مجلة المقتبس/العدد 60/الأمة تحبو
→ النفس الانكليزية | مجلة المقتبس - العدد 60 الأمة تحبو [[مؤلف:|]] |
العفة ← |
بتاريخ: 1 - 2 - 1911 |
نريد بالأمة هنا الأمة العربية أو الشعوب العربية وإن كان لكل قطر بل لكل كورة من أقطار بلادها وكورها حالة خاصة بها وفلسفة روحية تختلف عن جارتها وتستدعي بحثاً على حدثها ولكن ما يتعذر على التفصيل يجدر أن يذكر على الاجمال، ننظر نظرة عامة في حال العرب ليتجلى لنا أن كانوا ناهضين نحو الرقي أم هم يسرون سيراً متثاقلاً لا يعرفون الغاية ولا يهتدون إلى وجد الحق سبيلاً.
إذا بدأنا بمراكش وهي أقصى حدود البلاد العربية نجدها لم تبرح على ما يبلغنا من أمرها أمة أمية كما كانت في أواخر القرون الوسطى وهي على استقلالها وقربها من أوروبا لم تتأثر بالمدينة الغربية وما فتئ أهلها يعيشون في حال التنبت يأكل كبيرهم صغيرهم ويعبث خاصتهم بعامتهم يرون السعادة كل السعادة ما هم فيه ولا تحدثهم أنفسهم أن يغيروا منه بأن يبحثوا عن سر تفاشلهم وتقاتلهم وجاهليتهم.
فأهل مراكش في تقاليد مدينتهم كالذين ينتحلون الفتشية أي عبادة الأصنام في إفريقية بالنسبة لأهل الأديان السماوية الراقية ما زالوا على الفطرة الأصلية وليس عندهم من دواعي البقاء إلا ما لا غنية عنه لكل قبيل مهما انحطت درجة مجتمعه وهيهات أن تتوحد كلمة المراكشيين على تباين أقطارهم وأمصارهم ما دامت القبائل تتعادى والحكومة كل يوم في شأن وليس بين قبائل البربر في القاصية وبين أهل فاس وطنجة صلة كأنهم من عالم آخر، أما من يسوغ أن يقال عنهم بأن لهم شيئاً مما يطلق عليه اسم مدينة من باب التجوز وهم سكان الأمصار فالخاصة منهم لا يعرفون إلا بعض المسائل الدينية والتاريخية وتقف معارفهم عند هذا الحد ومن المتعذر جداً أن ترى مراكشياً قلد الغربيين في ملبسه وعيشه ومناحيه وتصور معنى المدينة الفاضلة.
وهكذا إذا جئت تبحث في حال بوادي المغرب الأوسط أي الجزائر ولولا مبادئ من الافرنسية يلقنها بعض الجزائريين طوعاً أو كرهاً لما رأيتهم الاكبادية مراكش حذو القذة بالقذة، أما مدن الجزائر فسائرة نحو التطبع بطابع المدنية الغربية على تشدد السكان الأصليين واستنكافهم من الأخذ بها والتحامي من الايغال في تلقف ما يضر بكيانهم من قبول تلك المدنية التي تنتهي إذا فتحت لها السبل كلها بصيرورتهم فرنسيساً كما هي إرادة الحكومة والقوم مهما أبدوا من المتانة في مجافاة الأوضاع الافرنسية تضطرهم بقوة ولو بعد نصف قرن أن يقبلوا بكل ما تعرضه حكومتهم عليهم من الأوضاع والمنازع التي لا ترى لها ولهم سعادة بدونها، والجزائريون لا يستطيعون على تلك الحال أن يدرسوا وحكمهم استعماري حتى ولا مبادئ لغتهم لما يحول دون أمانيهم من العوائق على ما يقال، وكأنا بالجزائر إذا دام أمر المسلمين فيها في تراجع وقد أصبحت فرنسوية في كل حال من أحوالها وأنك لترى بعض أهلها يهاجرون منذ سنين ويتخلون بطبيعة الهجرة عن عروضهم وعقارهم وينزل مكانهم أناس من الفرنسيس والطليان والإسبان وغيرهم يستعمرون الأرض ويتملكون الدور والعقار ويقبضون على أزمة التجارة، وقسم من الأهلين يقلد الافرنج فيتعلم على طريقتهم ويحسن لغتهم وينسى لغته وتضعف وطنيته وجنسيته وعقيدته فهذا وأولاده من بعده يصبحون إفرنجاً صرفاً إن لم يكن في الجيل الثاني ففي الثالث والقسم الآخر من السكان وهو المهم الآن وفيه كثير من أرباب الغنى والفكر يجمعون إلا قليلاً بين الأخذ بمذاهب المدنية الحديثة مع المحافظة على تقاليدهم وأوضاعهم وهؤلاء خير طبقة يرجى منها النفع الآجل والعاجل وهناك قسم آخر يجرفهم سيل المدنية الحديثة فيقبلونها رضوا أم لم يرضوا.
وإنا إذا حسبنا من تعلموا الافرنسية اليوم من الجزائريين ولم يتعلموا لغتهم مائتي ألف نسمة من أصل نحو خمسة ملايين بعد أن حكمت فرنسا هذا القطر زهاء سبعين سنة فسنرى عددهم يربو على ذلك أضعافاً بعد نصف هذه الحقبة من الزمن، إذ أن الدعوات الدينية والمدنية تكون ضئيلة في الغالب لأول أمرها ثم تقوى كالنار أصلها من شرارة ثم يمتد لهيبها ولتهم البعيد والقريب منها، ويخشى أن يكون حال الجزائر مع من يهاجرونها من أبنائها حال الجو في إنكلترا مع سكانها فقضى بقاعدة الانتخاب الطبيعي وقانون الوراثة على العاجزين والخاملين وبقي الشعب على الجملة من الأقوياء الأشداء العاملين الناهضين، نعم نحاذر أن تقذف الجزائر بالخاملين الذين سدت في وجوههم مذاهب المعاش وأن تستعيض عنهم بالعاملين من الغربيين أو من الجزائر بين أنفسهم الآخذين بمذاهب الحياة أخذ الأوروبيين.
من أجل هذا ساغ لنا أن نقول أن مستقبل الجزائر إن دام على هذا المنوال مظلم محزن ومثلها تونس وإن كان الأمل بنهوض هذا القطر أقرب من بعض الوجوه لأن طرز حكومة الحماية يختلف بعض الشيء عن طرز حكومة المستعمرة لوجود حاكم من أبناء البلاد في الصورة ولأن بعض المنورين من أهلها لم يسعهم بعد طول الروية إلا التشبث إلى الرقي بأسبابه المنتجة ولو بعد زمن طويل ونعني بذلك التعلم على المناحي الأوروبية وعدم إغفال التعاليم القومية والمذهبية، وهذه البزرة على صغرها لا بد أن يأتي يوم عليها تكبر فيه دوحتها وتثمر في أرض قرطاجنة.
أما إقليم برقة أو ولاية طرابلس الغرب فشأنها على اتساع رقعتها وكثرة سكانها شأن البلاد المتأخرة جداً وجمودها في الأخذ بمذاهب الحضارة جمود المغاربة المراكشيين وبلادهم حتى الحواضر منها بادية أكثر منها متحضرة وقلما تجد نهوضاً إلى التعلم الحقيقي فيهم والنبهاء منهم يرون الاكتفاء بأن يتلقوا مبادئ العلوم في مدارس الحكومة للتوظف في خدمتها أما سائر مذاهب المدنية فقد أغفلوه ولذلك يصعب أن نقول عنهم أنهم كالطفل يقوم ويقعد أو يحبو ويدب.
جئنا إلى مصر ومصر معقد الآمال في مستقبل هذه الأمة لأن توسطها من الأقطار العربية ومركزها التجاري المهم الداعي إلى اختلاطها بالأمم الأخرى كثيراً وخصب تربتها وغناها وكثرة سكانها كثرة قلما يتأتى لواد كوادي النيل أن يحوي مثله نفوساً يوفر لهم مرافق العيش وانتظام حكومتها بعد الإسلام على اختلاف الدول التي حكمتها ومدنيتها القديمة ونظامها الذي عم أريافها كما عم أمصارها وتسلسل الميل في أبنائها للأخذ بمذاهب الحضارة الغربية وتأسيس أوضاعها والعناية بما يبقي عليها جنسيتها ونحلتها كل هذا مما يرجى منه أن يكون حضارة عربية غربية تأخذ إن شاء الله من الحضارتين أطايبهما على نحو ما فعلت يابان يوم عزمت أن تنشأ نشأة راقية تضاهي بها دول المنعة والمدنية الحديثة فلم تتخل عن شعائرها ولم تتناول كل ما وقعت أبصارها عليه من أسباب الحضارة الغربية فجاءت بمدنية لا شرقية ولا غربية يكاد سنا ضوئها يأخذ بالأبصار.
ولقد خط الزمان لمصر خطة منظمة في الارتقاء وفيها الذين قلدوا الراقين من الغربيين بعيشهم ومناحيهم وإدلالهم بوطنيتهم وأرومتهم وعندها ما يلزم لأمة من أدوات الرقي على أتمه إلا قليلا، وإذا نشأت لبعض أبنائها رغبة في تلقف العلوم الطبيعية والصناعية كما أولعوا بالعلوم الأدبية والسياسية تصبح بعد بضع وعشرين سنة كأمة أوروبية راقية وربما فاقت الآن وهي بعلمها وارتقائها في قارة إفريقية بمنزلة ألمانيا وفرنسا في قارة أوروبا كثيراً من الشعوب المنحطة في جنوبي أوروبا.
أما سورية فقد أنشأت لها مدنية خاصة إن صح أن نسميها كذلك ولكنها متلونة بتلون مصادرها مختلفة اختلاف اهويتها وعناصر سكانها فالأتراك يلقنونها لغتهم منذ استيلاء الدولة العلية عليها ولكنهم لم يوقنوا إلا بتعليم أفراد في بعض البلاد قضت عليهم مصلحتها التجارية كأهل حلب وما جاورها مثلاً بتعلمها أو غرامهم بالوظائف العلمية والعسكرية والملكية كأهل دمشق وطرابلس وبيروت أن يتلقفونها أما الذين تأثروا من أبنائها بالمدنية الغربية المنبعثة من المدارس الفرنسوية والاميركانية والانكليزية والروسية وغيرها فأوفر عدداً وإن لم تكن المدارس أقدم زمناً وأرسخ قدماً في كل الأقطار فهي في فلسطين أي في جنوبي سورية أقوى منها في شماليها وفي غربيها أكثر مما هي في شرقيها فنجد الناشئة الجديدة على المناحي الغربية في القدس ويافا وحيفا وعكا والناصرة وصور وصيدا وبيروت ولبنان وطرابلس والاسكندرونة أكثر مما تجد منهم في نابلس وصفد ودمشق وحمص وحماة وحلب واللاذقية، وكلما كثر في بلد سواد المسلمين كان البعد عن الأخذ بمدينة الغرب أكثر من غيره من المدن المحنسة بأديانها وتباين أغراض المعلمين فيها.
وعندنا أن الحكومة تحسن صنعاً إذا نشطت في هذا القطر اللغة العربية أكثر من اللغة التركية أو على الأقل جعلتها مثلها ليكون لها من أبنائها أكفاء في صد تيار المدارس الأجنبية التي تعد الناس للهجرة أكثر من تحبيب بلادهم في أعينهم أما السعي في تتريك العرب في سورية وفي غيرها من الأقاليم العربية كاليمن والحجاز والعراق والجزيرة فسعي باطل ليس في خير للبلاد ولا للدولة لأن تعليمهم بغير لسانهم يطول معه زمان نهوضهم الحقيقي والأتراك ليسوا بمدنيتهم على مستوى الفرنسيس والانكليز في الرقي ومعرفة المدخل والمخرج مثلاً حتى يفيضوا من عملهم على العناصر الأخرى ولذلك كان عمل الحكومة عقيماً في نشر التركية فقط في البلاد العربية والدليل على ذلك أن الولايات التركية أحط بكثير من الولايات العربية فولايتا سورية وبيروت أرقى ولا شك من ادرنة وبورصة كما يؤكد ذلك من طافوا هذه الولايات الأربع وخبروا قراها كما خبروا مدنها أما درجة التهذيب والتعليم في سورية فأرقى من بلاد الأكراد وأرمينية وولايات آسيا الصغرى أي الأناضول ولذلك جاز لنا هنا أن ندعي أن السوريين كالطفل بدأ يحبو نحو المدنية إلا أنه لم يعين له خطة معينة حتى الآن وحالته مناط بفناء نوابه بل نواب العرب وكفاءتهم في مجلس النواب وإذا حسنوا النيابة نالت هذه البلاد حقوقها الإدارية والعلمية والعمرانية وإلا فتبقى في حالة التذبذب.
أما سائر الأقطار العربية فلا يسوغ لنا أن نقول أنها أخذت تحبو ما دامت الفتن تنهك قواها وذلك مثل بعض أنحاء العراق ونجد واليمن فإن الأمن لم يكد يتقرر في نصابه في قطر من أقطارها مدة طويلة ومنذ نحو أربعين سنة لا تخلو سنة إلا وتنتشر الفتن في بقعة من بقاع اليمن وكذلك جنوبي سورية ونجد والعراق ولولا بقايا مدنية تقذفها الهند على خليج فارس فينال منها البصرة وبغداد شيء قليل أو تلك الآثار الضئيلة التي يلقيها الراحلون إلى الشرق من أهل الغرب على بعض موانئ البحر من جهة الجزيرة العربية لقلنا أن هذه لم تختلف حالتها عن بضعة قرون إلا ما كان من خلل الأمن فيها.
وبعد فإن حال هؤلاء الملايين في اليمن والحجاز والبصرة وبغداد والجزيرة والشام وطرابلس الغرب يدل على أن الانتفاع من قليل منظم خير من كثير مشتت وأن أهل سويسرا وهم ليسوا سوى جزء من عشرين جزءاً من العرب المنبعثين من شواطئ بح الظلمات إلى شواطئ المحيط الهندي أكثر أثراً في المدينة من العرب اليوم وهم لا يقلون عن ستين مليوناً وما ذلك إلا لبعد أقطارهم واختلاف الأغراض في حكوماتهم فتجدها إما إلى اليقظة الغربية أو إلى الإهمال المدهش، إفراط أو تفريط وكلا هذين إن زاد قتل.
أما سائر البلاد العربية كزنجبار والسودان وأواسط إفريقية فحالها تبع للأقدار وهي أقرب إلى الانصباغ بصبغة الحاكمين عليها لأن أهلها على الأغلب ليست لهم في الأصل مدنية راقية زالت ثم بدأت تعود ولأن أقاليمهم الحارة تفعل في عقولهم فتخملها كما تفعل الأقاليم الباردة في عقول الساكنين فيها فتنشطها وتبعث منهم قوة الإرادة والثبات وتطلب منهم مطالب كثيرة تضطرهم إلى تنويع أساليب العمل.
وبعد فليس كمصر بين البلاد في رقيها فهي أم الأقطار العربية وسوف تعلم غيرها كما تعلمت فترسل أشعة أنوارها إلى الأقطار ولا سيما إذا نالت استقلالها الإداري وأصبحت ذات دستور يحل شؤونها ونهوض البلاد بحسب طبائع الحكومات التي تتولاها.
والمدنية كتيار قوي لا تقف في وجهه سدود الحكومات، مهما ضغطت، ورابطة اللغة والدين أقوى الروابط لا تنزعها القوانين اليوم مهما جارت والأمة الآن تحبو وتوشك أن تمشي مشية الشاب القوي العضلات التام الأدوات والصفات، خصوصاً إذا تعاطفت وتعارفت أكثر مما تتعاطف الآن وتتعارف وعندنا أن الصلات الاقتصادية أي التجارية إذا قويت بين هذه البلاد أكثر مما هي الآن ورحل التاجر الراقي من العراق إلى تونس وجاء المراكشي إلى الشام ونهض اليماني نحو مصر وكثرت الصلات والمواصلات واشتركت المنافع واتحدت يتأتى أن نقول ولو بعد قرن أو قرنين (والقرن والقرنان لا يعدان شيئاً في حياة الأمم) أن هناك أمة عربية ذات كيان يذكر لا يقل عن كيان الطليان والألمان واليابان والأميركان والعصر عصر تكوين الوطنيات باللغات وإحياء ما اندثر من القوات بضم شملها بعد الشتات ولا سبيل إلى النهوض إلا بإحياء اللغة والآداب وتذكير الأبناء بما فعل الآباء وإلا فتبقى هذه الأمة الكثيرة الحصا الوافرة البقاع والأصقاع أمام المدنية الغربية أقرب إلى الاضمحلال منها إلى البقاء ومتى أزمن مرضها يتعذر برؤها، سبحان من يحيي العظام وهي رميم.