→ سئل عن عرض الأديان عند الموت | مجموع فتاوى ابن تيمية سئل هل جميع الخلق حتى الملائكة يموتون ابن تيمية |
فصل في مذهب سائر المسلمين في إثبات القيامة الكبرى ← |
سئل هل جميع الخلق حتى الملائكة يموتون
وسُئِلَ:
هَل جَمِيعُ الْخَلْقِ حَتَّى المَلاَئِكَةِ يَمُوتُونَ ؟
فأجاب:
الذي عليه أكثر الناس: أن جميع الخلق يموتون حتى الملائكة، وحتى عزرائيل ملك الموت، وروي في ذلك حديث مرفوع إلى النبي ﷺ. والمسلمون واليهود والنصارى متفقون على إمكان ذلك وقدرة الله عليه، وإنما يخالف في ذلك طوائف من المتفلسفة، أتباع أرسطو وأمثالهم، ومن دخل معهم من المنتسبين إلى الإسلام، أو اليهود، والنصارى، كأصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم ممن زعم أن الملائكة هي العقول والنفوس، وأنه لا يمكن موتها بحال، بل هي عندهم آلهة وأرباب لهذا العالم.
والقرآن وسائر الكتب تنطق بأن الملائكة عبيد مدبرون، كما قال سبحانه: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدا لله وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا} [1]، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [2]، وقال: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شيئا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} [3].
والله سبحانه قادر على أن يميتهم ثم يحييهم، كما هو قادر على إماتة البشر والجن ثم إحيائهم. وقد قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ} [4].
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ من غير وجه وعن غير واحد من الصحابة أنه قال: «إن الله إذا تكلم بالوحي أخذ الملائكة مثل الغَشْى»، وفي رواية: «إذا سمعت الملائكة كلامه صُعِقوا»، وفي رواية: «سمعت الملائكة كجَرِّ السلسلة على الصَّفْوَان فيصعقون فإذا فُزِّع عن قلوبهم» أي: أزيل الفزع عن قلوبهم «قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق. فينادون: الحق، الحق»، فقد أخبر في هذه الأحاديث الصحيحة أنهم يُصْعَقُون صَعْق الغشي، فإذا جاز عليهم صعق الغشى جاز صعق الموت، وهؤلاء المتفلسفة لا يجوزون لا هذا ولا هذا، وصعق الغشى هو مثل صعق موسى عليه السلام قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا} [5].
والقرآن قد أخبر بثلاث نفخات:
نفخة الفزع ذكرها في سورة النمل في قوله: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء الله} [6].
ونفخة الصعق والقيام ذكرهما في قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [7]
وأما الاستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين، فإن الجنة ليس فيها موت، ومتناول لغيرهم. ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله، فإن الله أطلق في كتابه.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إن الناس يُصْعَقُون يوم القيامة فأكون أول من يُفِيق فأجد موسى آخذا بساق العرش، فلا أدرى هل أفاق قبلي أم كان ممن استثناه الله؟». وهذه الصعقة قد قيل: إنها رابعة، وقيل: إنها من المذكورات في القرآن.
وبكل حال: النبي ﷺ قد توقف في موسى، وهل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه الله أم لا ؟ فإذا كان النبي ﷺ لم يخبر بكل من استثنى الله، لم يمكنا نحن أن نجزم بذلك، وصار هذا مثل العلم بوقت الساعة، وأعيان الأنبياء، وأمثال ذلك مما لم يخبر به، وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
هامش
- ↑ [النساء: 172]
- ↑ [الأنبياء: 26 28]
- ↑ [النجم: 62]
- ↑ [الروم: 27]
- ↑ [الأعراف: 143]
- ↑ [النمل: 87]
- ↑ [الزمر: 68]