في روايته " يريد أن يوصي " فإن مالك بن أنس رواه كما أوردنا بغير هذا اللفظ , لكن بلفظ الإيجاب فقط. ورواه عبد الله بن نمير , وعبدة بن سليمان عن عبيد الله بن عمر عن نافع ، عن ابن عمر , كما رواه مالك. ورواه يونس بن يزيد عن نافع ، عن ابن عمر كما رواه مالك. ورواه ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبي ﷺ كما رواه مالك , ويونس عن نافع وكلا الروايتين صحيح. فإذ هما صحيحان فقد وجبت الوصية برواية مالك , ووجب عليه أن يريدها ، ولا بد وبالله تعالى التوفيق.
وأما قولهم : إن رسول الله ﷺ لم يوص فقد كانت تقدمت وصيته بجميع ما ترك بقوله الثابت يقينا إنا معشر الأنبياء لا نورث , ما تركنا صدقة وهذه وصية صحيحة بلا شك , لأنه أوصى بصدقة كل ما يترك إذا مات , وإنما صح الأثر بنفي الوصية التي تدعيها الرافضة إلى علي فقط.
وأما ما رووا من أن ابن عمر لم يوص , فباطل ; لأن هذا إنما روي من طريق أشهل بن حاتم وهو ضعيف.
ومن طريق ابن لهيعة وهو لا شيء والثابت عنه ما رواه مالك عن نافع من إيجابه الوصية , وأنه لم يبت ليلته مذ سمع هذا الخبر من النبي ﷺ إلا ووصيته عنده مكتوبة.
وأما حديث حاطب وعمر : فمن رواية ابن لهيعة , وهي أسقط من أن يشتغل بها.
وأما خبر ابن عباس : ففيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف.
وأما حديث علي فإنه حد القليل بما بين السبعمائة إلى التسعمائة وهم لا يقولون بهذا وليس في حديث أم المؤمنين بيان بما ادعوا. ثم لو صح كل ذلك لما كانت فيه حجة ; لأنه قد عارضهم صحابة , كما أوردنا , وإذا وقع التنازع لم يكن قول طائفة أولى من قول أخرى , والفرض حينئذ هو الرجوع إلى القرآن والسنة , وكلاهما يوجب فرض الوصية , أما السنة : فكما أوردنا ,
وأما القرآن : فكما نورد إن شاء الله تعالى
1752 - مسألة: فمن مات ولم يوص : ففرض أن يتصدق عنه بما تيسر ، ولا بد ; لأن فرض الوصية واجب , كما أوردنا.
فصح أنه قد وجب أن يخرج شيء من ماله بعد الموت , فإذ ذلك كذلك فقد سقط ملكه عما وجب إخراجه من ماله , ولا حد في ذلك إلا ما رآه الورثة , أو الوصي مما لا إجحاف فيه على الورثة
وهو قول طائفة من السلف , وقد صح به أثر عن النبي ﷺ .
كما روينا من طريق مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين : أن رجلا قال للنبي ﷺ إن أمي افتلتت نفسها وإنها لو تكلمت تصدقت , أفأتصدق عنها يا رسول الله فقال رسول الله ﷺ : نعم , فتصدق عنها فهذا إيجاب الصدقة عمن لم يوص , وأمره عليه الصلاة والسلام : فرض.
ومن طريق مسلم بن الحجاج ، حدثنا قتيبة ، حدثنا إسماعيل ، هو ابن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة : أن رجلا قال لرسول الله إن أبي مات ولم يوص , فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه قال عليه الصلاة والسلام : نعم. فهذا إيجاب للوصية , ولان يتصدق عمن لم يوص ، ولا بد ; لأن التكفير لا يكون إلا في ذنب , فبين عليه الصلاة والسلام : أن ترك الوصية يحتاج فاعله إلى أن يكفر عنه ذلك , بأن يتصدق عنه , وهذا ما لا يسع أحدا خلافه.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال : مات عبد الرحمن بن أبي بكر في منام له فأعتقت عنه عائشة أم المؤمنين تلادا من تلاده. فهذا يوضح أن الوصية عندها ، رضي الله عنها ، : فرض , وأن البر عمن لم يوص : فرض , إذ لولا ذلك ما أخرجت من ماله ما لم يؤمر بإخراجه.
ومن طريق عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جريج عن إبراهيم بن ميسرة أنه سمع طاووسا يقول : ما من مسلم يموت لم يوص إلا وأهله أحق , أو محقون أن يوصوا عنه قال ابن جريج فعرضت على ابن طاووس هذا وقلت : أكذلك فقال : نعم. والعجب أنهم يقولون : إن المرسل كالمسند. وقد
روينا عن عبد الرزاق ، عن ابن جريج , وسفيان , ومعمر , كلهم : عن عبد الله بن طاووس عن أبيه : أن رجلا قال : يا رسول الله إن أمي توفيت ولم توص , أفأوصي عنها فقال : نعم.
ومن طريق معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام " أن رسول الله ﷺ أعتق عن امرأة ماتت ولم توص وليدة وتصدق عنها بمتاع. ولا مرسل أحسن من هذين فخالفوهما , لرأيهما الفاسد
1753 - مسألة: وفرض على كل مسلم أن يوصي لقرابته الذين لا يرثون , إما لرق , وأما لكفر ,
وأما لأن هنالك من يحجبهم عن الميراث أو لأنهم لا يرثون فيوصي لهم بما طابت به نفسه , لا حد في ذلك , فإن لم يفعل أعطوا ، ولا بد ما رآه الورثة , أو الوصي. فإن كان والداه , أو أحدهما على الكفر , أو مملوكا ففرض عليه أيضا أن يوصي لهما , أو لأحدهما إن لم يكن الآخر كذلك , فإن لم يفعل أعطي , أو أعطيا من المال ، ولا بد , ثم يوصي فيما شاء بعد ذلك. فإن أوصى لثلاثة من أقاربه المذكورين أجزأه. والأقربون : هم من يجتمعون مع الميت في الأب الذي به يعرف إذا نسب , ومن جهة أمه كذلك أيضا : هو من يجتمع مع أمه في الأب الذي يعرف بالنسبة إليه ; لأن هؤلاء في اللغة أقارب , ولا يجوز أن يوقع على غير هؤلاء اسم أقارب بلا برهان.
برهان ذلك : قول الله تعالى : {الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم} فهذا فرض كما تسمع , فخرج منه الوالدان , والأقربون الوارثون , وبقي من لا يرث منهم على هذا الفرض. وإذ هو حق لهم واجب فقد وجب لهم من ماله جزء مفروض إخراجه لمن وجب له إن ظلم هو , ولم يأمر بإخراجه , وإذا أوصى لمن أمر به فلم ينه عن الوصية لغيرهم , فقد أدى ما أمر به وله أن يوصي بعد ذلك بما أحب. ومن أوصى لثلاثة أقربين فقد أوصى للأقربين وهذا قول طائفة من السلف :
روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر , وابن جريج , كلاهما عن عبد الله بن طاووس عن أبيه , قال : من أوصى لقوم وسماهم وترك ذوي قرابته محتاجين انتزعت منهم وردت على ذوي قرابته , فإن لم يكن في أهله فقراء فلأهل الفقر من كانوا.
ومن طريق عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن قتادة عن الحسن , قال : إذا أوصى في غير أقاربه بالثلث : جاز لهم ثلث الثلث , ورد على قرابته : ثلثا الثلث.
ومن طريق الحجاج بن المنهال ، حدثنا أبو هلال عن قتادة عن سعيد بن المسيب ، أنه قال فيمن أوصى لثلاثة في غير قرابته , فقال : للقرابة الثلثان , ولمن أوصى له الثلث.
ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي ، حدثنا علي بن عبد الله ، هو ابن المديني ، حدثنا أبو معاوية الضرير ، حدثنا الأعمش عن مسروق : ، أنه قال : إن الله قسم بينكم فأحسن القسمة , وإنه من يرغب برأيه عن رأي الله عز وجل يضل , أوص لقرابتك ممن لا يرث , ثم دع المال على ما قسمه الله عليه.
ومن طريق إسماعيل ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن أبي ميمونة قال : سألت سالم بن يسار , والعلاء بن زياد عن قول الله عز وجل : {إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين} فدعوا بالمصحف فقرآ هذه الآية , فقالا : هي للقرابة.
ومن طريق إسماعيل ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا معاذ بن هشام الدستوائي : حدثني أبي عن قتادة عن عبد الملك بن يعلى : أنه كان يقول فيمن يوصي لغير ذي القربى وله ذو قرابة ممن لا يرثه : أنه يجعل ثلثا الثلث لذوي القرابة وثلث الثلث لمن أوصى له به.
ومن طريق إسماعيل ، حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة في قول الله تعالى : {إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين} قال : نسخ منها الوالدان , وترك الأقارب ممن لا يرث.
ومن طريق إسماعيل ، حدثنا الحجاج بن المنهال ، حدثنا حماد بن سلمة عن إياس بن معاوية قال : هي للقرابة يعني الوصية. وبوجوب الوصية للقرابة الذين لا يرثون يقول إسحاق , وأبو سليمان. وقال آخرون : ليس ذلك فرضا , بل له أن يوصي لغير ذي قرابته.
وهو قول الزهري , وسالم بن عبد الله بن عمر , وسليمان بن يسار , وعمرو بن دينار , ومحمد بن سيرين.
وهو قول أبي حنيفة , والأوزاعي , وسفيان الثوري , ومالك , والشافعي. واحتجوا بحديث الذي أوصى بعتق الستة الأعبد , ولا مال له غيرهم , فأقرع رسول الله ﷺ بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة فقالوا : هذه وصية لغير الأقارب.
قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه ; لأنه ليس فيه بيان أنه كان بعد نزول الآية المذكورة , ونحن لا نخالفهم في أن قبل نزولها كان للمرء أن يوصي لمن شاء , فهذا الخبر موافق للحال المنسوخة المرتفعة بيقين لا شك فيه قطعا فحكم هذا الخبر منسوخ بلا شك والآية رافعة لحكمه ناسخة له بلا شك.
ومن ادعى في الناسخ أنه عاد منسوخا , وفي المنسوخ أنه عاد ناسخا بغير نص ثابت وارد بذلك , فقد قال الباطل وقفا ما لا علم له به , وقال على الله تعالى ما لا يعلم وترك اليقين وحكم بالظنون , وهذا محرم بنص القرآن. ونحن نقول : إن الله تعالى قال : {تبيانا لكل شيء} فنحن نقطع ونبت ونشهد أنه لا سبيل إلى نسخ ناسخ , ورد حكم منسوخ دون بيان وارد لنا بذلك ,
ولو جاز غير هذا لكنا من ديننا في لبس , ولكنا لا ندري ما أمرنا الله تعالى به مما نهانا عنه , حاشا لله من هذا فظهر لنا بطلان تمويههم بهذا الخبر.
وأيضا : فليس فيه أن ذلك الرجل كان صليبة من الأنصار , وكان له قرابة لا يرثون , فإذ ليس ذلك فيه فممكن أن يكون حليفا أتيا لا قرابة له , فلا حجة لهم فيه , ولا يحل القطع بالظن , ولا ترك اليقين له.
وأعجب شيء احتجاجهم في هذا بأن عبد الرحمن بن عوف أوصى لأمهات المؤمنين بحديقة بيعت بأربعمائة ألف درهم ولأهل بدر بمائة دينار , مائة دينار لكل واحد منهم ، وأن عمر أوصى لكل أم ولد له بأربعة آلاف درهم , أربعة آلاف درهم ، وأن عائشة أم المؤمنين أوصت لأل أبي يونس مولاها بمتاعها
قال أبو محمد : إن هذا لمن قبيح التدليس في الدين , وليت شعري : أي شيء في هذا مما يبيح أن لا يوصي لقرابته وهل في شيء من هذه الأخبار أنهم ، رضي الله عنهم ، لم يوصوا لقرابتهم
فإن قالوا : لم يذكر هذا فيه
قلنا : ولا ذكر فيه أنهم أوصوا بالثلث فأقل , ولعلهم أوصوا بأكثر من الثلث وهذه كلها فضائح , نعوذ بالله من مثلها ونسأله العصمة والتوفيق.
1754 - مسألة: ولا تحل الوصية لوارث أصلا , فإن أوصى لغير وارث فصار وارثا عند موت الموصي : بطلت الوصية له , فإن أوصى لوارث ثم صار غير وارث لم تجز له الوصية , لأنها إذ عقدها كانت باطلا , وسواء جوز الورثة ذلك أو لم يجوزوا ; لأن الكواف نقلت : أن رسول الله ﷺ قال : لا وصية لوارث ". فإذ قد منع الله تعالى من ذلك فليس للورثة أن يجيزوا ما أبطله الله تعالى على لسان رسول الله ﷺ إلا أن يبتدئوا هبة لذلك من عند أنفسهم , فهو مالهم وهذا قول المزني , وأبي سليمان.
فإن قيل : فقد رويتم من طريق ابن وهب عن عبد الله بن سمعان , وعبد الجليل بن حميد اليحصبي , ويحيى بن أيوب , وعمرو بن قيس سندل , قال عمر بن قيس : عن عطاء بن أبي رباح , وقال الآخرون : أنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين , ثم اتفق عطاء , وعبد الله : أن رسول الله ﷺ قال عام الفتح في خطبته : لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة زاد عطاء في حديثه : وإن أجازوا فليس لهم أن يرجعوا
قلنا : هذا مرسل , ثم هو من المرسل فضيحة ; لأن الأربعة الذين ذكرهم ابن وهب كلهم مطرح , وإن في اجتماعهم لاعجوبة. وعهدنا بالحنفيين , والمالكيين يقولون : إن المرسل كالمسند , والمسند كالمرسل , ولا يبالون بضعيف , فهلا أخذوا بهذا المرسل ولكن هذا مما تناقضوا فيه.
وقال أبو حنيفة : لهم أن يرجعوا بعد موته.
وقال مالك : لا رجوع لهم إلا أن يكونوا في كفالته , فلهم أن يرجعوا.
1755 - مسألة: ولا تجوز الوصية بأكثر من الثلث كان له وارث أو لم يكن له وارث , أجاز الورثة , أو لم يجيزوا : صح من طرق عن سعد بن أبي وقاص ، أنه قال : عادني رسول الله ﷺ فقلت : أوصي بمالي كله قال : لا , قلت : فالنصف قال : لا , قلت : فالثلث قال : نعم , والثلث كثير ". والخبر بأن رجلا من الأنصار أوصى عند موته بعتق ستة أعبد لا مال له غيرهم , فدعاهم رسول الله ﷺ فأقرع بينهم , فأعتق اثنين وأرق أربعة.
وقال مالك : إن زادت وصيته عن الثلث بيسير كالدرهمين , ونحو ذلك جازت الوصية في كل ذلك وهذا خلاف الخبر , وخطأ في تحديده ما ذكر دون ما زاد وما نقص , ولا تخلو تلك الزيادة قلت أو كثرت من أن تكون من حق الموصي أو حق الورثة , فإن كانت من حق الموصي فما زاد على ذلك فمن حقه أيضا , فينبغي أن ينفذ , وإن كانت من حق الورثة فلا يحل للموصي أن يحكم في مالهم.
وقالت طائفة : من لا وارث له فله أن يوصي بماله كله. صح ذلك ، عن ابن مسعود , وغيره :
كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال : قال لي عبد الله بن مسعود : إنكم من أحرى حي بالكوفة أن يموت أحدكم فلا يدع عصبة ، ولا رحما فلا يمنعه إذا كان ذلك أن يضع ماله في الفقراء والمساكين.
ومن طريق سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق ، أنه قال فيمن ليس له مولى عتاقة : أنه يضع ماله حيث يشاء فإن لم يفعل فهو في بيت المال.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني ، عن ابن سيرين عن عبيدة السلماني قال : إذا مات وليس عليه عقد لأحد ، ولا عصبة يرثون فإنه يوصي بماله كله حيث شاء.
ومن طريق حماد بن سلمة أن أبا العالية الرياحي أعتقته مولاته سائبة , فلما احتضر أوصى بماله كله لغيرها , فخاصمت في ذلك فقضي لها بالميراث
وهو قول الحسن البصري وأبي حنيفة , وأصحابه , وشريك القاضي , وإسحاق بن راهويه.
وقال مالك , وابن شبرمة , والأوزاعي , والحسن بن حي , والشافعي , وأحمد , وأبو سليمان : ليس له أن يوصي بأكثر من الثلث كان له وارث أو لم يكن.
قال أبو محمد : احتج المجيزون لذلك بقول رسول الله ﷺ لسعد : الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس. قالوا : فإنما جعل رسول الله ﷺ العلة في أن لا يتجاوز الثلث في الوصية أن يغني الورثة فإذا لم تكن له ورثة فقد ارتفعت العلة فله أن يوصي بما شاء وقالوا : هو قول ابن مسعود ، ولا يعرف له من الصحابة مخالف وقالوا : فلما كان مال من لا وارث له إنما يستحقه المسلمون ; لأنه مال لا يعرف له رب , فإذ هو هكذا ولم يكن فيه لأحد حق فلصاحبه أن يضعه حيث شاء وقالوا : كما للإمام أن يضعه بعد موته حيث شاء فكذلك لصاحبه ما نعلم لهم شيئا يشغبون به غير هذا وكله لا حجة لهم فيه أما قولهم : إن رسول الله ﷺ جعل العلة في أن لا يتجاوز الثلث غنى الورثة فباطل من قولهم ما قال عليه الصلاة والسلام قط إن أمري بأن لا يتجاوز الثلث في الوصية إنما هو لغنى الورثة إنما قال عليه الصلاة والسلام : الثلث والثلث كثير فهذه قضية قائمة بنفسها , وحكم فصل غير متعلق بما بعده ثم ابتدأ عليه الصلاة والسلام قضية أخرى مبتدأة قائمة بنفسها , غير متعلقة بما قبلها , فقال : إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.
برهان صحة هذا القول : أنه لا يحل أن ينسب إلى رسول الله ﷺ أنه علل علة فاسدة منكرة حاش له من ذلك. ونحن نجد من له عشرة من الورثة فقراء ولم يترك إلا درهما واحدا فإن له بإقرارهم أن يوصي بثلثه , ولا يترك لهم ما يغنيهم من جوع غداء واحدا , ولا عشاء واحدا. ونحن نجد من لا يترك وارثا إلا واحدا غنيا موسرا مكثرا ، ولا يخلف إلا درهما واحدا , فليس له عندهم ، ولا عندنا أن يوصي إلا بثلثه , وليس له غنى فيما يدع له ولو كانت العلة ما ذكروا لكان من ترك ابنا واحدا , وترك ثلاثمائة ألف دينار يكون له أن يوصي بالنصف ; لأن له فيما يبقى غنى الأبد , فلو كانت العلة غنى الورثة لروعي ما يغنيهم على حسب كثرة المال وقلته وهذا باطل عند الجميع.
فصح أن الذي قالوا باطل , وأن الشريعة في ذلك إنما هو تحديد الثلث فما دونه فقط قل المال أو كثر , كان فيه للورثة غنى أو لم يكن.
وأما قولهم : إنه قول ابن مسعود ، ولا يعرف له من الصحابة مخالف ; فلعلهم يقرعون بهذه العلة المالكيين , والشافعيين , الذين يحتجون عليهم بمثلها , ويوردونها عليهم في غير ما وضع ويتقاذفون لها أبدا.
وأما نحن فلا نرى حجة إلا في نص قرآن أو سنة عن رسول الله ﷺ وبالله تعالى التوفيق.
وأما قولهم : إنما يأخذ المسلمون مال من لا وارث له ; لأنه لا رب له , فإذ لا يستحقه بموته أحد فصاحبه أحق به ; فما زادونا على تكرار قولهم , وأن جعلوا دعواهم حجة لدعواهم , وفي هذا نازعناهم , وليس كما قالوا , لكن نحن وأموالنا لله تعالى ، ولا يحل لأحد أن يتصرف في نفسه , ولا في مال إلا بما أذن الله له فيه مالكه , ومالك ماله عز وجل فقط. ولولا أن الله تعالى أطلق أيدينا على أموالنا فيما شاء لما جاز لنا فيها حكم , كما لا يجوز لنا فيها حكم , حيث لم يبح الله تعالى لنا التصرف فيها. ولولا أن الله تعالى أذن لنا في الوصية بعد الموت لما جاز لنا أن نوصي بشيء , فأباح الله تعالى الثلث فما دونه فكان ذلك مباحا ولم يبح أكثر فهو غير مباح.
وأما قولهم كما للإمام أن يضعه حيث يشاء فصاحبه أولى فكلام بارد , وقياس فاسد , وهم يقولون فيمن ترك زوجة ولم يترك ذا رحم ، ولا مولى ، ولا عاصبا : أن الربع للزوجة , وأن الثلاثة الأرباع يضعها الإمام حيث يشاء وأنه ليس له أن يوصي بأكثر من الثلث. فهلا قاسوا هاهنا كما للإمام أن يضع الثلاثة الأرباع حيث يشاء , فكذلك صاحب المال ولكن هذا مقدار قياسهم فتأملوه.
وأما إذا أذن الورثة في أكثر من الثلث ; فإن عطاء , والحسن , والزهري , وربيعة , وحماد بن أبي سليمان , وعبد الملك بن يعلى , ومحمد بن أبي ليلى , والأوزاعي قالوا : إذا أذن الورثة فلا رجوع لهم , ولم يخصوا إذنا في صحة من أذن في مرض. وقال شريح , وطاووس , والحكم بن عتيبة , والنخعي والشعبي , وسفيان الثوري , والحسن بن حي , وأبو حنيفة , والشافعي , وأبو ثور , وأحمد بن حنبل : إذا أذنوا له في مرضه أو عند موته أو في صحته : بأن يوصي بأكثر من الثلث لم يلزمهم , ولهم الرجوع إذا مات.
وقالت طائفة : لا يجوز ذلك أصلا
كما روينا من طريق وكيع عن المسعودي هو أبو عميس عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود عن أبي عون هو محمد بن عبيد الله الثقفي عن القاسم بن عبد الرحمن أن رجلا استأمر ورثته في أن يوصي بأكثر من الثلث فأذنوا له , فلما مات رجعوا , فسئل ابن مسعود ; فقال لهم ذلك النكرة لا يجوز.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن داود عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الضرار في الوصية من الكبائر , ثم قرأ ابن عباس , تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أشعث بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة مسندا أن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى جار في وصيته , فيختم له بشر عمله فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته , فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم تلك حدود الله إلى قوله عذاب مهين
قال أبو محمد : إنما أوردناه لقول أبي هريرة فقط.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير قال : يرد عن حيف الناحل الحي ما يرد من حيف الناحل في وصيته , فهؤلاء ثلاثة من الصحابة لا يعرف لهم من الصحابة ، رضي الله عنهم ، مخالف أبطلوا ما خالف السنة في الوصية , ولم يجيزوه , ولم يشترطوا رضا الورثة
وهو قول المزني , وأبي سليمان , وأصحابنا.
وقال مالك : إن استأذنهم في صحته فأذنوا له فلهم الرجوع إذا مات , وإن استأذنهم في مرض موته فأذنوا له فلا رجوع لهم , إلا أن يكونوا في عياله ونفقته فلهم الرجوع.
قال أبو محمد : أما قول مالك : فلا نعلمه عن أحد قبله , ولا نعلم له حجة أصلا ، ولا يخلو المال كله أو بعضه من أن يكون لمالكه في صحته وفي مرضه , أو يكون كله أو بعضه لورثته في صحته ومرضه فإن كان المال لصاحبه في صحته ومرضه فلا إذن للورثة فيه ومن المحال الباطل جواز إذنهم فيما لا حق لهم فيه , وفيما هو حرام عليهم , حتى لو سرقوا منه دينارا لوجب القطع على من سرقه منهم وقد يموت أحدهم قبل موت المريض فيرثه , ولا سبيل إلى أن يقول أحد : إن شيئا من مال المريض لوارثه قبل موت الموروث لما ذكرنا , فبطل هذا القول بيقين.
وأما من أجاز إذنهم فإنهم يحتجون بقول الله عز وجل : {أوفوا بالعقود} وهذا عقد قد التزموه فعليهم الوفاء به.
قال أبو محمد : ولقد كان يلزم من أجاز العتق قبل الملك , والطلاق قبل النكاح : أن يقول بإلزامهم هذا الإذن , ولكنهم تناقضوا في ذلك.
قال علي : وأما نحن فنقول : كل عقد لم يأت به قرآن ، ولا سنة بالأمر به أو بإباحته فهو باطل , وإنما أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود التي أمر بها نصا أو أباحها نصا.
وأما من عقد معصية فما أذن الله تعالى قط في الوفاء بها , بل حرم عليه ذلك , كمن عقد على نفسه أن يزني , أو يشرب الخمر والزيادة على الثلث معصية منهي عنها , فالعقد في الإذن من ذلك فيما لم يأذن الله تعالى فيه باطل محرم فسقط هذا القول.
وأما من أجاز للورثة أن يجيزوا ذلك بعد الموت فخطأ ظاهر ; لأن المال حينئذ صار للورثة , فحكم الموصي فيما استحقوه بالميراث باطل , لقول رسول الله ﷺ : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام فليس لهم إجازة الباطل , لكن إن أحبوا أن ينفذوا ذلك من مالهم باختيارهم فلهم ذلك ولهم حينئذ أن يجعلوا الأجر لمن شاءوا وبالله تعالى التوفيق. وهذا مما خالفوا فيه ثلاثة من الصحابة لا يعرف لهم منهم مخالف.
محلى ابن حزم - المجلد الرابع/كتاب الوصايا |
كتاب الوصايا (مسأله 1751 - 1755) | كتاب الوصايا (مسأله 1756 - 1763) | كتاب الوصايا (مسأله 1764 - 1766) | كتاب الوصايا (مسأله 1767 - 1771) |