مجلة المقتبس/العدد 52/نظرة في النظرات
→ الإبر | مجلة المقتبس - العدد 52 نظرة في النظرات [[مؤلف:|]] |
أخبار العلماء بأخبار الحكماء ← |
بتاريخ: 1 - 6 - 1910 |
أخرج هذا الكتاب للناس في هذا العهد والأمة في برازٍ دائم بين القديم والحديث يريدها الأول على البقاء على الرثيث من تالدها مما ورثته بحكم الطبع أو التطبع ويضطرها الثاني إلى التجرد عما يأخذ بخناقها من العادات والتقاليد العتيقة التي أخنى عليها الدهر والأخذ بالجديد المفيد المنطبق على حاجات العصر اليوم.
وها نحن أولاً نرى بين علماء الدين في مصر والشام والحجاز واليمن من يتساءلون عما إذا كان تعليم العلوم المادية الطبيعية والتوفر على دراستها حراماً أو حلالاً بينا نرى بعض المفكرين من الباحثين العالمين يشهرون على أولئك حرباً عواناً تدير رحاها الأقلام مصرحين أنهم لا يدينون بسوى القوة والمادة اللتين هما من مظاهر الطبيعة ويضربون بكل علم عرض الحائط إذا لم يكن من العوم المادية الطبيعية أو منطبقاً على نواميسها الصحيحة أو موصلاً إليها متمماً لها ففريق يبالغ في إعظام رجال الخيال ويغالي في البحث فيما وراء المادة وفريق لا يعرف غير الحقيقة المادية مذهباً.
إلا وأن هذا البراز الحيوي لم يكن مقصوراً على العلم فقط بل تناول عامة شؤون الحياة وفروع الفنون الأخرى فكان للأدب النصيب الأوفر منه فإنا ما زلنا ولا نزال نرى بعضهم لا يرى للشعر من المكانة العالية إلا إذا كان قائله كالبها زهير وابن معتوق والشاب الظريف ويحسبون أن الكلام الطريف هو ما جاء في ريحانة الأدب وأشباهها غير معتدين بما عداها من الكتب الممتعة مثل نهج البلاغة والدرة اليتيمة وكليلة ودمنة وما جرى على أسلاك ألسنة الشعراء المتقدمين كالشريف الرضي والمتنبي والمعري وغيرهم من المتأخرين ممن جمعوا إلى التراكيب العربية الفصيحة الأفكار الغربية الصحيحة كما أنهم لا يعدونها شيئاً مذكوراً.
في كل حركة تقوم بين ظهراني هذه الأمة المنبسطة ظلالها في هذه المملكة المتنائية الأطراف نشهد مثالاً مجسماً من مبلغ تأثير تنازع البقاء ونقرأ فيه التجدد نقياً لا يشوبه شوب القديم فنستدل منه على تقدم الأمة في أفكارها وآ رائها وأن ما يناله القائمون بالتجدد من خصومهم الأعداء الألداء المكابرين لا بد من وقوعه ما دامت الأمة جاهلة خاملة وما دام من كتب لهم العلم والنباهة أفذاذ لا يزال تأثيرهم من الضؤول والحؤول بحيث يتراجع لأقل ريح تعصف.
وبعد فللإبداع إذا بوديء الأستاذ المنفلوطي صاحب هذا الكتاب لأول وهلة بما ناله من معارضيه من بذاءة اللسان والتسفيه في القول ما نجله عنه لأنه سنة من المجددين منذ القديم. فهذا غستاف فلوبر الكاتب الفرنسوي المعروف كان يحتقره معاصروه ويهزؤون بكتاباته وآرائه حتى يحمله على ذلك البكاء كالأطفال الصغار ويشرع يخاطب زملاءه زولا وكونكور ودوده بقوله: بربكم أنبئوني لمَ لمْ تنل هذه المؤلفات الاستحسان الذي أتطلبه فتأخذهم رعدة الكآبة والحزن فيبكون جميعاً_هذا الرجل الذي كان في عصره بهذه المثابة ولم يكتب لآثاره أن يرتاح لها الرأي العام أصبح القوم اليوم يعبدونها ويمجدونها ويسبحون بحمدها.
أمامي الآن هذا الكتاب أنظر إلى الصفحة الأخيرة منه بعد أن كنت قرأت معظم فصوله في الصحف وكانت نظرتي إليه في المرة الثانية ومقالاته مجموعة في سفر خاص غيرها في الأولى. إذ كنت أطالعه وأنا أعلق عليه في مفكرتي بعض ما آخذت به منشئه ورأيته مما يجدر أن ينبه عليه مثله على أني قرأت ما كتبت عليه في الجرائد والمجلات فإذا به لا يبل غليلاً ولا يغني فتيلاً مما دل على أن باب التقريظ والانتقاد لم يفتح عندنا كل الفتح ونخشى أن طال علينا الأمد أن يصيبه ما أصاب باب الاجتهاد.
وقد أفردت لكل من أسلوبه وموضوعه وآرائه ولغته ووصفه بحثاً خاصاً سأتكلم على كل واحدة منه على حدة وأقفيه بالألماع إلى شذرة من روح المؤلف، وذلك بقدر ما مكنتني الفرصة من القيام وهداني إليه البحث والنظر.
1
أسلوبه
مما كتبه المنفلوطي في مؤلفه هذا قصص جمة كانت هي الباعثة لي على الخوض في غمار هذا الموضوع ولذا فأنا أنظر إليه في هذا المبحث نظري إلى قصصي أريد أن أبين طريقته في الإنشاء وأحاول أن أردها إلى مذهب خاص مما أنشأه أدباء المغاربة في تاريخ آدابهم. إذ لكل كاتب أدبي قصصي أسلوب خاص ينهج فيه مؤلفه المنهج الذي يراه أنه أمتع وأنفع ووافق طبعه في الغالب أو يتبع في ذلك سنة الارتقاء:
قامت في أوربا مذاهب شتى في الأدب القصصي منذ القرن السابع عشر حتى اليوم وكلها حلقات من سلسلة تاريخ الآداب عند المغربيين. فمن هذه المذاهب مذهب يرى زعماؤه أن الغاية من الصناعة هو إصلاح الإنسان وتعزيته لتخفيف آلامه عند حلول المصائب والنوائب. فتجدهم يضعون قلوبهم وأفكارهم في كتبهم بدعوى أنهم بتأثراتهم هذه تثور ثائرة القارئ. وإن ذوق كاتب القصة الشخصي ليتمثل في تضاعيف كتابه فتراه يختلق أشخاص الوقائع ليصف شعوره الذاتي وشوقه المبرح به نابذاً العناية يبث العواطف في أبطال الرواية ظهرياً. منة أجل هذا ندر من استفاد التاريخ وعلم الاجتماع من أمثال هذه المؤلفات.
وما يحملهم على ذلك إلا مشيهم مع شعور القراء وتنزلهم من عقول العامة لأن هؤلاء اعتادوا أن يعيشوا مجردين عن الحقائق العادية وأنهم ليتذمرون من مطالعة صفحات حياة الإنسان كما هي. ولذا كانت خطتهم في الروايات وكانت القصص السامية والأشعار الرقيقة الحافلة بالشعور ليس لها كلمة عالية. وقد سمي هذا المذهب.
مذهب المفكرين).
وهناك مذهب آخر في الإنشاء يدعى الخياليين وهو كما عرفه ستاندال هوب: عبارة عن صناعة تمثل نتائجها الأدبية ما يلائم معتقدات الأقوام وأطوارهم وعاداتهم في الحال الحاضرة مما يبعث في نفوسهم سروراً ونشاطاً بل هو كما يقول الناقد الشهير بروتير: هو أن لا يعرف الصانع سوى ذوقه وتهوساته وخيالاته قاعدة وأصلاً بل كما قال إميل فاكي: إن روح الرومانتيزم الحقيقية هو الحذر من الحقيقة وإن لم يكن لها الصانع في صدره موجدة ونفوراً. قالوا: وهذا الحذريتم باستسلام الفكرة للمخيلة كل الاستسلام وليس في هذا المذهب مشاهدة ولا تحقيق ولا ترصد كما أنه ليس ثمة معقول ولا محاكمة ولا منطق لأن هؤلاء كلها أمور تدين للحقيقة المادية_هذا هو أصل الرومانتيزم.
ومن المذاهب التي نشأت وشاعت المذهب التاريخي الذي كان زعماؤه يعنون بوضعه في الروايات التاريخية فيحرفون الحقائق التاريخية عن مواضعها وهم من التزوير والافتئات بحيث كانوا يطبقون قواهم المخيلة وعامة ما يخترعونه من الأفكار على الوقائع والحادثات. فالتاريخ عندهم كما قال اسكندر دومافيس مسمار يستعينون به على تنضيد ألواحهم فليس لديهم من ثم فكرة سوى أنهم يعملون على إدخال البشر والارتياح في نفس القارئ. بيد أن لجمال الأسلوب ورقة الوصف عندهم مكاناً من العناية. وأمثل نموذج لهذه المؤلفات التاريخية وأحفلها هم كتاب خمسة آذار لألفريد دوفيني ونوتردام دوباري لفيكتور هوغو.
وقد نشأ مذهب جديد دعي بمذهب الطبيعيين ومن أخص ميزاته هو أن زعماءه وسعوا دائرة القصص وأخذوا يبحثون عن ملجأ تلوذ به أشخاص القصة خشية أن تخوض عباب الوقائع الغريبة التي يتعلمها بعض الكتاب لتكون النتيجة إما الانتحار أو الزواج وأصحاب هذا المذهب ينظرون إلى ذلك الضرب من القصص نظرهم إلى ألعوبة يتلهى بها الفتيان والفتيات. والذي يعنون به اليوم هو صفحات التتبع فشأن القصص عندهم بنسبة ما تعيه من صحيح الوصف وحديث الوقائع.
ومن أنصار هذا المذهب من القصصيين ممن جردوا الروايات من شوائب الكذب والاختلاق بعد فلوبر إميل زولا وموباسان الكاتبان الفرنسويان المعروفان ونشأ عن هذا مذهب آخر دعي مذهب إمبرسيونيزم. والفرق بين هذا ومذهب الطبيعيين هو أن زعماء المذهب الأول يعنون بإبلاغ العواطف وآثار ما ولدته فيهم الحقيقة وهم يرون أن الحقيقة واسطة. أما أنصار الثاني فإنهم مستقلون عن الذاتية وما همهم إلا تتبع الحقيقة كما هي على حين يترجم زعماء الأمبرسيونيزم الطبيعة أكثر من أن يعيدوها مرة أخرى. وعلى هذا كان ولا جرم مذهب الطبيعيين أمتن وأرصن وقصصهم أعظم مهابة ووقاراً.
وهناك مذهب جديد وضعه الكاتب الفرنسوي الشهير بالزاك وانضوى تحت لوائه كبار المتأدبين ممن أثروا أثراً محموداً في نهضة الآداب الفرنسوية ألا وهو مذهب الحقيقيين وقد أتم وضعه فلوبر بمصنف له سماه مدام بوفاري وقد سبق هذا الرجل بلزاك وستاندال ومريمي فأذاقوا الفرنسويين بمصنفاتهم طعم الحقيقة ولكنهم لم يكسروا سورة شهوتهم بأسرها ولم يتعد تأثيرهم في نفوس القراء إيقاظ الحقيقة فيهم. ولكن مصنف مدام بوفاري علم الناس أجمع ما هو مذهب الحقيقيين بما تري في تضاعيفه من وصف الحياة بما فيها من اضطراب وضوضاء بأجلى تعبير وأوضح بيان.
وطريقة بلزاك في قصصه هو أنه يبدأ أولاً في تعريف الأشخاص ويأتي على تصوير المكان الذي يعيشون فيه والبيئة (المحيط) التي في أرجائها يجولون وما يحوي المكان من أثاث ورياش ثم يذكر الخلق وأجسامهم وما يلبسون ويكتسون من أردية حتى أنه يرسم خطوطهم الجبهية وأخيراً ينفخ فيهم من روح الحقيقة فينطقون ويتحركون.
هذه هي الطريقة العلمية التي ينحو منحاها العلماء والعقلاء من كتاب أوربا في التاريخ والأدب ولا يهمهم ما يكتبون سوى أنهم يمثلون الحقيقة للقراء عارية بأبشع وأشنع مظاهرها غير هيابين ولا وجلين. وثمة من المذاهب ما كنت أود أن آتي علي ذكره هنا لولا أني توخيت في هذه النظرة الايجاز مثل المذهب الرمزي (سنبوليزم) والمذهب الفني (كلاسيسيزم) وغيره من المذاهب.
وبعد فلم تقدم بين يدي القارئ هذه المقدمة التي نرجو أن نكون ألممنا فيها بطرف من مذاهب الكتاب إلا لنستطيع أن نحكم على بعض فصول النظرات القصصية ونضعها في المحل الذي يجب أن تحل فيه بين هذه المذاهب كلها.
لا جرم في أن الناظر في هذا السفر والمطلع على هذه المذاهب يعلم أن المنفلوطي جرى في كتابه مجرى الخياليين وأنه يجمع بين هؤلاء ومذهب المفكرين في الأحايين. فهذه مقالته الكأس الأولى وعبرة الدهر يتجلى فيها الخيال بأحفل مظاهره. فقد سمع صوت المؤلف في الأولى عند قوله: وما كان له وهو يهيم الخ. . . وكذلك عند قوله فيها: والمنظر المتكرر لا يلفت النظر ولا يشغل الذهن. وقد أورد على لسان الشخص المريض الشاخص ببصره إلى السماء_ذلك الرجل الذي لم يبق منه إلا إهابٍ ممزق_حديثاً لا قدرة لأصحاب الأجسام على إيراده في مثل تلك الحال وقصد المنفلوطي أن يبين سبب الإدمان على الخمر فجعل ذلك بلسان المريض ذاكراً أن كل كأس شربها جرتها عليه الكأس الأولى وأن ليس الباعث على ذلك غير قصور عقله عن إدراك خداع الخلطاء وبين أن الخونة الكاذبين خدعوه عن نفسه خداعاً ليستكملوا بانضمامه إليهم لذاتهم التي لا تتم إلا بقراع الكؤوس وضوضاء الاجتماع ثم عاد المنفلوطي وأظهر شخصيته فقال: ولو علمت كيف خدعوه وزينوا له الخروج عن طبعه ومألوفه وأي ذريعة تذرعوا بها إلى ذلك لتحقق أنه أبله إلى النهاية من البلاهة وضعيف إلى الغاية من الضعف وقد حكم عليه بالبلاهة ولم يذكر عن تربيته ما يفهم منه أنه على غرارة وسذاجة بل الذي تبين أنه كان صديق المؤلف وارتباطه بالصداقة يقضي بأن يكون فيما أحسب على غير ما ذكر.
وفي مقالة عبرة الدهر دليل آخر على مذهب الخياليين وهو ذكره (صاحب القصر) بأنه فاسد الأخلاق وإغفاله البحث في أن يذكر عن نشأته الأولى شيئاً نتبين منه أن بين جنبيه نفساً ملؤها الرذائل. وكان عليه أن يصف (بلالاً) الخادم الذي جعله في موقف الحكم الحكيم وأنه من المبادئ العالية ما هو كيت وكيت وأن يذكر طرفاً من حنق زوجته وتلهفها على زوجها الذي كان يقضي الليالي الطوال وهو يداعب أزواج المحارم بمثل ما يداعب غيره زوجته. وهذا نقص كبير وخطأ فادح في الأسلوب. ولكن المنفلوطي كما أسلفنا لم يهتم في الحقيقة اهتمامه الزائد في أن تكون قصته جامعة لجمال الأسلوب الخيالي الذي ضمنه حكماً بالغة وعواطف شريفة بدون أن يتبين المواقف التي يقف فيها الرجل الغر الغمر موقف المرشد الحكيم.
ومما يستدل فيه أيضاً على تنكبه جانب الحقيقة سؤال (صاحب القصر) (بلالاً) في أي ساعة نحن من ساعات الليل فأجابه في الساعة الأولى ثم ذكر المؤلف أن الخادم لم يصل من الحديث إلى حد معين حتى نصل خضاب الليل واشتعل المبيض في مسوده على أن ذلك الحديث يذكر في بضع دقائق لي إلا. . .
هذا نموذج مما ذكره المنفلوطي من الفصول القصصية ومن تشريح أسلوبه يعلم أنه احتذى مثال (الخياليين) في إنشائه. وكل من تتبع الحركة الأدبية في المشرق يعلم أنها مسوقة نحو الكمال بحكم ناموس النشوء والارتقاء وإن كتاب المنفلوطي هذا هي إحدى الحلقات من سلاسل الآداب التي لا يتم البحث بدونها.
وإنا نودع باستقباله ما ضمنه من أسلوب جديد وتشبيه رائق واستعارات فخمة ذلك الأسلوب الخيالي المحض في كتاب كليلة ودمنة وهو من تاريخ آداب المشرق بمثابة لافونتين من آداب المغرب كما أن غيرنا ودع بما عربه عبد الله بن المقفع كتاب ألف ليلة وليلة وأقاصيص عنترة الممزوجة بالأبطال الخياليين مما كان بها وبأمثالها بدءُ نهضتنا الأدبية القصصية كما كانت الإلياذة باكورة نهضة الغرب في الآداب وفاتحة رقيهم وتقدمهم.
وجدير بكبار أدبائنا العاملين وهم يبرون الغرب كل يوم يخطو خطوات واسعة نحو الحقائق أن يقتفوا آثار مذهب الحقيقيين بإطراحهم مهب الخياليين جانباً وأن يطيلوا الفكر والتنقيب فيستبدلوا الأحياء بالأموات ويستعيضوا بالأرواح عن الأشباح وكفى.
2
موضوعه
قسم المنفلوطي كتابه إلى عشرة فصول: (1) الرسائل العلمية (2) الرسائل الأدبية (3) الرسائل الأخلاقية (4) الرسائل الاجتماعية (5) الرسائل السياسية (6) الرسائل الدينية (7) الدهريات (8) النسائيات (9) الروايات (10) المراسلات. ويجب أن نذكر هنا قبل كل شيء أن المنفلوطي لم يحسن تبويب الكتاب فقد ذكر مقالة أفسدك قومك في الرسائل الأخلاقية وكان الأولى أن تكون في الرسائل الاجتماعية كما أنه ذكر مقالة مدرسة الغراموفي سبيل الإحسان في الثانية في حين يقتضي أن تكون من الموضوعات الأولى. وأنت إذا أردت أن تنزل هذا الكتاب المنزلة الخليق بها من حيث علاقته بالعلم والاجتماع والسياسة والأخلاق رأيته يضرب في الأخير منها بسهم وافر ويجري منه على عرق.
تقرأ روح الأخلاق في مقالة الكأس الأولى وأين الفضيلة والغني والفقير وعبرة الدهر ومدينة السعادة والرحمة والصدق والكذب والإنصاف وتراه أيضاً يتعرض للموضوعات الاجتماعية فلا يلم بالبحث فيها من عامة أطرافها على حين تستدعي درساً يسلب المرء فيه قراراه ليسقط الناظر فيها على حقيقة ناصعة أو علم جم أو فكر جديد.
يدلك على هذا بحثه عن المجرم في مقالة أفسدك قومك فإنا لا ننكر عليه أنه ذكر فيه ما يفهم منه أنه يحمل الذنب على المجتمع البشري وعلى التربية الأولى وعلى القانون وعلى غير ذلك شأن كثيرين ممن قاموا اليوم في أوربا يحامون على المجرمين ويعدونهم كالبائسين يستحقون الرحمة ويطلبون تعديل القانون الجائر لتخفيف ما ينزل بهم من الويل والثبور. ولو كان المنفلوطي من كتاب الحقائق لتوسع في هذا المبحث وقرأ ما كتبه الأطباء في هذه المسألة لتتم الفائدة.
ثبت مؤخراً بعد الفحص الطبي أن للجناة من نقص ملكاتهم المادية والأدبية استعداداً لما يوقعونه من الجنايات منذ زمن بعيد. وقد فحص بنديكتأحد مشهوري أطباء فينا أدمغة كثيرين ممن يقترفون الجنايات الكبرى فوجدوها بأسرها مأفونة غير تامة التركيب، وهذا الرجل يعد الجنون والجناية صنوان. ويرى رأيه هذا الدكتور بوردي الفرنسوي وقد بحث في أدمغة ستة وثلاثين جانيا حكم عليهم بالإعدام فرأى الناحية الجبهية مصابة والناحية الجدارية واسعة جداً. وهذا يدل على نقص القوة العاقلة والشعور والميل إلى الحنق والنزق. وقد نظر غاروفالو أحد مشاهير علماء الجزاء في إيطاليا في الجناة فلم يجد واحداً منهم خلواً من إمارات مادية وأدبية تحكي الإنسان الأول.
وما ظهر من الحقائق الجديدة من أمثال هذا الاستقراء والاستقصاء هو موضوع الرأي العام في أوربا في شأن تنظيم الجزاء حتى نشأ عن هذه التجارب الطبية علم جديد يسمى علم الجرائم البشرية_آنتروبولوجي كريميتل وكان للإيطاليين اليد الطولى في خدمة هذا الفن الجليل.
نال المنفلوطي من المدنية الغربية في كلامه عليها ما لا أرضاه له كل من درسها حق دراستها وبحث فيه بحث العالم المتجرد عن المؤثرات دينية كانت أم قومية لا بحث خطيب أو أديب أو شاعر أو واعظ مرشد داعٍ إلى وطنية أو أخلاق.
وورد في قوله هذا كلام ثلة من حملة أقلام ممن لهم من أخلاقهم عصبية قومية أو نعرة شرقية وسواء عندي كان قولهم هذا بدافع الوطنية أو الدعوى إلى إحياء آثار مجد أو تمازجها لوثة من لوثات الفساد فينشأ ناشئهم وقد انحل من وطنيته كما انحل من دينه وأدخل الفساد أخلاقه كما أصاب عاده ومنازعه.
وإني أشاركه في كل ما جاء في تالك المقالة إلا في قوله: إن دعوناهم إلى الحضارة فلنضرب لهم مثلاً بحضارة بغداد وقرطبة وثيبة وفينيقية لا بباريس ورومة وسويسرا ونيويورك، وإن دعوناهم إلى مكرمة فلنسرد عليهم آيات الكتب المنزلة وأقوال أنبياء المشرق وكلماته لا آيات روسو وباكون ونيوتن وسبنسر، وإن دعوناهم إلى حرب ففي تاريخ خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وموسى بن النصير وصلاح الدين ما يغنينا عن تاريخ نابليون وولنجيتون وواشنطون ونلسون وبلوشر (بلوخر)، وفي وقائع القادسية وأفريقية والحروب الصليبية ما يغنينا عن وقائع واترلو وترافلغار وأوسترليتنز والسبعين.
هذا ما كتبه المنفلوطي إلى ابناء القرن العشرين من المشارقة وهو يريد أن يربو تربية مدنية عملية يصدون بها غارات الجانب التي يشنونها عليهم من كل صوب وأوب وهذا هو السلاح الذي يحمله الشبيبة المصرية على أن يتسلحوا به ليقاتلوا أعداء الوطنية ويخرجوا من ديارهم من ابتزوا أموالهم وغلبوهم على أمرهم وكل يوم يريشونهم بسهام التعصب والطيش.
من الحكمة أن يدعو القائم بالإصلاح إلى قومية أو وطنية ولكن بدون أن يزدري مدنية الأمم الأخرى الناهضة ويعمل على الحط منها وهم الذين بها وطدوا دعائم استقلالهم ورفعوا منار مجدهم وسؤددهم.
وما أدري كيف تقوم لنا نحن معشر المشارقة قائمة إذا اقتصرنا على ما ورثناه من المناحي والمنازع وأقبلنا على الأخذ بما أبقاه لنا آباؤنا الأولون من الآثار فقط بدون أن نمعن النظر في آداب رجال الغرب وأخلاقهم وعاداتهم وتاريخهم وبالجملة نقف على سر تقدمهم ولا أعلم لأي غرض نعنى بإرسال البعثات العلمية إلى البلاد الأوربية وننادي على رؤوس الأشهاد أن هذا هو الذي يحقق لنا الأمل في المستقبل إذا لم يكن المقصد منه درس تاريخ نابليون وولنجتون وواشنطون ونيلسون وبلوخر ووقائع واترلو وترافلغار وأوسترليتنز والسبعين أو لننهل حتى نروى من آداب روسو وباكون وزولا وألفريد دوموسه أو لنتبطن أسرار فلسفة ديكارت ونيوتن وسبنسر غيرهم.
ويجب ألا يغرب على الأذهان أن ما توفر لقواد المغاربة من الأسباب والوسائل في بيئتهم وبين بني جنسهم وما كان يجول في خواطرهم من الأماني التي كانت المص الح تدفعها للانبعاث إلى حيز الوجود غير ما توفر لقواد المشارقة من العرب وغيرهم على اقتحام غمرات الردى في سبيل الدفاع عن الحمى وهذا ما يدعو لاختلال التوازن في الدهاء السياسي في الفريقين بما يتذرع به من الحيل الحربية والدسائس في مثل هذه الأحوال للنظر في كتاب الغيب وقراءة مستقبل الأمم فيه مما ينجم عنه ما نراه من الاختلاف في نتائج الحروب والمعارك نصراً كان أو خذلاناً.
وساء صحت نظرية من زعموا أن من دواعي سقوط الدولة العربية جهل الأمة بتاريخ اليونان والرومان أو لم تصح فإن فيها حقيقة لا أخالها تخفى على مثل الأستاذ المنفلوطي. وإذا اتخذنا هذه النظرية أصلاً جاز لنا أن نبشر مساعينا بالإخفاق والحبوط ونحكم على حياتنا الاجتماعية والسياسية بالانحلال والاختلال في مستقبل الأيام إذا قادنا الجهل أن نحرم على أنفسنا الوقوف على سر استبحار عمرانهم وانبساط ظلال مدنيتهم في طول البلاد وعرضها فنحرم من الاستمتاع بعلومهم وآدابهم.
ولو كان قوله هذا درساً يلقيه على صغار العقول من الطلبة الأطفال ليطبعهم بطبائع حب الوطن وينشأوا وهم يفادون في سبيله النفس والنفيس لما أخذوا بقدر ما يؤآخذ وهو في موقف ودع فيه_كما قال عن نفسه_الخيال والشعر وداع من يعلم أن الأمر أعظم شأناً وأجل خطراً من أن يعبث به العابث بأمثال هذه الطرائف التي هي بالهزل أشبه منها بالجد والتي إنما يلهو بها الكاتب في مواطن فراغه ولعبه لا في مواطن جده وعمله.
ألا فليعلم الكاتب أن في الغربيين من العادات ما هو خليق بنا نحتن الشرقيين أن نغتبط به ونأخذ بالنافع الرافع منه والرجاء أن لا يظن بأننا بما نكتبه الآن نخدع الأمة عن نفسها أو نفسد عليها شرقيتها بتزيننا لها هذه المدنية تزييناً يجمع إلى استقلالها النفسي استقلالها الشخصي فلشد وأيم الحق ما نكون محتفظين بعاداتنا العربية الشرقية وآدابنا ولكن ما نراه من تيار المدنية الغربية يريدنا على مجاراتها شئنا أم أبينا فإن لم نعد لها عدتها ولم نسر معها جنباً إلى جنب دحرتنا وربما وردتنا مورد الهلكة غير حافلة بنا ولا آسفة علينا.
ومما أنكره عليه أيضاً تعرضه في مقالة الحساب لولي عقله وأستاذه رجل الإسلام الشيخ محمد عبده ورجل المرأة قاسم بك أمين. ولو اقتصر على ذكر (المحسن) وذلك الرجل الذي كان في حياته يتخذ في أعماله ما يسمونه (الحيل الشرعية) وذلك (القطب) الذي كان أكبر تاجر من تجار الدين_لو اقتصر على هؤلاء لكان أحسن صنعاً.
وجل ما آخذ به الأول هو أنه فاجأ جهلة المسلمين بما لا يفهمون من المبادئ الدينية الصحيحة والأغراض الشريفة فأرادوا غير ما أراد وفهموا غير ما فهم. وهذا ما دعا إلى إلحادهم (!) ومروقهم من الدين (!) بعد أن كانوا مخرفين وأنه أول لهم بعض آيات الكتاب فاتخذ التأويل قاعدة حتى أولوا الملك والشياطين والجنة وبين لهم حكم العبادات وأسرارها وسفه لهم رأيهم في الأخذ بقشورها دون لبابها فتركوها وأنه قال لهم أن الولي آله باطل والله آله حق فأنكروا الإلوهية حقها وباطلها.
يتبع.
دمشق:
صلاح الدين القاسمي.