الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 52/أخبار العلماء بأخبار الحكماء

مجلة المقتبس/العدد 52/أخبار العلماء بأخبار الحكماء

مجلة المقتبس - العدد 52
أخبار العلماء بأخبار الحكماء
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 6 - 1910


من الكتب الجيدة في التراجم هذا الكتاب للوزير جمال الدين أبي الحسن علي القفطي من أهل القرن السابع طبع أولاً في ليبسيك وأعيد طبعه في القاهرة فتداولته الأيدي وعم الانتفاع منه كما عم من قبل كتاب عيون الآن باء في طبقات الأطباء لموفق الدين أبي العباس أحمد المعروف بابن أبي اصيبعة من أصل ذاك القرن إلا أن كتاب أخبار الحكماء مال فيه صاحبه إلى الاختصار حتى جاء في نحو نصف طبقات الأطباءِ وإن كان زاد عليه بعض التراجم لأن المترجمين في كلا السفرين النفيسين تجاوزوا الأربعمائة.

سرد ابن القفطي أسماء مترجميه على حروف المعجم بحسب تقادم عهدهم بخلاف ابن أبي أصيبعة الذي أتى بالتراجم بحسب الأقطار ثم بحسب سني ولاداتهم ولم يشبع الأول الكلام إلا في بعض الأشخاص وربما أوجز في الأحايين إيجازاً لا يكاد يقع فيه ابن أبي أصيبعة إلا نادراً والغالب أن هذا وقف في جملة ما وقف عليه من الكتب كتاب القفطي فاستعان به وزاد عليه لأن هذا توفي سنة 646 في حلب وابن أبي أصيبعة توفي سنة 668 في صرخد من بلاد الشام ولا يعقل أن يكون رجلان متعاصرين ولا يطلع أحدهما على ما يكتبه الآخر فقد نرى بعض التراجم في بالحرف الواحد في كلا الكتابين ولعل المصادر التي أخذ عنها المؤلفان كانت واحدة فجاءت بعض تراجم مترجميهم بعبارة واحدة.

ومع أن ابن القفطي اشتهر بأنه من كبار غلاة الكتب وهو ذو ثروة واسعة وفي منصب الوزارة نرى ابن أبي أصيبعة من طبقة الأطباء في عهده يهدي كتابه إلى أحد وزراء دمشق ومع هذا تقرأ فيه سعة المادة المدهشة ولكن المتأخر قد يفوق المتقدم ولا عبرة بتقادم الميلاد كما لا عبرة باختلاف البلاد إذا كان الترقي فيها عاماً.

وهنا لا بأس بإيراد طرف من ترجمة صاحب أخبار الحكماء زيادة في البيان فهو علي بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد بن موسى وزير حلب القاضي الأكرم الوزير جمال الدين أبو الحسن بن القفطي أحد الكتاب المشهورين وكان أبوه القاضي الشرف كاتباً أيضاً ولد بقفط من الصعيد الأعلى بالديار المصرية وأقام بحلب وكان بقوم بعلوم من اللغة والفقه والحديث وعلوم القرآن والأصول والمنطق والنحو والهندسة والتاريخ والجرح والتعديل ولد سنة ستين وخمسمائة وتوفي سنة ست وأربعين وستمائة وكان صدراً محتشماً كامل السؤدد وجمع من الكتب ما لا يوصف وقصد بها من الآفاق وكان لا يحب من الدنيا سواه ولم يكن له دار ولا زوجة وأوصى بكتبه للناصر صاحب حلب وكانت تساوي خمسين ألف دينار وله حكايات غريبة في غرامه بالكتب وهو أخو المؤيد بن القفطي ومن شعره:

ضدان عندي قصرا همتي ... وجه لحبي ولسان وقاح

إن رمت أمراً خانني ذو الحيا ... ومقول يطمعني في النجاح

فأنثني من حيرة منهما ... لي مخلب ماض ومالي جناح

شبه جبان فرَّ من معرك ... خوفاً وفي يمناه غضب الكفاح

وله من التصانيف كتاب الضاد والظاء وهو ما اشتبه في اللفظ واختلف في المعنى الخط. كتاب الدر الثمين في أخبار المتيمين. كتاب من ألوت الأيام عليه فرفعته ثم ألوت عليه فوضعته. كتاب أخبار المصنفين وما صنفوه. كتب أخبار النحويين كبير كتاب أخبار مصر من ابتدائها إلى أيام صلاح الدين ست مجلدات كتاب أخبار المغرب كتاب تاريخ اليمن كتاب المحلي في استيعاب وجوه كلا. كتاب إصلاح خلل صحاح الجوهري كتاب كلام علي الموطا لم يتم كتاب الكلام على صحيح البخاري لم يتم تاريخ محمود بن سبكتكين وبقية كتاب تاريخ السلجوقية تاب الاستئناس في أخبار آل مرداس كتاب الرد على النصارى وذكر مجامعهم كتاب مشيخة تاج الدين الكندي كتاب نهزة الخاطر ونزهة الناظر في إحسان من ظهور الكتب اهـ.

وعلى ما توخى ابن القفطي من الاختصار في التراجم تسقط فيه على أمور كثيرة وفوائد غزيرة خصوصاً وإن من الرجال من ترجمهم هو وحده ومنهم من تفرد ابن أبي أصيبعة ومنهم وهم الأكثر من اشتركا معاً في ترجمتها مثل الذي نقله عن الخطيب أمين الدولة أبو الحسن علي الأباني العثماني الأموي القفطي صاحب القاضي الأكرم قال: وكان من أجمل رأيت نباهة وفضلاً وبلاغة ومشاركة قال أدركت جلة المشايخ من إجلاء بلادنا وهم مجموعون على أن الذي أردم أراضي أكثر قرى مصر وأسس الجسورة المتوصل بها من قرية إلى قرية في زمن النيل هو أرشميدس فعل ذلك لبعض ملوكها وسببه أن أكثر القرى بمصر كان أهلها إذا جاء النيل تركوها وصعدوا إلى الجبال المقابلة لها فأقاموا بها إلى أن يذهب النيل خوفاً من الغرق وإذا أخذ النيل في النقص نزل كل قوم إلى أراضيهم وشرعوا في الزرع فكان ما تطامن من الأرض يمنعهم ما انحبس فيه من الماء عن الوصول إلى ما علا فلا يوصل إليه إلا بعد جفافه فلا يمكن زرعه فيذهب بذلك فعل كثير ولما علم أرشميدس بذلك في زمنه قاس أراضي أكثر القرى على اعلى ما يكون من النيل وأردم ردوماً وبنى عليها القرى وعمل الجسورة ما بين القرى وفي أواسط الجسورة قناطر ينفذ الماء منها من أرض قرية إلى أخرى فزرع كل واحد منهم الزرع في وقته من غير فوات ووقف من كل ضيعة أرضاً معينة يصرف مغلها في كل سنة إلى إصلاح هذه الجسورة فهي إلى الآن معلومة ولها ديوان مفرد بمصر يعرف بديوان مدن الجسورة وعليها احتراز كثير وعناية كثيرة وأعرف وأنا طفل وقد أضفيت هذه الجهة بالأعمال الشرقية من جوف مصر إلى والدي رحمه الله وله نواب وضمان ومشدون كان العمل فيها أتعب من جميع الأعمال اهـ.

ومثل قوله في ترجمة جالينوس الحكيم بأن أنطونيوس قيصر ملك اثنتي عشرة سنة وبنى مدينة إيليوبوليس وهي مدينة بعلبك أي أصلحها وقال في ترجمة سنان بن ثابت بن قرة الحراني ما نصه: وكانت منزلة سنان كبيرة عند الأمراء والوزراء فمن ذلك أن الوزير علي بن عيسى بن الجراح وقع إليه في سنة كثرت فيها الأمراض والأوباء توقيعاً نسخته: فكرت مد الله في عمرك في امر من في الحبوس وأنهم لا يخلون مع كثرة عددهم وجفاء أماكنهم أن تنالهم الأمراض وهم معوقون من التصرف في منافعهم ولقاء من يشاورونه من الأطباء في أمراضهم فينبغي أكرمك الله أن تفرد لهم أطباء يدخلون إليهم في كل يوم ويحملون معهم الأدوية الأشربة وما يحتاجون إليه من المزورات وتتقدموا إليهم بأن يدخلوا سائر الحبوس يعالجوا من فيها من المرضى ويريحوا عللهم فيما يصنفونه لهم إن شاء الله تعالى. ففعل سنان ذلك ثم وقع إليه توقيعاً آخر: فكرت فيمن بالسواد من أهله وأنه لا يخ لو من أن يكون فيه مرضى ولا يشرف متطبب عليهم لخلو السواد من الأطباء فتقدم مد اله في عمرك بإنفاذ متطببين وخزانة من الأدوية والأشربة يطوفون في السواد ويقيمون في كل صقع منه مدة ما تدعو الحاجة إلى مقامهم ويعالجون فيه ثم ينقلون إلى غيره. ففعل سنان ذلك وانتهى أصحابه إلى سورا والغالب على أهلها اليهود فكتب سنان إلى الوزير علي بن عيسى يعرفه ورود كتب أصحابه عليه من السواد بأن أكثر من بسورا ونهر ملك يهود وأنهم استأذنوا في المقام عليهم وعلاجهم أو الانصراف عنهم إلى غيرهم وأنه لا يعلم بما يجيبهم به إذا كان لا يعرف رأيه في أهل الذمة وعلمه أن الرسم في بيمارستان الحضرة قد جرى للملي والذمي. فوقع الوزير توقيعاً نسخته: فهمت ما كتبت به أكرمك الله وليس بيننا خلاف في أن معالجة أهل الذمة والبهائم صواب ولكن الذي يجب تقديمه والعمل به معالجة الناس قبل البهائم والمسلمين قبل أهل الذمة فإذا فضل عن المسلمين ما لا يحتاجون إليه صرف في الطبقة التي بعدهم فاعمل أكرمك الله على ذلك واكتب إلى أصحابك به ووصي بالتنقل في القرى والمواضع التي فيها الأوباء الكثيرة والأمراض الفاشية وإن لم يجدوا بذرقة توقفوا عن المسير حتى يصيح لهم الطريق ويصلح السبيل فإنهم إذا فعلوا هذا وفقوا إن شاء الله تعالى اهـ.

وفي هذه الرسائل الثلاث نموذج مهم من الكتابة الرسمية في أوائل مدة العباسيين ودليل على ما بلغته الحضارة في عهدهم أيام كان الطب في جملة ما يعنى به حتى أن سنان ابن ثابت أحصى الأطباء في بغداد ولم يرخص لأحدهم أن يطبب إلا إذا أخذ شهادة بكفاءته وكذلك فعلوا مع الصيادلة حتى لا تؤتى الأمة من جهة الطب أبدانها كما حاذر الخلفاء أن لا تؤتى من قبل أديانها.

وكما تجد المحاسن ماثلة في أخبار الحكماء ترى المساوئ كذلك كالتي ذكره في ترجمة عبد السلام بن عبد القادر الجيلي المعروف بالركن قال: كان عبد السلام هذا قد قرأ علوم الأوائل وأجادها واقتنى كتباً كثيرةً في هذا النوع واشتهر بهذا الشأن شهرة تامة وله تقدم في الدولة الإمامية الناصرية وحصل له بتقدمه حسد أرباب الشر فثلبه أحدهم بأنه معطل وأنه يرجع إلى أقوال أهل الفلسفة في قواعد هذا الشأن فأوقعت الحفظة عليه وعلى كتبه فوجد فيها الكثير من علوم القوم وبرزت الأوامر الناصرية بإخراجها إلى موضع ببغداد يعرف بالرحبة وأن تحرق بحضور الجمع الجم منها ففعل ذلك وأحضر لها عبيد الله التميمي البكري المعروف بابن المرستانية وجعل له منبر صعد عليه وخطب خطبة لعن فيها الفلاسفة ومن يقول بقولهم وذكر الركن عبد السلام هذا بشر وكان يخرج الكتب التي له كتاباً كتاباً فيتكلم عليه ويبالغ في ذمه وذم مصنفه ثم يلقيه من يده لمن يلقيه في النار اهـ.

ومثلما نقله من الفقرات في ترجمة موسى بن ميمون الإسرائيلي الأندلسي لما نادى عبد المؤمن بن علي الكومي البربري المستولي على المغرب البلاد التي ملكها بإخراج النصارى منها وقدر لهم مدة وشرط لمن أسلم منهم بموضعه على أسباب ارتزاقه ما للمسلمين وعليه ما عليهم وبقي على رأي أهل ملته فأما أن يخرج قبل الأجل الذي أجله وأما أن يكون بعد الأجل في حكم السلطان مستهلك النفس والمال.

ومما ذكره وهو يدل على اتساع ثروة العرب في ترجمة بني وسى بن شاكر محمد وأحمد والحسن من أن محمداً صار بالعلم من وجوه القواد إلى أن غلب الأتراك على الدولة وذهبت دولة أهل خراسان وانتقلت إلى العراق فعلت منزلته واتسع حاله إلى أن كان مدخوله في كل سنة بالحضرة وفارس ودمشق ونحوها نحو أربعمائة ألف دينار ومدخول أحمد أخيه نحو سبعين ألف دينار. فتأمل مبلغ هذه الثروة.

ومما نقتبسه من هذا الكتاب أنموذجاً على درجة الحضارة في القرن الخامس ما نقله من كتاب كتبه المختار بن الحسن بن عبدون الحكيم الطبيب البغدادي المعروف بابن بطلان من نصارى كرخ بغداد إلى الرئيس هلال بن الحسن بن إبراهيم ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم. إنا لما اعتقده من خدمة سيدنا السيد الأجل أطال الله بقاءه وكبت أعداءه دانياً وقاصياً وافترضته من طاعته مقيماً وطاعناً وأضمرت عند دواعي حضرته العالية وقد ودعت منها الفضل والسؤدد والمجد والفخر والمحتد أن أتقرب إليها وأجدد ذكرى عندها بالمطالعة مما استطرفه من أخبار البلاد التي أطر قها واستغربه من غرائب الأصقاع التي أسلكها خدمة للكتاب الذي هو تاريخ المحاسن والمفاخر وديوان المعاني والمآثر ليودع أدام الله تمكينه منها ما يراه ويلحق ما يستوقفه ويرضاه وعلى ذكره فما رأيت أحداً بمصر وهذه الأعمال أكثر من الراغب فيه وكل رئيس في هذه الديار متشوق إليه متشوف ولوصوله مترتب متوقع ولو وصلت منه نسخة لبلغ الجانب لها أمنيته في ربحها ونفعها وإلى الله تعالى أرغب في نشر فضيلته الباهرة ومحاسنه الزاهرة بجوده. وكنت خرجت من بغداد وبدأت بلقاء مشايخ البلاد وخواصها واستملاء ما عندهم من آثارها وعجائبها فذكري أخبار مستطرفة وعجائب غريبة واقطاع من الشعر رائقة ولضيق الوقت وسرعةالرسول أضربت عن أكثره واقتصرت على أقله وكنت خرجت على اسم الله تعالى وبركته مستهل شهر رمضان سنة أربعين وأربعمائة مصعداً في نهر عيسى على الأنبار ووصلت إلى الرحبة بعد تسعة عشرة رحلة وهي مدينة طيبة وفيها من أنواع الفواكه ما لا يحصى وبها تسعة عشر نوعاً من الأعناب وهي متوسطة بين الأنبار وحلب وتكريت والموصل وسنجار والجزيرة وبينها وبين قصر الرصافة مسيرة أربعة أيام ورحلنا من الرصافة إلى حلب في أربع رحلات وهي بلد مسور بالحجر البيض فيها ستة أبواب وفي جانب السور قلعة أعلاها مسجد وكنيستان وفي إحداهما مكان المذبح الذي كان يقرب عليه إبراهيم عليه السلام وفي أسفل القلعة مغارة كان يخبأ فيها غنمه وإذا حلبها أضاف بلبنها الناس فكانوا يقولون حلب أم لا ويسأل بعضهم بعضاً عن ذلك فسميت حلب وفي البلد جامع وست بيع وبيمارستان صغير والفقهاء يفتون على مذهب الإمامية وشرب أهل البلد من صهاريج وعلى بابه نهر يعرف بقويق يمد في الشتاء وينضب في الصيف وفي وسط البلد علوة صاحبة البحتري وهو قليل الفاكهة والبقول والنبيذ إلا ما يأتيه من الروم (الأناضول) وما بحلب موضع خراب ومنه خرجنا من حلب طالبين إنطاكية وبين حلب وبينها يوم وليلة فبتنا في بلدة للروم تعرف بعم فيها عين جارية يصاد منها السمك ويدور عليها رحى وفيها من الخنازير والنساء والعواهر والزنا والخمور أمر عظيم وفيها أربع كنائس وجامع يؤذن فيه سراً والمسافة التي بين حلب وإنطاكية لأرض ما فيها خراب أصلاً إلا أرض زرع للحنطة والشعير بجنب شجر الزيتون وقراها متصلة ورياضها مزهرة ممياهها متفجرة وإنطاكية بلد عظيم ذو سور وفيصل ولسوره ثلثمائة وستون برجاً يطوف عليها بنوبة أربعة آلاف حارس ينفذون من القسطنطينية من حضرة الملك فيضمنون حراسة البلد سنة ويستبدل بهم في الثانية وشكل البلد كنصف دائرة قطرها يتصل بجبل والسور يصعد من الجبل إلى قلته ويستتم دائرة وفي رأس الجبل داخل السور قلعة تبين لبعدها من البلد صغيرة وهذا الجبل يستر عنها الشمس فلا تطلع عليها إلا في الساعة الثانية وللسور المحيط بها دون الجبل خمسة أبواب وفي وسطها قلعة القسياني وكانت دار قسيان الملك الذي أحيا ولده بطرس رئيس الحواريين وهو هيكل طوله مائة خطوة وعرضه ثمانون وعليه كنيسة على أساطين ودائر الهيكل أروقة يجلس فيها القضاة للحكومة ومعلمو النحو واللغة وعلى أحد أبواب هذه الكنيسة فنجان الساعات يعمل ليلاً ونهاراً دائماً اثنتي عشرة ساعة وهو من عجائب الدنيا وفي أعلاه خمس طبقات في الخامسة منها حمامات وبساتين ومقاصير حسنة وتخر مكنها المياه وهناك من الكنائس ما لا يحد كثرة كلها معمولة بالفص المذهب والزجاج الملون والبلاط المجزع وفي البلد بيمارستان يراعي البطريك المرضى فه بنفسه وفي المدينة من الحمامات ما لا يوجد مثله في مدينة من اللذاذة والطيبة فإن وقودها من الآس وماؤها سيح وفي ظاهر البلد نهر يعرف بالمقلوب يأخذ من الجنوب إلى الشمال وهو مثل نهر عيسى وخارج البلد دير سمعان وهو مثل نصف دار الخليفة يضاف فيها المجتازون يقال أن دخله في السنة أربعمائة ألف دينار ومنه يصعد إلى جبل اللكام وفي هذا الجبل من الديارات والصوامع والبساتين والمياه المتفجرة والأنهار الجارية والزهاد والسياح وضرب النواقيس في السحار وألحان الصلوات ما يتصور معه الإنسان أنه في الجنة. وفي أنطاكية شيخ يعرف بأبي نصر بن العطار قاضي القضاة فيها له يد في العلوم مليح الحديث والإفهام وخرجت من إنطاكية إلى اللاذقية وهي مدينة يونانية لها ميناء وملعب وميدان للخيل مدور وبها بيت كان للأصنام وهو اليوم كيسة وكان في أول الإسلام مسجداً وهي راكبة البحر وفيها قاض للمسلمين وجامع يصلون فيه وأذان في أوقات الصلوات الخمس وعادة الروم إذا سمعوا الأذان أن يضربوا الناقوس وقاضي المسلمين الذي بها من الروم. ومن عجائب هذا البلد أن المحتسب يجمع القحاب والغرباء المؤثرين للفساد من الروم في حلقة وينادي على كل واحدة منهن ويتزايد الفسقة فيهن لليلتها تلك ويؤخذن إلى الفنادق التي هي الخانات لسكنى الغرباء بعد أن تأخذ كل واحدة منهن خاتماً هو خاتم المطران حجة بيدها من تعب الوالي لها فإنه متى وجد خاطياً مع خاطية بغير ختم المطران ألزمه جناية. وفي البلد من الحبساء والزهاد في الصوامع والجبال كل فاضل يضيق الوقت عن ذكر أحوالهم والألفاظ الصادرة عن صفاءِ عقولهم وأذهانهم اهـ. .

وبعد فإن تاريخ القفطي من الكتب التي أجاد فيها مصنفها حريٌ بأن يستفيد منه كل متأدب ومتعلم ويرجع إليه كل عالم ومؤرخ سلس العبارة جميل المأتى ينقل الأمور على علاتها في الأكثر بدون تمحيص لها أو إبداء رأي فيها وابن أبي أصيبعة يفوقه في رد كل قول إلى قائله وضبط الأعلام والتدقيق في التواريخ وأخبار الرجال وذكر شذور من شعرهم ونثرهم والكتابان كفرسي رهان أو كالسلسلة المفرغة لا تدري أين طرفاها.