→ كتاب الوصايا (مسأله 1751 - 1755) | ابن حزم - المحلى كتاب الوصايا (مسأله 1756 - 1763) ابن حزم |
كتاب الوصايا (مسأله 1764 - 1766) ← |
كتاب الوصايا
1756 - مسألة: ومن أوصى بأكثر من ثلث ماله , ثم حدث له مال لم يجز من وصيته إلا مقدار ثلث ما كان له حين الوصية ; لأن ما زاد على ذلك عقده عقدا حراما لا يحل كما ذكرنا وما كان باطلا فلا يجوز أن يصح في ثان , إذ لم يعقد ، ولا محال أكثر من عقد لم يصح حكمه إذ عقد , ثم يصح حكمه إذ لم يعقد. فلو أوصى بثلثه فأقل , ثم نقص ماله حتى لم يحتمل وصيته , ثم زاد لم ينفذ من وصيته إلا مقدار ثلث ما رجع إليه من ماله ; لأن وصيته بما زاد على ثلث ما رجع إليه ماله قد بطلت , وما بطل فلا سبيل إلى عودته دون أن تبتدئ إعادته بعقد آخر , إذ قد بطل العقد الأول. فلو أوصى بأكثر من ثلث ماله عامدا وله مال لم يعلم به لم ينفذ إلا في مقدار ثلث ما علم فقط ; لأنه عقد ما زاد على ذلك عقد معصية , فهو باطل. فلو قال في كل ما ذكرنا : إن رزقني الله مالا فإني أوصي منه بكذا , أو قال أوصي إذا مات أن يخرج عنه ثلث ما يتخلف , أو جزءا مشاعا أقل من الثلث أو قال : فيخرج مما يتخلف كذا وكذا : فهذا جائز وتنفذ وصيته من كل ما كسبه قبل موته وبعد تلك الوصية , بأي وجه كسبه , أو بأي وجه صحيح ملكه , بميراث أو غيره , علم به أو لم يعلم ; لأنه عقد عقدا صحيحا فيما يتخلفه , ولم يخص بوصيته ما يملك حين الوصية , وقد عقد وصيته عقدا صحيحا لم يتعد فيه ما أمر الله عز وجل , فهي وصية صحيحة كما ذكرنا. فلو أوصى بثلث ماله وماله يحتمله وله مال لم يعلم به , ثم نقص ماله الذي علم أو لم ينقص , فوصيته نافذة فيما علم وفيما لم يعلم ; لأنه عقدها عقدا صحيحا تاما من حين عقده إلى حين مات , ولا تدخل ديته إن قتل خطأ فيما تنفذ منه وصاياه ; لأنها لم تجب له قط , ولا ملكها قط , وإنما وجبت بعد موته لورثته فقط
وهو قول طائفة من السلف :
كما روينا من طريق حماد بن سلمة عن الحجاج بن أرطاة , وزياد الأعلم , قال الحجاج : عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي بن أبي طالب , وقال زياد الأعلم : عن الحسن , ثم اتفق علي , والحسن فيمن أوصى بثلث ماله , ثم قتل خطأ : أنه يدخل ثلث ديته في ثلثه , وإن كان استفاد مالا ولم يكن شعر به : دخل ثلثه في وصيته
وهو قول إبراهيم النخعي , والأوزاعي , وأبي حنيفة , وأصحابه وبه قال أبو ثور , وأحمد بن حنبل , وإسحاق , حاش الدية فلا تدخل وصيته فيها. وقال آخرون : لا تدخل وصيته إلا فيما علم من ماله , لا فيما لم يعلم به روي ذلك عن أبان بن عثمان , وعمر بن عبد العزيز ومكحول , ويحيى بن سعيد الأنصاري , وربيعة.
وقال مالك كذلك , إلا فيما رجاه ولم يعلم قدره , كربح مال ينتظره , أو غلة لا يدري مبلغها , فإن وصاياه تدخل فيها وما نعلم هذا التقسيم عن أحد قبله , ولا نعلم له حجة أصلا
وبرهان صحة قولنا : قول الله تعالى في آية المواريث : {من بعد وصية يوصي بها أو دين} فأوجب عز وجل الميراث في كل ما علم به من ماله أو لم يعلم , وأوجب الوصية والدين مقدمين كذلك على المواريث , فالمفرق بين ذلك مبطل بلا دليل , وإنما يبطل من الوصية ما قصد به ما نهى الله تعالى عنه فقط , وما نعلم لمخالفينا حجة أصلا وقد خالفوا في ذلك صاحبا لا يعرف له من الصحابة مخالف.
فإن قالوا : إن الرواية في ذلك عن علي لا تصح ; لأن فيها الحجاج , والحارث
قلنا : والرواية عن أبان بن عثمان لا تصح ; لأنها عن عبد الحكم بن عبد الله وهو ضعيف ، ولا تصح عن عمر بن عبد العزيز ; لأنها عن يزيد بن عياض وهو مذكور بالكذب ، ولا تصح عن مكحول ; لأنها عن مسلمة بن علي وهو ضعيف ، ولا عن ربيعة , ويحيى بن سعيد ; لأنها عمن لم يسم وبالله تعالى التوفيق.
1757- مسألة: ولا تجوز الوصية لميت ; لأن الميت لا يملك شيئا , فمن أوصى لحي ثم مات بطلت الوصية له. فإن أوصى لحي ولميت جاز نصفها للحي وبطل نصف الميت.
وكذلك لو أوصى لحيين ثم مات أحدهما جاز للحي في النصف وبطلت حصة الميت
وهو قول علي بن أبي طالب وغيره.
وقال مالك : إن كان علم الموصي بأن الذي أوصى له ميت فهو لورثة الميت , فإن كان لم يعلم فهو لورثة الموصي.
قال علي : هذا تقسيم فاسد بلا برهان .
فإن قيل : إذا أوصى له وهو ميت فإنما أراد أن يكون لورثته
قلنا : هذا باطل , ولو أراد الوصية لورثته لقدر على أن يقول ذلك , فتقويله ما لم يقل حكم بالظن , والحكم بالظن لا يحل.
1758 - مسألة: والوصية للذمي جائزة , ولا نعلم في هذا خلافا , وقد قال رسول الله ﷺ " في كل ذي كبد رطبة أجر.
1759 - مسألة: ولا تجوز الوصية بما لا ينفذ لمن أوصى له بها , أو فيما أوصى به ساعة موت الموصي : مثل أن يوصي بنفقة على إنسان مدة مسماة , أو بعتق عبد بعد أن يخدم فلانا مدة مسماة قلت أو كثرت , أو يحمل بستانه في المستأنف , أو بغلة داره , وما أشبه ذلك : فهذا كله باطل لا ينفذ منه شيء , وهذا مكان اختلف الناس فيه : فروينا من طريق ابن وهب عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب ، عن ابن شهاب : ، أنه قال فيمن أوصى لأخر بغنم حياته أنه جائز , ويكون للموصي له من الغنم ألبانها وأصوافها وأولادها مدة حياته ; لأنه يعمل فيها ويقوم عليها , وليس له أن يأكل منها إلا بقدر ما كان ربها يأكل من عروضها ,
وكذلك يصيب من أولادها ما يصيب من أمهاتها.
قال أبو محمد : وهذا قول ظاهر الخطأ , أول ذلك : أن جعل له أصوافها وألبانها وأولادها مدة حياته ; لأنه يقوم عليها فهذه إجارة إذا , والإجارة بمجهول على مدة مجهولة باطل لا يحل , وأكل مال بالباطل , وشرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل ثم لم يجعل له أن يأكل من أعيان الغنم إلا ما كان يأكل الموصي منها , وهذا في غاية البطلان ; لأنه مجهول , وقد كان يمكن أن يأكل منها الكثير في العام ويمكن أن لا يأكل منها شيئا ويمكن أن يأكل منها قليلا فهذا أيضا أكل مال بالباطل , وقد كان للموصي أن يبيعها ; ويهبها , ويبيع منها , فهلا جعل للموصى له أن يبيع منها , وأن يهب كما كان للموصي , وإلا فما الفرق بين الأستهلاك بالأكل وبين الأستهلاك بالبيع أو الهبة
قال علي : ويكفي من هذا أن الموصى له لا يخلو من أن يكون ملك الغنم التي أوصى له بها مدة حياته , أو لم يملكها , ولا سبيل إلى قسم ثالث : فإن كان ملكها فله أن يبيعها كلها أو ما شاء منها وأن يهبها كذلك , وأن يأكلها كذلك. وإن كان لم يملكها لم يحل له أكل شيء منها , ولا من أصوافها ، ولا من ألبانها وأولادها ; لأنها مال غيره وقد قال رسول الله ﷺ : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام. ولا شك بنص القرآن في أن ما يخلفه الميت مما لم يوصى به قطعا فهو ملك للورثة , وإذ هو ملكهم فلا يحل للموصي حكم في مال الورثة. وبالله تعالى التوفيق.
وروينا عن عبد الرزاق عن معمر فيمن أوصى لزيد بثلث ماله ولأخر بنفقته حتى يموت : أنه يوقف للموصى له بالنفقة نصف الثلث.
قال أبو محمد : وهذا خطأ لأنه قد لا يعيش إلا يوما أو أقل , وقد يعيش عشرات أعوام فهذا مجهول , فهو باطل لا يعرف بماذا أوصى له.
وروينا عن سفيان الثوري فيمن أوصى أن يكاتب عبده بألف درهم وقيمته ألف درهم أو أكثر فلم يوص له بشيء , فإن أوصى أن يكاتب بأقل من قيمته فإن ما نقص من قيمته وصية له.
قال علي : وهذا خطأ والوصية بالمكاتبة جملة باطل ; لأن العبد خارج بموت الموصي إلى ملك الورثة فوصيته بمكاتبة عبد الورثة باطل ; لأنه مال الورثة. وقال الأوزاعي فيمن له ثلاثة أولاد وعبد فأوصى بأن يخدم ذلك العبد واحدا من أولاده سماه وعينه سنة ثم العبد حر : فإنه يخدم أولاده كلهم سنة ثم هو حر.
قال علي : وهذا خطأ ; لأنه حكم بغير ما أوصى به الموصي , فلا هو أنفذ وصيته ، ولا هو أبطلها , ولا يخلو من أن تكون صحيحة أو فاسدة , فإن كانت صحيحة فقد أبطل الصحيح , وإن كانت فاسدة فقد أجاز الفاسد. فإن قال : جمعت فسادا وصحة فأجزت الصحيح وأبطلت الفاسد
قلنا له : بل أجزت الفاسد وهو عتقه ملك بنيه وعبدهم وقد قال رسول الله ﷺ : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ". وقال الليث بن سعد بجواز الوصية بكل ما ذكرنا : أنه لا يجوز وقال فيمن أوصى لأنسان بثلثه , ولأخر بالنفقة ما عاش : أن الثلث بينهما بنصفين.
قال أبو محمد : وهذا خطأ ; لأنه غير ما أوصى به الموصي. ولا يجوز أن يحال ما أوصى به الموصي إلى غير ما أوصى به إلا بنص , ولا نص بما قال الليث. وقال عثمان البتي فيمن أوصى لزيد بنفقة عشرة دراهم كل شهر , ولعمرو بمائة درهم كل شهر فإنهما يتحاصان , ويضرب بمائة للموصى له بمائة , ويضرب بعشرة للموصى له بعشرة فيعطى حصته , ويعطى الباقي الذي أوصى له بالمائة , فإذا كان في الشهر الثاني ضرب الموصى له بعشرة بعشرين , وضرب صاحب المائة بمائة , وحسب صاحب العشرة بعشرة , وحسب له ما أخذ في الشهر الأول ,
وكذلك يقسم بينهما كل شهر.
قال أبو محمد : وهذا كلام لا يعقل ، ولا يدرى منبعثه.
وقال أبو حنيفة فيمن أوصى بخدمة عبده فلانا سنة ثم يعتق ، ولا مال له غيره : فإنه يخدم الموصى له يوما والورثة يومين , فإذا مضت له ثلاث سنين هكذا أعتق.
قال أبو محمد : نرى أنه في قول أنه يسعى في ثلثي قيمته للورثة.
قال علي : وقوله هذا فاسد. قال : ومن أوصى لأخر بسكنى داره ، ولا مال له غيرها سكن الموصى له بثلث الدار وسكن الورثة بثلثيها , وليس له أن يؤاجرها , ولا أن يؤاجر العبد الموصى له بخدمته , ولا أن يخرجه عن ذلك البلد إلا أن يكون الموصى له في بلد آخر , فله أن يخرجه إلى بلده.
قال علي : وهذا في غاية الفساد ; لأنه خالف عهد الميت في الوصية بسكنى جميع الدار , فلم يجعل له إلا سكنى ثلثها فقط , وقيمة سكنى ثلث الدار أقل من ثلث الميت بلا شك ; لأن جميع الدار مال تخلفه , فإذ هذه الوصية عنده جائزة , فهلا أنفذ له جميعها لأنها أقل من الثلث بلا شك.
وأيضا : فلا فرق بين كون الموصى له في بلد آخر وبين رحيله إلى بلد آخر , فإن كان العبد للموصي فللموصى له التصرف فيما أوصى له به حيث شاء , وإن كان ليس هو للموصي فالوصية بخدمته باطل. قال أبو حنيفة : ومن أوصى بغلة بستانه لزيد وفيه غلة ظاهرة إذ مات الموصي فليس للموصى له إلا تلك الغلة بعينها فقط , فلو لم يكن فيها غلة إذ مات فله ثلثها أبدا ما عاش.
قال أبو محمد : وهذا باطل أيضا , وفرق بلا
برهان , وهلا جعلوا له أول غلة تظهر بعد موت الموصي فقط , ثم لا شيء له في المستأنف كما قالوا في الغلة الظاهرة.
فإن قالوا : حملنا ذلك على العموم
قلنا لهم : وهلا حملتم وصيته أيضا على العموم إذا مات وفي البستان غلة ولو أن عاكسا عكس قولهم فأعطاه غلة البستان أبدا إذا مات وفيه غلة ظاهرة , ولم يعطه إذا مات ، ولا غلة في البستان إلا أول غلة تظهر : ما كان بين الحكمين بالباطل فرق. قال أبو حنيفة : وإنما تجوز الوصية بسكنى الدار وخدمة العبد , إذا أوصى به لأنسان بعينه قال : فلو أوصى بذلك للفقراء , والمساكين : لم يجز ذلك.
قال علي : ليس في المصيبة أكثر من هذا أن يكون إن أوصى لكافر أو لفاسق : جاز , فإن أوصى لفقراء المسلمين لم يجز أف لهذا القول قال أبو حنيفة : ولو أوصى لزيد بالنفقة ما عاش فإن جوز الورثة ذلك وقف له جميع المال كله , وتحاص هو وسائر الموصى لهم , إلا أن يعين الموصى لهم أن ينفق عليه من الثلث , فيوقف له الثلث خاصة , ويحاص أيضا الموصى لهم. وقال أبو يوسف : يجعل له عمر مائة سنة , ثم يوقف له الثلث خاصة ما ينفق عليه فيما بقي له من مائة سنة , فإن عاش أكثر أعطي النفقة أيضا حتى يفرغ الثلث.
قال أبو محمد : وهذه وساوس لا تعقل , والأسعار تختلف اختلافا متباينا , فكيف يقدر على هذا الجنون. وأجاز أبو حنيفة أن يوصي لأنسان بخدمة عبد ما عاش , ولأخر برقبة ذلك العبد , ورأى النفقة , والكسوة على الذي أوصى له بالخدمة , ورأى ما وهب للعبد للذي له الرقبة.
قال علي : وهذا باطل أيضا , ومن أين أستحل أن يلزم الموصى له بالخدمة نفقة غير عبده وكسوته إن هذا لعجب. وقال محمد بن الحسين : من أوصى بعتق عبده بعد موته بشهر فمات ومضى شهر لم يعتق إلا بتجديد عتق لأنه لو جنى جناية قبل تمام الشهر كان للورثة أن يسلموه بجنايته.
قال علي : فإذ ملكه للورثة كما قال , فكيف يعتق عبدهم بغير رضاهم , وهذا كله لا خفاء بفساده.
وقال مالك : من أوصى بخدمة عبده , أو بغلة بستانه , أو بسكنى داره , أو بنفقته على إنسان فكل ذلك جائز , فلو أوصى بخدمة عبده ما عاش لزيد , وبرقبته لعمرو فهو جائز. قال : فلو أن الموصى له بخدمة العبد وهب لذلك العبد ما أوصى له به من خدمته , أو باعها منه : عتق العبد ساعتئذ , ولا مدخل للورثة في ذلك.
قال علي : وهذا خلاف أقواله المعهودة من أن الوصية إذا لم يقبلها الموصى له بها رجعت ميراثا وهذا تناقض من قوله. وهو أيضا خلاف ما أوصى به الموصي. وأطرف شيء قوله فإن أعتقه الورثة لم ينفذ عتقهم , فأبطل عتق مالكيه بإقراره , وأجاز عتقه بخلاف وصية الموصي بعتقه.
وقال مالك : للموصى له بخدمة العبد أو بسكنى الدار : أن يؤاجرها , قال : إلا أن يوصي بأن يخدم ابنه ما عاش , ثم هو حر فهذا لا يؤاجر ; لأنه قصد به قصد الحضانة
قال أبو محمد : وهذا تناقض وخلاف ما أوصى به الموصي من السكنى والخدمة. قال مالك : ولو أوصى له بخدمة عبده سنة وليس للموصي مال غيره , فالورثة بالخيار بين أن يسلموا له خدمة العبد سنة ثم يرجع إليهم , وبين أن يعطوه ثلث جميع ما تركه الموصي ملكا
قال علي : وهذا خلاف الوصية جهارا.
وقال مالك فيمن أوصي له بالنفقة ما عاش : حسب له عمر سبعين سنة , ووقف له ما ينفق عليه فيما بقي من عمره إلى تمام السبعين , فما فضل رد على سائر الوصايا أو على الورثة.
قال علي : وهذا خطأ فاحش : أول ذلك تخصيصه سبعين سنة. ثم قول : يوقف له ما ينفق عليه ما بقي من عمره إلى تمام سبعين , والأسعار تختلف اختلافا فاحشا. ثم النفقة أيضا شيء غير محدود ; لأنه يدخل في النفقة ما يستغنى عنه كالتوابل واللحم وغير ذلك. وكل هذه الأقوال فليس شيء منها عن قرآن ، ولا سنة , ولا رواية سقيمة , ولا قول أحد [ نعلمه ] قبلهم , ولا قياس ، ولا معقول , بل هي مخالفة لكل ذلك.
وقال الشافعي : تجوز الوصية بخدمة العبد , وبسكنى الدار , وبغلة البستان والأرض , وأجاز للموصى له بسكنى الدار أن يؤاجرها وهذا تبديل للوصية. وأجاز الوصية بخدمة عبد لزيد وبرقبته لعمرو. وقال فيمن أوصى لأنسان بخدمة عبده سنة ، ولا مال للموصي غير ذلك العبد : أنه يجوز من ذلك ما حمل الثلث فقط. وقال أبو ثور : بجواز كل ذلك , وأن للورثة بيع العبد , ويشترط على المشتري تمام الخدمة للموصي بها , وأن يخرجه الموصى له بخدمته إلى أي بلد شاء.
قال أبو محمد : فاتفق من ذكرنا على جواز الوصية بخدمة العبد , وغلة البستان , وسكنى الدار ووافقهم على ذلك سوار بن عبد الله , وعبيد الله بن الحسن العنبريان , وإسحاق بن راهويه. وقال ابن أبي ليلى , وأبو سليمان , وجميع أصحابنا : لا يجوز شيء من ذلك
قال علي : احتج من أجاز ذلك بأنه كما تجوز الإجارة في منافع كل ذلك فكذلك تجوز الوصية بمنافع كل ذلك وما نعلم لهم شيئا غير هذا , وهو قياس والقياس باطل , ثم هو أيضا حجة عليهم لا لهم ; لأن الإجارة إنما تجوز فيما ملك المؤاجر رقبته , لا فيما لا ملك له فيه , والدار , والعبد , والبستان متنقلة بموت المالك لها إلى ما أوصى فيه بكل ذلك , أو إلى ملك الورثة , لا بد من أحدهما. وهذا بإقرارهم منتقل إلى ملك الورثة ووصية المرء في ملك غيره باطل , لا تحل كما أن إجارته لملك غيره لا تحل , والإجارة إنما هي منافع حدثت في ملكه , والوصية هي في منافع تحدث في ملك غير الموصي , وهذا حرام.
قال أبو محمد : قال الله تعالى : {من بعد وصية يوصي بها أو دين} فلم يجعل عز وجل للورثة إلا ما فضل عن الدين والوصية. فصح بنص القرآن أن ما أوصى به الموصي فلم يقع قط عليه ملك الورثة لكن خرج بموت الموصي إلى الوصية بنص القرآن. وصح بنص القرآن أن ما ملكه الورثة فهو خارج عن الوصية , فثبت أنه لا وصية فيه للموصي أصلا.
وقال رسول الله ﷺ : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام. فصح يقينا أن ما ملكه الورثة فقط سقط عنه ملك الميت , وإذ لا ملك له عليه فوصاياه فيه بعتق أو بنفقة أو بغير ذلك باطل , مردود مفسوخ وبالله تعالى التوفيق.
1760 - مسألة: ومن أوصى بمتاع بيته لأم ولده , أو لغيرها , فإنما للموصى له بذلك ما المعهود أن يضاف إلى البيت من الفرش المبسوطة فيه , والمعلق , والفراش الذي يقعد عليه , والذي ينام عليه وبما يتغطى فيه , ويتوسده , والآنية التي يشرب فيها ويؤكل , والمائدة , والمسامير المسمرة فيه , والمناديل , والطست , والإبريق. ولا يدخل في ذلك ما لا يضاف إلى البيت من ثياب اللباس , والمرفوعة , والتخوت , ووطاء لا يستعمل في البيت , ودراهم ودنانير , وحلي , وخزانة , وغير ذلك ; لأنه إنما يستعمل في ذلك ما يفهم من لغة الموصي. وبالله تعالى نتأيد.
1761 - مسألة: ولا تحل وصية في معصية لا من مسلم ، ولا من كافر كمن أوصى ببنيان كنيسة أو نحو ذلك , لقول الله تعالى : {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}.
وقوله تعالى : {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} فمن تركهم ينفذون خلاف حكم الإسلام وهو قادر على منعهم فقد أعانهم على الإثم والعدوان.
1762 - مسألة: ووصية المرأة البكر ذات الأب , وذات الزوج البالغة , والثيب ذات الزوج : جائزة , كوصية الرجل , أحب الأب أو الزوج أو كرها. ولا معنى لأذنهما في ذلك لأن أمر الله تعالى بالوصية جاء عاما للمؤمنين , وهو يعم الرجال والنساء , ولم يخص عز وجل فيه أحدا من أحد وما كان ربك نسيا وما نعلم في ذلك خلافا من أحد وبالله تعالى التوفيق.
1763 - مسألة: ووصية المرء لعبده بمال مسمى أو بجزء من ماله : جائز , وكذلك لعبد وارثه , ولا يعتق عبد الموصي بذلك , ولوارث الموصي أن ينتزع من عبده نفسه ما أوصى له فلو أوصى لعبده برقبته , فالوصية باطل , ولا يعتق العبد بذلك ، ولا شيء له فلو أوصى لعبده بثلث ماله أعطي ثلث سائر ما يبقى من مال الموصي بعد إخراج العبد عن ماله , ولا يعتق بذلك. وقد اختلف الناس في هذا : فقال الحسن , وابن سيرين , وأبو حنيفة , ومالك , والشافعي : من أوصى لعبده بثلث ماله أعتق العبد من الثلث , فإن فضل من الثلث شيء أعطيه أيضا.
وكذلك إن أوصى له بجزء مشاع في ماله أقل من الثلث فيعتق , ويعطى ما فضل من ذلك الجزء. ثم اختلفوا إن لم يحمله الثلث فقال الحسن , وابن سيرين , وأبو حنيفة : يعتق منه ما حمل الثلث , ثم يعتق باقيه , ويستسعي في قيمة ما فضل منه عن الثلث.
وقال مالك , والشافعي : يعتق منه ما يحمل الثلث ويبقى سائره رقيقا.
وكذلك أيضا عند من ذكرنا إن أوصى له برقبته أو بنفسه : فلو أوصى له بشيء معين من ماله , أو بمكيل , أو موزون , أو معدود , فإن أبا حنيفة , وسفيان الثوري , وإسحاق بن راهويه قالوا : الوصية باطل ويشبه أن يكون هذا قول الشافعي.
وقال مالك : الوصية نافذة , وليس للوارث أن ينتزع ذلك. وقال الأوزاعي : الوصية للعبد باطلة بكل حال. وقال أبو ثور , وأبو سليمان كما قلنا.
قال أبو محمد : أما من جوز الوصية للمملوك برقبته فباطل ,
وكذلك من أجاز أن يوهب للمملوك نفسه , أو رقبته , أو يتصدق عليه بها , أو أن يملكها , وأوجب له العتق بذلك.
برهان ذلك : أنه لم يأت نص قرآن ، ولا سنة قط بأن المرء يملك رق نفسه , فإذ لم يأت بذلك قرآن ، ولا سنة , وهو في العقل ممنوع ; لأن الملك يقتضي مالكا ومملوكا وقد جاءت النصوص بإباحة فرج المملوكة , وبحسن الوصاة بما ملكنا
فصح أن المملوك غير المالك بيقين.
وأيضا فلو أن المملوك جاز أن يملك نفسه لكان حينئذ لا بد ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يعتق بملكه له نفسه
وأما أن لا يعتق بذلك.
فإن قالوا : يعتق ، ولا بد
قلنا : ومن أين قلتم هذا ، ولا نص في ذلك.
فإن قالوا : قياسا على من يعتق عليه من ذوي رحمه فهو أولى بذلك
قلنا : القياس كله باطل , ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ; لأنه لا خلاف في افتراق حكم المرء في نفسه , وحكمه في ذوي رحمه , وأنه يجوز له في نفسه ما لا يجوز له في ذوي رحمه , فللمرء أن يؤاجر نفسه للخدمة , وليس له أن يؤاجر ذا رحمه للخدمة فبطل هذا القياس الفاسد على كل حال. ثم لو وجب عتقه بذلك لكان بلا شك إذ ملك رق نفسه فقد سقط ملك سيده عنه جملة , وصار العبد هو المعتق لنفسه. وقد قال رسول الله ﷺ : إنما الولاء لمن أعتق. فبطل أن يكون الولاء في ذلك للسيد , ووجب أن يكون ولاؤه لنفسه لأنه هو الذي أعتق على نفسه , وهذا خلاف قولكم. وإن قلتم : لا يعتق بذلك لزمكم أن تجيزوا له أن يبيع نفسه , وأنتم لا تقولون بهذا فوضح تناقض قولكم وفساده بلا شك. وبالله تعالى التوفيق.
فإن قالوا : قد قال الله تعالى حاكيا عن موسى عليه الصلاة والسلام ومصوبا له أنه : قال {رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي}
قلنا : صدق الله عز وجل وصدق موسى عليه الصلاة والسلام وكذب من يحرف الكلم عن مواضعه إن موسى عليه الصلاة والسلام لم يعن قط بلا خلاف من أحد وبضرورة الحس ملك رق نفسه ورق أخيه عليهما السلام , ومن قال هذا فقد كفر وسخف وتوقح ما شاء , وإنما عنى بلا شك ، ولا خلاف : ملك التصرف في أمر ربه عز وجل وهذا حق لا ينكره ذو عقل , فمن أضعف قولا وأفحش جهلا ممن يحتج بآية في خلاف نصها ومعناها , إن هذا لامر عظيم نعوذ بالله من مثله. فإذ قد بطل أن يملك أحد رق نفسه فقد بطل تمليكه ذلك , وإذ بطل تمليكه ذلك فقد بطل أن يكون له حكم نافذ غير الإنكار والإبطال , وصح قولنا والحمد لله رب العالمين.
وأما إبطال الأوزاعي الوصية للعبد جملة فخطأ ظاهر ; لأن الله تعالى أمر بالوصية جملة ولم يخص العبد من الحر. قال تعالى : {من بعد وصية يوصي بها أو دين} فكل وصية جائزة إلا وصية منع منها نص قرآن أو سنة.
وقال رسول الله ﷺ : في كل ذي كبد رطبة أجر.
فإن قيل : العبد لا يملك
قلنا : بل يملك لأن الله تعالى أجاز للعبد النكاح , وأمر بإنكاح الإماء وكلف الناكح جملة النفقة والإسكان والصداق , ولا يكلف ذلك إلا مالك , وكل ذلك فرض على كل ناكح , قال تعالى: {فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن} فأمر تعالى بإعطاء الأمة مهرها فصح أنه لها ملك صحيح.
وقال تعالى : {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} وهذا نص ظاهر.
فصح أن ملك العبيد والإماء للمال وكونهم أغنياء وفقراء كالأحرار.
فإن ذكروا قول الله عز وجل : {عبدا مملوكا لا يقدر على شيء}.
قلنا : لم يقل الله تعالى : إن هذه صفة كل مملوك , إنما ذكر من هذه صفته من المماليك , وقد قال تعالى : {رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء} أفترون كل أبكم فواجب لا يملك المال أصلا , ولا فرق بين النصين
وبرهان صحة قولنا : أن الله تعالى لم يقل عبدا مملوكا لا يمكن أن يملك مالا , إنما قال : لا يقدر على شيء , والله تعالى لا يقول إلا الحق ونحن نرى العبيد يقدرون على أشياء كقدرة الأحرار , أو أكثر , فيقدرون على الصلاة , والصيام , والطهارة , والجماع , والحركة , وحمل الأثقال , والقتال , والغزو.
فصح أن الله تعالى لم يعن قط بتلك الآية : ملك المال , وإنما عنى عبدا لا يقدر على شيء لضعف جسمه جملة فبطل تمويههم وبالله تعالى التوفيق. ومن العجائب إبطالهم ملك العبد لشيء من الأموال , ثم ملكوه ما لا يملك وهو رقبته.
وأما إجازة أبي حنيفة الوصية للمملوك بالجزء المشاع في المال وإبطاله الوصية له بالشيء المعين , أو المكيل المعين , أو الموزون , أو المعدود : فخطأ , لا خفاء به , وفرق لا
برهان له أصلا , لا من قرآن , ولا من سنة , ولا رواية ساقطة , ولا قول صاحب , ولا تابع , ولا قياس , ولا رأي سديد. وقد علم كل ذي حس سليم : أن من أوصى لعبده بثلث ماله فإن الشيء الموصى به هو غير الإنسان الموصى له بذلك الشيء.
فصح يقينا أنه لم يوص له من رقبته بشيء وإنما أوصى له بجزء من ماله لا تدخل فيه رقبته.
وأما قول مالك : أن الوصية جائزة , وليس للوارث أن ينتزعه منه : فخطأ فاحش , وقول لا نعلم أحدا قاله قبله , وقول لا
برهان على صحته.
فإن قيل : إنه إذا انتزعه منه صارت الوصية للوارث
قلنا : هذا باطل , ما صارت قط وصية لوارث , لكن هي وصية لغير وارث , ثم أخذها الوارث بحوله , كما يجيز مالك : الوصية لزوج الأبنة الفقير الذي لا شيء له ثم تأخذه الوارثة في صداقها , وفي نفقتها , وكسوتها. وكما أجاز أيضا الوصية لغريم الوارث العديم , ثم يأخذه الوارث في دينه , فأي فرق بين الأمرين وبالله تعالى التوفيق.
محلى ابن حزم - المجلد الرابع/كتاب الوصايا |
كتاب الوصايا (مسأله 1751 - 1755) | كتاب الوصايا (مسأله 1756 - 1763) | كتاب الوصايا (مسأله 1764 - 1766) | كتاب الوصايا (مسأله 1767 - 1771) |