مجلة المقتبس/العدد 60/النفس الانكليزية
→ غابات سورية | مجلة المقتبس - العدد 60 النفس الانكليزية [[مؤلف:|]] |
الأمة تحبو ← |
بتاريخ: 1 - 2 - 1911 |
لم تبلغ أمة من الدهاء ما بلغه الانكليز فيه وكأنه خلق استحكم فيهم مع الزمن وتوارثه الاخلاف عن الاسلاف وتسلسل فيهم حتى أتى بالعجائب ومن درس تاريخ هذه الأمة يراها تصبر وتصابر لأول وهلة وقلما طاش لها سهم فإذا رأت الفرصة وثبت ومتى انفسح لها المجال جالت.
تثبت هذه المقدمة من مسألتين تجلى فيهما دهاء الانكليز في التاريخ وهو أن الحروب الصليبية التي دامت في سورية نحو قرنين وأهرقت فيها الدماء سيولاً لم تنته وترجع دول النصرانية عن حرب دولة الإسلام إلا بتدخل ريشاردس قلب الأسد صاحب انكلترا إذ ذاك في الأمر فعرض سراً أن يزوج أخته من أبي بكر بن أيوب شقيق الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب ولو رضي القوس لما تأخر صاحب انكلترا عن إجراء هذا العقد فانظر إلى دهاء هذا الرجل وهو في القرون الوسطى وفي صدد حرب دينية كيف يتسامح بزواج أخته من غير ابن نحلته حرصاً على مصلحته، قال أبو الفدا في حوادث سنة سبع وثمانين وخمسمائة: تراسل الفرنج والسلطان في الصلح على أن يتزوج الملك العادل أخو السلطان بأخت ملك الانكتار ويكون للملك العادل القدس ولامرأته عكا فحضر القسيسون وأنكروا عليها ذلك إلا أن ينتصر الملك العادل فلم يتفق بينهم حال.
هذا هو الباب الأول الذي طرقه ملك الانكليز فلم يفلح لتعصب قومه وكان قد رأى أن ملك الألمان جاء عن طريق الاستانة براً إلى فلسطين في مئة ألف من رجاله فهلك معظمهم في بلاد الأرمن ولم يصل منهم على ما قال المؤرخون سوى ألف نسمة حتى أن ملكهم هلك غرقاً في نهر في الأناضول كان انغمس فيه ليستحم فأيقن ريشاردس أن أمر هذه الفتن يطول وأن الغنيمة التي دعا إليها بطرس الراهب أي استخلاص بيت المقدس من أيدي المسلمين لا توازي هذا القدر من العناء فطرق باباً ثانياً فجاء بعد أن شاهد جبل الصليبيين قد اضطرب وطلب الصلح بعد أن يئست الرسل في عقده وعجل بمخابرة صلاح الدين في معنى الصلح فبعث في إحدى تلك السفارات يقول لصلاح الدين لا يجوز لك أن تهلك المسلمين كلهم ولا يجوز لي أن أهلك الفرنج كلهم قال القاضي ابن شداد بعد أن ذكر ما عرضه ملكهم من شروط الصلح العجيبة: فانظر إلى هذه الصناعة في استخلاص الغرض باللين تارة وبالخشونة أخرى وكان مضطراً إلى الرواح وهذا عمله مع اضطراره والله المسؤول في أن يكفي المسلمين مكره فما بلوا بأعظم حيلة ولا أشد إقداماً منه، ولقد كان ملك انكلترا صادق جماعة من مماليك صلاح الدين ودخل معهم دخولا عظيماً بحيث كانوا يجتمعون به في أوقات متعددة وكان في كل هذا يخلط الجد بالهزل حتى يتوصل إلى مأربه ألا وهو استرجاع بيت المقدس الذي استخلصه صلاح الدين منهم.
ثم تذرع ذاك الداهية إلى إنقاذ أهل نحلته من شر الفتنة كان المسلمون قد ضاقوا ذرعاً بمدافعتهم وزحزحتهم عن تلك الديار فبادر صاحب انكلترا إلى عقد الصلح سنة 588هـ - وسبب ذلك كما قال أبو الفدا أن ملك الانكليز مرض وطال عليه البيكار فكاتب الملك العادل يسأله الدخول على السلطان في الصلح فلم يجبهم السلطان إلى ذلك ثم اتفق رأي الأمراء على ذلك لطول البيطار وضجر العسكر ونفدت نفقاتهم فأجاب السلطان إلى ذلك واستقر أمر الهدنة ولم يحلف ملك الانكتار بل أخذوا يده وعاهدوه واعتذر بأن الملوك لا يحلفون وقنع السلطان بذلك وحلف الكندهري ابن أخيه وخليفته في الساحل وكذلك حلف غيره من عظماء الفرنج ووصل ابن الهنفري باليان إلى خدمة السلطان ومعهما جماعة من المقدمين وأخذوا يد السلطان على الصلح واستحلفوا الملك العادل أخا السلطان والملك الأفضل والظاهر ابني السلطان والملك المنصور صاحب حماة محمد بن تقي الدين عمر والملك المجاهد شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص والملك الأمجد بهرام شاء ابن فرخشاه صاحب بعلبك والأمير بدر الدين بلدرم الياروقي صاحب تل باشر والأمير سابق الدين عثمان بن الداية صاحب شيزر والأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وغيرهم من المقدمين الكبار.
هذه هي المسألة الأولى التي تجلى فيها الدهاء الانكليزي في أجلى مظاهره والمسألة الثانية وهي أحدث من الأولى عهداً ولكن يتخللها مئات من المسائل كلها سلسلة دهاء هي مسألة الاستعمار فإن الانكليز لم تفتح أمامهم مصارف جديدة للتجارة إلا لما اكتشف خريستوف كولمبس أميركا ولقد تقدمت البرتقال غيرها من الدول لاستعمار الأرض وتلتها اسبانيا ثم هولندة وقد بلغت هذه الدولات الثلاث أوج مجدهن الاستعماري في النصف الثاني من القرن السادس عشر أيام كانت انكلترا لم تظهر بعد على ملعب الاستعمار ثم جاءت فرنسا فانكلترا ولكن هذه الدولة بزت الدول الأربع الأول. وأثبتت أنها دولة بحرية عظمى في صلح اوترخت سنة 1713 وتطمح إلى الاستيلاء على البحار ولكن هذا الدهاء في تأخر الانكليز عن دخول معمعان الاستعمار قد هيأ لانكلترا الاستئثار بالاتجار مع أميركا. وانكلترا أقرب الدول إلى العالم الجديد وشطوطها وهي تمتد على مسافة 7900 كيلومتر أي ضعفي شطوط فرنسا وأكثر الدول البحرية الأربع قرباً إلى شطوط بحر الظلمات من سيفه الآخر فقبل سنة 1600 ميلادية لم يكن لانكلترا مستعمرات خارج أوربا وبالدهاء السياسي افتتحت انكلترا الجديدة وفيرجينيا وأخذ شارلس الثاني سنة 1661 مملكة الهند وكانت سبب غنى انكلترا وعظمتها هيأ أخذها أناس من تجار الانكليز دخلوا مع الهنود دخول السل في جسم العليل وكان من أمرهم ما كان.
وهكذا لو تقصينا التاريخ لشاهدنا أمثلة كثيرة في الدهاء الانكليزي الذي لا يشبهه دهاء في الأمم وأيقنا أن الثبات والصبر والتأني والسكون الذي خص به هذا العنصر هو الذي كان سبب نجاحه في أعماله فاشتهرت بجودتها على قلتها وندرتها وسياسته اشتهرت بحذقها على جفائها والتاريخ أعظم ترجم عن الأمراء والأمم وبه تكشف حقائق البشر وخصائص الشعوب.
ولهذا الدهاء والتأني والصبر أسباب طبيعية وصنعية في انكلترا بحث فيها علماء الاجتماع8 والنفس فما قاله اميل بوتمي من كبار علماء فرنسا أن القوى الطبيعية هي من جملة الأسباب التي تؤثر في تربية الشعب وهذه القوى هي صورة الأرض الظاهرة وجبالها وأنهارها وبرها وبحرها وقسوة مناخها أو لطافته ووفرة ثمارها الأرضية أو ندرتها. فإن تأثيرها قديم كالإنسان ولا سبيل إلى أن نجد في التاريخ دوراً لم تؤثر هذه الحالات في البشر وإذا كان عرض للإنسان قلب وإبدال فذلك ناشئ من مجموع أسباب وهذه الأسباب هي التي سماها تين العالم الفرنسوي (المحيط) أو البيئة والعادات والقوانين المزبورة على الحجر والمذاهب الدينية والأشعار القصصية وغيرها كانت لأول الأمر نتيجة المحيط الطبيعي فأصبحت مع الزمن ذات تماسك وحياة خاصة وصارت تولد بذاتها شعوراً وتتسرب إلى الأسباب الطبيعية العظمى ولكن هذه الأسباب الرئيسة ما برحت تغشى هذه الجمعية البشرية التي كانت هي الباعثة إليها ولها اليوم تأثير كبير حتى أنها لتأتي على الأخلاق الراسخة والمواهب الإرثية فتغيرها وتفعل فيها ما فعلته في أهل الأجيال الأولى.
انكلترا من بلاد الشمال ولها بين بلاد الشمال مركز امتازت به فليس لإقليمها ما يعادله بين الأقاليم لأنها تتمتع بمناخ يكاد لا يختلف طوره فلا ترى في الشتاء تبدلاً في الهواء من شمالي انكلترا إلى جنوبيها على مسافة تسعمائة كيلو متر فيستطيع سكان بريطانيا أن يتنقلوا من ناحية إلى أخرى بدون أن تتأثر أجسامهم من هذا التنقل وتختلف انكلترا عن سائر بلاد الشمال بتعرج شطوطها وخصب تربتها في حين يضعف الهواء المرء في أواسط بلاد روسيا أو في شمالي بروسيا فيكتفي الروسي بما حضر لديه من حاجاته ولذلك يقل فيه فكر الإقدام على الأعمال أما الطبيعة في بلاد الانكليز فتنادي ساكنها بقولها إنك يا هذا تهلك إذا تراخيت وتستمتع إذا جددت. فالهواء في بلاد الانكليز رطب ولكنه صحي وثقيل بحيث يكاد يصعب استنشاقه أحياناً والجسم يهزل فيه إذا لم يتغلب عليه بحركات كثيرة. وإن انكلترا لتطفح بطوال القامات ضخام الأجسام أشداء البنية وفيها من المعمرين الشيوخ أكثر من كل بلد من بلاد أوربا والأرض الانكليزية بما تترطب به من الضباب أو يغمرها من هطول الأمطار تحتاج على الدوام إلى التجفيف بالقساطر حتى لا تغدو بطائح أو غابات وهي بفضل تعهدها خصبة ممرعة. ومناخ انكلترا يحتاج إلى الغذاء الكثير ولاسيما اللحوم وأرضها مستعدة كل الاستعداد لتربية المائية والبحر بما ضم بطنه من الأسماك يدخل في مضايق إلى أرض بريطانيا العظمى فيصبح الصيد على طرف الثمام.
وبالنظر لرطوبة الهواء على الدوام واصفرار الشمس بما يداهمها من الضباب الذي ينخل أشعة الشمس نخلا لا تزال الظلمة سائدة شطرا من النهار يضطر معه ابن تلك البلاد أن يحسن لباسه ومنامه ودفئه ويبحث عن الأعمال التي تحتاج إلى كدح وكد فهو في حاجة إلى جوخ لثيابه وإلى جدان غليظة لمسكنه فتراه يصرف حزما منهما من وقته في النسيج والتقطير واستخراج الفحم أو تراب النفط للوقيد خلافا لابن جنوبي أوربا فإنه لا يحتاج إلى مثل تلك العدة ليعيش والانكليزي إذا لم يجد عامة حاجاته في أرضها يجلبها من الخارج بواسطة المقايضة مع ما ضمته أحشاء بلاده من المعادن والمناجم ويسهل عليه تناول ذلك بما له من وسائل النقل السريعة الرخيصة الأجور.
ولذا كانت الطبيعة الخارجية للأمة الانكليزية مدرسة إبداع ونشاط وحذر وتدبر فنشأت هذه الفضائل من أسباب جلب المصالح درء المضار وكانت من كماليات الأخلاق في هذا الجنس ودعا الجهاد للحياة وهو هنا أصعب منه في كل بقعة إلى أن ينسلخ عنه بالانتخاب الطبيعي كل من لم يرزقوا هذه الصفات اللازمة كالمرضى والجامدين والجبناء والعطلين ولم يبق من هذا العنصر غير الأقوياء أهل الدراية العاملين وتأصل ذوق العمل بنشاط دائم فعال في النفوس حتى صار كأنه ارثي فيها.
قالوا إن الشعب الانكليزي شعب انتفاعي وهذا يصدق على كثير من الشعوب ولكن العامل الأكبر اليوم في هذه الأمة الهوى في العمل للعمل والميل إليه حبا به. وما الحياة السياسية في انكلترا إلا ناشئة من الميل إلى تمرين القوة والبذل منها بطائل وبدون طائل ومن يجتاز البلاد الانكليزية يشعر بحاجة الأمة إلى هذا التمرين وإلى هذا الصرف من القوة بما يراه من الحركة على السيارات واشتغال قوم بالألعاب الشاقة فيوقن بأن الرياضات البدنية الشديدة ليست في انكلترا مدعاة للتسلية بل هي ضرورية لدفع حاجة طبيعية لا تقل في مسيس الحاجة إليها عن الجوع والعطش.
وكل من زار لندرا يشهد الرجال من الانكليز يركضون في الشوارع عدوا كأنهم في سبيل مهم جداً يوشك أن يذهب إذا أبطئوا عليه فيركضون نحوه بدون أن ينظروا ذات اليمين وذات الشمال للتخلية والتسلية فهم لا يضعون نصب أعينهم غير الغاية العملية التي هي هدفهم ومنتجعهم حتى إذا وصل العامل إلى مكتبه أو عمله ينصرف إليه بجملته ولا يدخل فيه غيره ولا يلتفت إلى ما يصده أو يخطر بباله في غير ما هون بسبيله فتراه لا ينقطع دقيقة عما هو مأخوذ به ولا يني في مهمته ولذلك كانت أجرة العامل الانكليزي أرقى من أجور عملة الأمم الأخرى لأنه لا يلهيه شيء أثناء العمل ويعمل نحو ضعف ما يعمله الايرلاندي أو الألماني مثلا. وهذا المزاج الخاص يولد في جميع الفروع عملا مدهشا.
وإنك لترى نساء الانكليز لا يستنكفون من عمل يتعاطينه لتكون لحياتهن غاية فينصرفن إلى تأسيس جمعيات الإحسان ويخدمن في المستشفيات ويعملن أعمالاً قد تعدها بعض الأمم المتمدنة من الأعمال الوضيعة ولكنها تكون لخدمة الإنسانية ولذا دخل خمسون ألف امرأة في الحزب الحر في انكلترا وشاركن الرجال ومنهن المطالبات بحقوق الانتخاب والمؤمنون من الانكليز بالدين لا يؤمنون به وينصرفون عن كل شيء بل يعملون باسمين ويجتهدون في الحياة لا يصدهم ما أخذوا أنفسهم به من الغابة عن النظر في دنياهم.
وبعد فإن الذوق واعتياد العمل يجب أن ينظر إليهما كأنهما خاصة جوهرية وصفة لازمة اختيارية لهذا الجنس فهما يصحبان الانكليزي حيث يذهب تشفعهما الأسباب المكتومة من نياته وهما مفتاح أسبابه وأن الدواعي التي أدخلت ضرورة العمل في هذه الجنس قد أضاعت اليوم من شأنها وذلك لأن كثرة الغنى العقلي والمادي قد زاد عدد الأغنياء وأضعف على التدريج في جزء من سواد الأمة الانكليزية الغريزة الإرثية التي بها يعترف الإنسان بقانون العمل ويقبل به. فأصبح الكسالى والضعاف في هذا المحيط الجديد أكثر حظاً في البقاء فتألف منهم عنصر خاص تحرص حكومته على جلب المنافع إليه وأهل السعة من الانكليز يبذلون الفضل من أموالهم له وكل هذا على الجملة لا يضر الصفات التي ورثها الانكليز وتأصلت فيهم مدة قرون.
للإقليم في انكلترا تأثير مهم في الشعور والمدارك فهي البلاد التي يجف هواؤها وتكثر كهربائيتها التي تقوي الألياف وتمتن الأنسجة ويكون الإحساس في أهلها أسرع.
ومثل الحس يكون التصور الطبيعي أي حاسة تمثل المحسوسات فإنها في الانكليزي تتأخر ولذلك نرى الأعمال الجراحية تكون أقرب إلى النجاح في الانكليزي منها في الايطالي مثلا لأن الأول قلما يضطرب كالثاني. وقد شاهد خصوم الانكليز من عسكرهم في حروب اسبانيا وواترلو وانكرمان عجبا إذ لم يكونوا يتأثرون للأعضاء تبتر والقذائف تنفجر والعظم بكسر وحشرجة الأرواح تتصاعد.
إن أرض انكلترا على ما خصت به من العبوسة والأمطار الغزيرة والضباب المتواصل والطبيعة الساكنة قد أثرت في نفوس بنيها حتى لم يجدوا في الوجود ما يشغلهم ولذا شغلوا بخاصة أنفسهم وقل كلامهم كما قل شعورهم بما يأتيه من خارج والكلام كالشعور والفكر يرتقي ويصفو بالرفاهية وخضال العيش وهو أثر من آثار الثروة العامة والفراغ. ولقد وصف الفيلسوف تين الشعب البريطاني بقوله من السرور الذي يشفعه السكوت وهو من أعظم ما تطمح إليه نفس كل انكليزي أن يجاهد في أمر ويتحمل المشاق ولا يتنازل عما نوى. وقد أعرب شاعرهم تنسون عن مثل هذا الفكر شعرا جاء معناه: ما أعظم على النفوس أن تقف دون غاية وتجعل لقواها حدا وأن تصدأ كالسيف يعلق على الحائط بدلا من أن يلمع في يد حامله ويصفو بالاستعمال. ليس استنشاق الهواء هو الحياة بل إننا إذا فقدنا كثيرا فقد بقي علينا كثير فما كنا عليه ما برحنا فيه: قلوب أبطال شأنها التساوي بأنفسها أصبحت على الزمن وبيد القدر نهب الضعف ولكنها مسلحة بإرادة شديدة في مضائها وبحثها وإيجادها وأن لا تلين قناتها أبداً.
تقل في العنصر الانكليزي على الجملة الكفاءة لتصور الأفكار العامة ويكره النظريات المجردة كما يكره المذاهب المقررة فليس للانكليزي شيء من المجردات يشغله بل تراه على الدوام مأخوذا بضرورة العمل أليس معنى هذا أن حاسة العموميات ضعيف تركيبها في انكلترا بل أن العقل عملي لا يقبل إلا ما يلزمه وينفعه يعرف كيف يضبط نفسه ويحدد حدوده حتى إذا سار بنفسه سار سيرا نافعا لا سيرا نكرا فعقله لا يشبه قائده في جيش يفكر في وضع خطط الهجوم والقتال بل عقله يشبه ضابطا يقود بعيدا عن معمعان الحرب قسما من الجند الاحتياطي المساعد فلا ترى في هذا الضابط قابلية لأن يكون في الطليعة ولكنه يجيد في اتخاذ مركز له في النقط التي تجاوزها الجيش المهاجم وينظم فيها المقاومة
لا شيء يقع على عقل الانكليزي من الغرابة أكثر من إنكاره القوة الطبيعية والنظريات في الإلهيات والمعقولات بل يرى أن أجنحة الفكر لم تبرح في نمو ولذلك لم تستعد للطيران مسافات طويلة بل هي تساعده فقط على السير فإذا ارتفع هنيهة وحلق في الجو فذلك ليعود إلى الأرض بعد مدة قليلة وهذا ما دعاه يفكر في الأمور القريبة التي أكثر ما تكون مساسا به مباشرة وله من مشاغله في تحصيل ثروته وتحسين زراعته ما يصده عن الحق ولا يفرغ ذهنه إلى النظر إلى الأشباح الفارغة فهي بعيدة من الأرض جدا غريبة عن الحياة الدنيا غير ملتئمة مع شروطها وضرورياتها ولذا ترى الانكليزي في مسائل الدين لا يتعدى أفق العالم المدقق بأحوال الأنفس والأخلاقي الذي يبحث في المرئيات وليس هو صوفيا أو منكرا ولا موحدا وهو لا ينظر إلى القواعد الموضوعة والألفاظ بل ينظر إلى الغاية من التدين أكثر من الواسطة وهكذا هو في السياسة فلا تقوم حريته فقط على الدستور الذي يمنح الحرية على التقاليد الموروثة التي تحمي حمى الحرية القديمة المتأصلة فيه.
من غريب حال الانكليز أن كثيرين من حملة العلم فيهم لم يتعلموا العلوم اللازمة للإلمام بالتربية العامة فهم أخصائيون لا تشوبهم شائبة وأن من يحاول في انكلترا أن يحدث علمائهم في العلم المجرد لا يجد من يستمع لكلامه فالعالم الطبيعي عندهم هو الذي يعرف كيف يصنع نموذجا ميكانيكيا يطبق فيه العلم على العمل فقط حتى إنك لا ترى في كتبهم في الكهربائية إلا حبالا مرسومة تعلق وتمتد ومواسير يقطر منها ماء وغيرها ينتفخ وآخر ينقبض وهكذا انكلترا في صناعاتها فلا يصدر منها إلا ما يقع تحت حسها ولا تقص في قصصها إلا ما يماثل حالتها الطبيعية وكذلك تاريخها ورواياتها التشخيصية وفلسفتها فإن فلسفة اوغست كونت الحية ومخترعها فرنسوي وجدت لها أعواناً في انكلترا أكثر مما وجدت في فرنسا لأنها صادفت هوى في أفئدة القوم.
فهذا هو الشعب الذي قدر له أن ينشر البرتستانتية بثباته ويخرج من الكنيسة والكثلكة إذ كانت دين سلطة قادرة روحية تقنن وتحظر وتعاقب والناس معها مكرهون على القيام بتعاليمها أما المذهب البرتستنتي فهو دين الحكومة الذاتية الوجداني فالأول موجد النظام والقاعدة والآخر محافظ النشاط ومبدعه وهذا هو الدين الذي يناسب أمة خلقت لتعمل.
إن تأخر سن البلوغ في شبان الانكليز وعفة النساء الانكليزيات وتعدد الأسر والبيوت كل ذلك من أخلاق الانكليزي الحديث كما كان قديما من خصائص أخلاق الجرمانيين سكان انكلترا الأصليين. وامتازت الأمة الانكليزية من بين الأمم بأنها ظلت متجانسة ولم تمتزج بغيرها فالانكليز وهم أهم عنصر تتألف منه انكلترا هم جرمانيون من بلاد الشمال ومن أجداد الجرمانيين انكليز وجوت وسكسونيون وكلهم من عنصر ألماني والذين جاؤوا بعد لاستيطان انكلترا مثل الدانيماركيين والنورمانديين هم فروع تشعبت من نفس تلك الدوحة
وإن ما يرى من شدة بأس الانكليز وقوة عضلاتهم يذكرنا بما قاله اميرسون فيلسوف اميركا (قالت الطبيعة: قد أفنى الزمان الرومانيين ومحا اسمهم من سجل الوجود وإني أريد أن أؤسس مملكة جديدة وسأختار عنصرا شديد الشكيمة كلهم ذكور ولكنهم بأجمعهم ذوو قوة وحشية فمن ثم لا أعارض فيما أرى من المنافسة بين الذكور القساة المتبربرين الا فليدخل الجاموس قرنه في رأس الجاموس الآخر فيبقى المرعى لأكثرها قوة فأنا لي عمل أريد إتمامه يحتاج إلى إرادة وعضلات). وهؤلاء هم الانكليز الذين لا يمتزجون خارج بلادهم بغيرهم من الأمم ولكنهم في أرضهم أكثر الأمم حرية وأكثرها إكراماً وأيسرهم لقبول الغرباء ليست انكلترا جزيرة بل هي قارة فما من أمة اشتبهت في أفكار ومنازع تأتيها من أوربا نفسها سوى انكلترا ولطالما اقتدت بالبلاد الأخرى ولكن كان اقتداء موقتاً كأنه للتسلية أو هو سطحي كأنه زي من الأزياء أما سواد الشعب فلم يمس بشيء في منازغه بل ظل مخلصا لأخلاقه الأولية وبالجملة فقد كانت دواعي الاختلاط قليلة جداً بين الانكليز وغيرهم ولاسيما عامة الأمة فالانكليزي أشبه بساكن الولايات في أوربا وفكره كالشراب بقي زمنا في مأمن من الاهتزاز فخثر وكثف ولم تعد له تلك الميوعة التي تؤهله إلى الاختلاط بشراب آخر.
وكان لهذه الصيغة الخاصة وقلة الرقة في الأخلاق الانكليزية نتيجة مهمة شوهدت في كيفية الاستعمار البريطاني ونتائجه. فما قط تمازج العنصر الانكليزي بغيره من العناصر في البلاد التي أخضعها لسلطانه فهو كالمعدن البعيد جداً عن نقطة التذويب فلا يتأتى أن يجعل منه أدنى مزج وما قط ساووا بأنفسهم تلك الشعوب التي افتتحوا بلادها وما تلطفوا في استمالة قلوبهم فلم يعرفوا إلا أن يظلموهم ويستنزفوا مادتهم ويدوسوهم أو يفنوهم.
أبان الانكليز أيضا عن عدم كفاءة في فهم مناحي العناصر المنحطة وأن يتقربوا إليها ليأخذوا بأيديها ويقوموا ناهضين وإياها بما عاملوا به ايرلندا من المعاملة السوأى ومثل ذلك يتجلى في إدارتهم الهند ومصر. فالانكليز يأتون تلك الشعوب بثروة مادية ونظام وأمن وغنى فترى سلطتهم في بلاد الهند مثلا على أحسن طريقة ونظام مدقق قوامه الحشمة والأدب وهم فيها بعد قرن من الزمن لم يخرجوا عن كونهم أناساً جفاة لا يألفون ولا يؤلفون وكلما طال العهد عليهم تراهم في أرضها غرباء والأصوات تعلو للخلاص من ربقتهم. وإن يوماً يغادرون فيه البلاد المستعبدة لعزيز على نفوس أهليها ولو ذهبت بذهابهم الرفاهية والسلام.
فحكم الانكليزي منهك لقوى العناصر المنحطة وهو استبدادي وكثيراً ما يكون قتالاً في البلاد التي يكون فيها للأهلين مجال معهم ولا يدانوهم بنشاطهم وإراداتهم لأن هؤلاء الفاتحين لم يرزقوا حظاً من تليين وصابتهم وتطبيقها على الصغار والضعاف بل لا يتمثلون ولا يعنون بغير إخوانهم والمساوين لهم.
نعم الانكليزي أكثر الأمم إغراقاً في الابتعاد عن الناس والعزوف عن مجتمعاتهم فهو يشعر بأنه أقل من غيره علاقة بالمجتمع البشري وقلما يقتبس من صلاته مع غيره شيئاً يستفيد به في تركيب أخلاقه وقلما يبحث عما يفكرون به وإذا بحث فبحثه مجرد لا يدخل نتيجة في عواطفه وأعماله هو ناسك بعيد عن العالم وعن غيره من الأمم بل هو بعيد عن جاره الذي يساكنه في حي واحد والمحيط الذي يعيش فيه وما يشعر فيه بنفسه قلما يكون نسخة بسيطة مما يراه في الخارج فخلقه هو مثل ثمرة كبرت تحت القشرة في نوع من الصدف فهو لا يثمر كقشرة الخوخة وما يمر عليها من مجرى الشمس لا يزيدها اصفراراً ولا احمراراً.
الانكليزي لا يشعر بأقل ضجر من العيش وحده ولا يجد حاجة أن يقص ما عمله على غيره ولا يسوقه سائق نفسي أن يقف على ما يعمله غيره فهو فيما خلا الشؤون التي تمسه مباشرة لا يهتم إلا بما له علاقة بالمسائل الوطنية العامة التي تمسه ولكن لا مباشرة بل من طريق وطنيته، يقول إميرسون: إنك تحسب الانكليزي إذا اجتمع مع الأجانب أخرس فهو لا يصافحك ولا يتركك تنظر ما في عينيه في الفندق ويلفظ اسمه بحيث لا يسمع فكل واحد من هؤلاء الجزائريين جزيرة بعينها ويقول مونتسكيو: يصعب على الفرنسيس أن يكون لهم أحباب في انكلترا وكيف يحب الانكليز الغرباء عنهم وهم لا يحبون أنفسهم وانى يعطوننا ما نأكل وهم لا يتواكلون، يجب أن نجري على خطتهم فلا نهتم بأحد ولا نحب أحداً ولا نعتمد على أحد.
ومن الغريب أن هذه الأمة العازفة عن العشرة البعيدة عن الاختلاط تراها في أمورها الداخلية من أكثر الأمم ميلاً إلى الاشتراك وما حديث أنديتها ومجامعها وشركاتها المالية بخاف عن أحد، وقد شرح فولني العالم الفرنسوي سر نجاح الانكليز في الزراعة والتجارة والصناعة بقوله: إنهم بالسكوت يجمعون أفكارهم ويتفرغون إلى التدبير والتقدير على ما ينبغي ويحسبون دخلهم وخرجهم وبصفو فكرهم أكثر وينبعث كلامهم جلياً ومن هنا كان التدقيق والرواء رائد جميع أعمالهم العامة والخاصة وقال كارلايل الفيلسوف الانكليزي: الانكليز شعب أخرس، ثم شرح هذه العبارة بقوله: إن السكوت يزيد في علاقتهم ونظامهم مع ما يبين عنه اللسان، الانكليزي يميل إلى الاختفاء ولا يهمه الظهور يهمه تجويد العمل من حيث هو عمل نافع ولذلك ترى جرائد انكلترا لا يوقع كتابها على مقالاتها وهي مع هذا أرقى من جرائد فرنسا التي يوقع كتابها على مقالاتهم ليقال عنهم أنهم كتبوا ومن آثر الاختفاء من هؤلاء لا يلبث أن يظهر اسمه بصنعه.
إن كان من خلق الانكليزي الإقدام على العظائم فإن حب الجديد والذوق في المجهول ليس فيه إلا على ضعف أيضاً فالانكليزي يبقى انكليزياً ويعيش عيشاً انكليزياً حيثما ينزل، والانكليزي أقل من الفرنساوي والايطالي في اليأس من النجاح وأكثر منهما هزؤاً بالمتاعب والمخاطر لعلمه بأن لها حداً تقف عنده ولا بد من حل مشكلاتها وقلما تراه يحسب حساباً لنكد الطالع فترى الشاب يتزوج من فتاة وهو في مقتبل العمر ولا يطالبها ببائنة (دوطة) بل يقترن بها بلا مهر ويقدم على تأسيس أسرة فيزيد نفقاته ثلاثة أضعاف ماكانت عليه والصانع يقدم على إدخال إصلاح في عمله بجرأة ويتخذ وسائط النجح وهو يعلم أنه لا يلبث أن يتم إصلاح مصنعه حتى يقوم صانع آخر ينافسه ولكنه يكون استفاد من الفترة بين إصلاحه وإصلاح منافسه وترى المهاجر منهم لا سبد له ولا لبد ومع هذا ينزح ويرزح تحت أثقال المتاعب وهناك سبب آخر وأعني به الهوى في العمل أوالتجنن فيه وفي الحركة والذوق في العمل من أجل أنه عمل وكل ذلك مما تقتضيه حالته الطبيعية، وإنا لنرى المرسلين منهم يتغربون في الأرض ولا يخافون بل يتعزون بما يتم على أيديهم في الأقاصي وينامون ملء جفونهم شاكرين ويعملون أعمالاً في السر ابتغاء وجه الله.
ومن خلق الانكليزي أنه متشدد في الاحتفاظ بالحالة الحاضرة فأرباب العقول الغربية في تصورها كثيرون ولكنك لا ترى فيهم أحداً يميل إلى الثورة وقد اشتهرت انكلترا بأنها بلد التقليد المستعصية حتى على التبديل اللازم وثلاثة أرباع سكانها لا يشعرون بالحاجة إلى إدخال تعديل في القوانين والأخلاق والربع الآخر يقبل بالتبديل في بعض أحوال مخصوصة ويتعلق بها ويلاحقها بنشاط ولذا رأينا الشعب الانكليزي قد جالد لأول وهلة ريثما أدخلت عليه أساليب الارتقاء حتى المادي منه فلما دخله صار في لحمه وعظمه وهكذا شأن الأمة العظيمة تتشدد في تقاليدها وتستنكف في الغالب عن قبول كل جديد إلا إذا ثبت لها ما ينقضه ثبوت الشمس والقمر.
مهما بلغ من انحطاط مكانة الرجل الانكليزي في المجتمع ومهما بلغت حرفته من الامتهان لا يحسد من كان أعلى منه منزلة وله من عمله الذي يستمتع بمدافعه أعظم سلوى ولذلك قل إن مالت الطبقة العاملة في انكلترا إلى تغيير نظام الإشراف في المجتمع وذلك لاعتقادها بأن الأعمال مقسمة لأن الحظوط متباينة، وبينا ترى فرنسا تقول للوزير كن فكان مهما كان وضيعاً وللنائب كن نائباً فكان مهما كان منحطاً في أصله وللشريف كن شريفاً فيكون تجد انكلترا لا تسمح لوضيع أن يعد في جملة العظماء إلا بعد ثلاثة أجيال وذلك على نظام وترتيب تدريجي لعلم القوم بأن الطبيعة في انكلترا لتأخر في كل شيء ولذلك اقتضى أن يكون ارتقاء الناس كذلك.
من خصائص الانكليزي أنه يشبه ميكانيكياً تعلم علم الحيل (الميكانيك) بالتجربة لا بالنظر فتراه مهتماً أن ينتج بما له من آلة ما أمكن من النتائج ولا يحرص على تبديل محركها وأدواتها لعلمه بأنه إذا فعل ذلك اقتضى عليه أن يوقف العمل وأن يبذل بلا نتيجة وقتاً واهتماماً من رأس ماله المحدود وهو يدرك بأنه إذا حدث للآلة ما يضر سيرها تقف حيناً وتنقطع فائدته وفائدتها ولذلك يجد من نفسه داعياً إلى القبول بتعديل آلة على أن يغير أدواتها القديمة بأدوات جديدة ولكن بدون أن يوقف الآلة ويقلل من مغلها.
يعتقد الانكليز بالضعف البشري ويشعرون بضرورة أخذ الأمور بالتدريج والبداءة بها من الصغير للوصول إلى الكبير حتى لا تقف القاطرة في هذا الجهاد وتتهور في منحدر لا تقوم منه فهم في شرائعهم يكتفون بتعديلها وإصلاحها مع الزمن وما قط حدثتهم أنفسهم أن يضربوا بما لديهم عرض الحائط ويضعوا غيرها من عند أنفسهم، ولكن الانكليزي مع هذا إذا رأى الخير في تعديل قانونه يصر عليه فقد رأينا أصحاب الصحف على عهد الإصلاح البرلماني الكبير قد صعب عليهم أن يصدروا منشوراتهم النفعة لأنه قضي عليهم أن يدفعوا عن كل نشرة طابعاً فاجمعوا أمرهم على أن يصدروها بدون طوابع فغرمتهم الحكومة وحبستهم ولكن جرائدهم ومنشوراتهم ظلت تصدر على عادتها بدون طوابع وأصروا الا برفعها فمضت أربع سنين على هذه المسألة وقد حبس لأجلها زهاء خمسمائة رجل ثم اضطرت دار الندوة أن تجيب الطلب وإن كانت الحكومة تضررت من هذا القسم المهم في الميزانية.
يعمل الانكليزي حباً بالعمل نفسه على حين يعمل غيره من الأمم لإحراز الثمرة التي تعقب الشرف أو الراحة أو الرفاهية والدليل على ذلك ما نراه في أهل الطبقة العالية منهم ممن لهم من ثروتهم ما يعفيهم من تعاطي أي عمل كان، نراهم يصرفون نصف أيامهم في الألعاب الرياضية الشديدة ولا يبالون فكأن الرياضيات لهم كالفطرة المستحكمة كما كانت الألعاب الأولمبية في يونان أيام عزهم ثم إنك لا تجد غنياً لا يصرف شطراً من وقته في النظر في شؤون مقاطعته وابرشيته وكثيراً ما يهلك قواه في هذا السبيل على حين تجد ابنه في استراليا أو مانيتوبا يعيش مع رعاة الغنم في تلك البلاد القاصية المنفردة وابنه الآخر من المرسلين في جنوبي إفريقية يعمل شاق الأعمال.
وبينما نرى الانكليزي أكثر الأمم تحاشياً مما فيه عبودية واحرص الناس على التناغي بالحرية الشخصية والحرية المدنية كحرية الاجتماع وحرية التكلم وحرية القول نراه في نظام أسرته قد احتفظ حتى الآن بنظام الحكم المطلق فنرى الابنة تأتي زوجها بدون أن يعطيها والدها بائنة لأن العادة جرت بين الأغنياء وأرباب اليسار أن يحفظوا لبكر الأولاد العقارات ويقسموا الأشياء المنقولة بينه وبين أخيه الأصغر منه سناً وتنال الابنة حصة من ذلك ويكون في الأغلب دخلاً قليلاً تناله من واردات أبيها، حرمت من ذلك حتى لا تجيء دار زوجها بما يرفع رأسها عليه لأن الرجال يريدون أن تكون لهم السلطة التامة في بيوتهم حتى أنه إذا اتفق أن أزواجهم جاؤهن بشيء من المال يضيفونه إلى ثروتهم ويحرمونهن حتى من الوصاية على أولادهن ومن التصرف بأموالهن.
عادات قديمة ورثوها فحافظوا عليها وإذ كان أبطال القرون الوسطى في أوروبا قد لطفوا من شأن المرأة لأن من عادتهم الأخذ بأيدي الضعفاء والعاثرين فإن انكلترا لم يدخل عليها هذا التلطف والزوجة مع زوجها وما يختار لا ما تختار هي، وترى الوالد والوالدة يربيان ابنهما بعيداً عنهما ولا تأخذهما شفقة في ذلك والولد إذا غاب عن والديه ينساهن وإذا مثل بين أيديهما يحترمهما.
هذه بعض صفات الانكليز ومنها انبعث ارتقاؤهم المادي والمعنوي فسبحان المعز المذل القابض الباسط رافع الأمم وخافضها ومشقيها ومسعدها.