الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة العاشرة


كتاب الأضاحي

975 - مسألة: ولا تجزي في الأضاحي جذعة، ولا جذع أصلا لا من الضأن، ولا من غير الضأن ويجزي ما فوق الجذع، وما دون الجذع، والجذع من الضأن، والماعز، والظباء، والبقر: هو ما أتم عاما كاملا ودخل في الثاني من أعوامه، فلا يزال جذعا حتى يتم عامين ويدخل في الثالث فيكون ثنيا حينئذ. هكذا قال في الضأن والماعز الكسائي، والأصمعي، وأبو عبيد، وهؤلاء عدول أهل العلم في اللغة، وقاله ابن قتيبة وهو ثقة في دينه وعلمه. وقاله العدبس الكلابي، وأبو فقعس الأسدي، وهما ثقتان في اللغة. وقال ذلك في البقر والظباء أبو فقعس، ولا نعلم له مخالفا من أهل العلم باللغة. والجذع من الإبل ما أكمل أربع سنين ودخل في الخامسة، فهو جذع إلى أن يدخل السادسة فيكون ثنيا هذا ما لا خلاف فيه.

روينا من طريق وكيع نا سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن هبيرة بن يريم عن علي بن أبي طالب قال: إذا اشتريت أضحية فاستسمن فإن أكلت أكلت طيبا، وإن أطعمت أطعمت طيبا، واشتر ثنيا فصاعدا.

ومن طريق عبد الرزاق نا معمر عن أبي إسحاق السبيعي نا هبيرة بن يريم قال: قال علي بن أبي طالب: ضحوا بثني فصاعدا، وسليم العين والأذن.

ومن طريق عبد الرزاق نا سفيان الثوري عن جبلة بن سحيم سمعت ابن عمر يقول: ضحوا بثني فصاعدا، ولا تضحوا بأعور.

ومن طريق عبد الرزاق نا مالك عن نافع، عن ابن عمر قال: لا تجزي إلا الثنية فصاعدا.

ومن طريق سعيد بن منصور أنا هشيم أنا حصين، هو ابن عبد الرحمن قال: رأيت هلال بن يساف يضحي بجذع من الضأن فقلت: أتفعل هذا فقال: رأيت أبا هريرة يضحي بجذع من الضأن. فهذا حصين قد أنكر الجذع من الضأن في الأضحية.

ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري قال: يجزي ما دون الجذع من الإبل عن واحد في الأضحية.

ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا وكيع عن سفيان الثوري عن أبي معاذ عن الحسن قال: يجزي الحوار عن واحد يعني الأضحية والحوار هو ولد الناقة ساعة تلده. وبرهان صحة قولنا هذا ما رويناه من طريق مسلم نا يحيى بن يحيى أنا هشيم عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن البراء بن عازب فذكر الحديث وفيه أن خاله أبا بردة قال: يا رسول الله إن عندي عناق لبن، وهي خير من شاتي لحم قال: هي خير نسيكتيك، ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك.

ومن طريق شعبة عن زبيد بن الحارث اليامي عن الشعبي عن البراء: أن أبا بردة قال لرسول الله ﷺ: عندي جذعة خير من مسنتين قال: اذبحها ولن تجزي عن أحد بعدك. وهكذا رويناه من طريق عاصم الأحول عن الشعبي أن البراء حدثه بذلك.

ومن طريق أبي عوانة عن فراس عن الشعبي عن البراء أيضا.

ومن طريق شعبة عن سلمة بن كهيل عن أبي جحيفة عن البراء بن عازب فقطع عليه السلام أن لا تجزي جذعة عن أحد بعد أبي بردة، فلا يحل لأحد تخصيص نوع دون نوع بذلك ; ولو أن ما دون الجذعة لا يجزي لبينه رسول الله ﷺ المأمور بالبيان من ربه تعالى: {وما كان ربك نسيا}. وبالله تعالى التوفيق. فإن اعترض بعض المتعسفين فقال: إن حديث أبي بردة هذا قد رواه منصور بن المعتمر عن الشعبي عن البراء فقال فيه إن عندي عناقا جذعة فهل تجزي عني قال: نعم، ولن تجزي عن أحد بعدك.

قلنا: نعم، والعناق اسم يقع على الضانية كما يقع على الماعزة، ولا فرق. وقال العدبس الكلابي، وأبو فقعس الأسدي، وكلاهما مما نقل الأئمة عنهما اللغة: الجفر، والعناق، والجدي، من أولاد الماعز إذا بلغ أربعة أشهر، وكذلك من أولاد الضأن.

فإن قالوا: فإن مطرف بن طريف رواه عن الشعبي عن البراء فذكر فيه أن أبا بردة قال: يا رسول الله إن عندي داجنا جذعة من المعز، قال: اذبحها، ولا تصلح لغيرك.

قلنا: نعم، ولا خلاف في أن هذا كله خبر واحد عن قصة واحدة في موطن واحد، فرواية من روى عن البراء قول النبي ﷺ: لا تجزي جذعة عن أحد بعدك هي الزائدة ما لم يروه من لم يرو هذه اللفظة، وزيادة العدل خبر قائم بنفسه وحكم وارد لا يسع أحدا تركه. وإنما يحتج برواية مطرف هذا من لم يمنع من الجذع إلا من الماعز فقط، وأما من منع من الجذاع كلها مما عدا الضأن فلا حجة له في شيء من هذا الخبر، بل هو حجة عليه وبالله تعالى التوفيق. كما أن هذا الخبر نفسه قد رواه زكريا عن فراس عن الشعبي عن البراء: أن أبا بردة قال لرسول الله ﷺ: إن عندي شاة خير من شاتين قال: ضح بها فإنها خير نسيكة ولم يذكر أنها لا تجزي عن أحد بعدك.

وكذلك روايتنا من طريق سفيان بن عيينة عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك فذكر هذا الخبر نفسه، وأن ذلك القائل قال: يا رسول الله عندي جذعة هي أحب إلي من شاتي لحم أفأذبحها فرخص له. قال أنس: فلا أدري أبلغت رخصة من سواه أم لا فلم يجعل المخالفون سكوت زكريا عما زاده غيره من بيان أنه خصوص، ولا سكوت أنس عن ذلك أيضا ومغيب ذلك عنه حجة في رد الزيادة التي ذكرها غيرهما فما الذي جعل هذه الزيادة واجبا أخذها، وزيادة من زاد لفظة " الجذعة " لا يجب أخذها إن هذا لتحكم في الدين بالباطل، ونعوذ بالله من هذا.

قال أبو محمد: وقد جاء خبر يمكن أن يشغب به، وهو ما رويناه من طريق مسلم نصر بن علي الجهضمي نا يزيد بن زريع نا عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: لما كان ذلك اليوم قعد النبي ﷺ على بعيره وقال: أتدرون أي يوم هذا وذكر الحديث وفيه أنه عليه السلام قال: أليس بيوم النحر قالوا: بلى ثم ذكر الحديث وفيه ثم انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما وإلى جذيعة من الغنم فقسمها بيننا.

قال علي: ليس فيه أنه أعطاهم إياها ليضحوا بها، ولا أنهم ضحوا بها وإنما فيه أنه عليه السلام قسمها بينهم، والكذب لا يحل.

976- مسألة: قال علي: ذكرنا في أول كلامنا ههنا في الأضاحي أمر رسول الله ﷺ: من أراد أن يضحي أن لا يمس من شعره، ولا من أظفاره شيئا، ولم نذكر اعتراض المخالفين في ذلك بالنسيان فاستدركنا ههنا ما روي عن أم سلمة أم المؤمنين أنها أفتت بذلك. وحدثنا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا بكر بن حماد نا مسدد نا يزيد بن زريع نا سعيد بن أبي عروبة نا ابن أبي كثير هو يحيى أن يحيى بن يعمر كان يفتي بخراسان: أن الرجل إذا اشترى أضحية، ودخل العشر أن يكف عن شعره وأظفاره حتى يضحي. قال سعيد: قال قتادة: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال: نعم، فقلت: عمن يا أبا محمد قال: عن أصحاب رسول الله ﷺ. قال مسدد: وحدثنا المعتمر بن سليمان التيمي سمعت أبي يقول: كان ابن سيرين يكره إذا دخل العشر أن يأخذ الرجل من شعره حتى يكره أن يحلق الصبيان في العشر، وهو قول الشافعي، وأبي ثور، وأحمد، وإسحاق، وأبي سليمان، وهو قول الأوزاعي، وخالف ذلك أبو حنيفة، ومالك وما نعلم لهما حجة أصلا، إلا أن بعضهم ذكر ما روينا من طريق مالك عن عمارة بن عبد الله بن صياد عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يرى بأسا بالأطلاء في العشر، قالوا: وهو راوي هذا الخبر. وما روينا من طريق عكرمة أنه ذكر له هذا الخبر فقال: فهلا اجتنب النساء والطيب وما نعلم لهم غير هذا أصلا، وهذا كله لا شيء: أما الرواية عن سعيد أنه كان لا يرى بأسا بالأطلاء في العشر ; فالأحتجاج به باطل لوجوه:

أولها: أنه لا حجة في قول سعيد، وإنما الحجة التي ألزمناها الله تعالى فهي روايته ورواية غيره من الثقات.

وثانيها: أنه قد صح عن سعيد خلاف ذلك مما ذكرنا قبل وهو أولى بسعيد.

وثالثها: أنه قد يتأول سعيد في الأطلاء أنه بخلاف حكم سائر الشعر، وأن النهي إنما هو شعر الرأس فقط.

ورابعها: أن يقال لهم: كما قلتم لما روي عن سعيد خلاف هذا الحديث الذي روي دل على ضعف ذلك الحديث ; لأنه لا يدع ما روي إلا لما هو أقوى عنده منه ; فالأولى بكم أن تقولوا لما روى سعيد عن النبي ﷺ وعن أصحابه رضي الله عنهم خلاف ما روي عن سعيد: دل ذلك على ضعف تلك الرواية عن سعيد، إذ لا يجوز أن يفتي بخلاف ما روى فهذا اعتراض أولى من اعتراضكم. وخامسها: أنه قد يكون المراد بقول سعيد في الأطلاء في العشر إنما أراد عشر المحرم لا عشر ذي الحجة ; وإلا فمن أين لكم أنه أراد عشر ذي الحجة واسم العشر يطلق على عشر المحرم كما يطلق على عشر ذي الحجة وسادسها: أن نقول: لعل سعيدا رأى ذلك لمن لا يريد أن يضحي، فهذا صحيح، وأما قول عكرمة ففاسد، لأن الدين لا يؤخذ بقول عكرمة ورأيه، إنما هذا منه قياس والقياس كله باطل. ثم لو صح القياس لكان هذا منه عين الباطل، لأنه ليس إذا وجب أن لا يمس الشعر، والظفر، بالنص الوارد في ذلك يجب أن يجتنب النساء والطيب، كما أنه إذا وجب اجتناب الجماع والطيب، لم يجب بذلك اجتناب مس الشعر والظفر. فهذا الصائم فرض عليه اجتناب النساء، ولا يلزمه اجتناب الطيب، ولا مس الشعر، والظفر وكذلك المعتكف، وهذه المعتدة يحرم عليها الجماع والطيب، ولا يلزمها اجتناب قص الشعر والأظفار. فظهر حماقة قياسهم وقولهم في الدين بالباطل، وهذه فتيا صحت عن الصحابة رضي الله عنهم، ولا يعرف فيها مخالف منهم لهم، فخالفوا ذلك برأيهم. ورواه مالك مرسلا، فخالفوا المرسل والمسند وبالله تعالى التوفيق.