مجلة المقتبس/العدد 40/إسبانيا والعمران العربي
→ مصالح الأبدان والأنفس | مجلة المقتبس - العدد 40 إسبانيا والعمران العربي [[مؤلف:|]] |
حالة المسلمين الاجتماعية ← |
بتاريخ: 1 - 5 - 1909 |
تتمة ما في الجزء الماضي
دثرت المدنية الإسلامية الباهرة لا بأيدي المسيحيين الذين كانت تخشى بأسهم بل بصنع أناس من المسلمين أنفسهم نسفوها نسفاً وأعني بهم المرابطين. ولم يلتجيء أمراء العرب في الأندلس إلى هؤلاء الإفريقيين القساة المتبربرين الذين حملوا إلى الإسلام روح تعصبهم المنبعث من ضيق عقولهم الجاهلة إلا بعد أن أوجسوا خيفة على حياتهم وزاد سوء ظنهم في العواقب. هلك المعتضد ونفسهتحدثه بالشر الذي يجره على بلاده وأخلافه. وبينما كان ألفونس السادس ملك طليطلة إذا هو قد أصبح ملكاً على إشبيلية وقرطبة وغرناطة وغدا الأندلسيون مهددين من جهتين فرأوا أن يستسلموا لأبناء دينهم من المرابطين ليدفعوا غارة المسيحي عنهم وهو عدوهم القديم.
وفيسنة 1086 هزم يوسف (بن تاشفين) وعصاباته الإفريقية ألفونس السادس في وقعة الزلاقة شر هزيمة وفي سنة 1100 كتب لهذه العصابات أن تطرد عامة ملوك الطوائف أو تقتلهم وفيعام 1027 استرجعوا مدينة سرقسطة وخضعت إسبانيا كلها لملك مراكش.
وإن الثلاثة الملوك من المرابطين الذين استولوا على الأندلس منذ سنة 1100 إلى 1445 وهم يوسف وعلي وتاشفين كانوا على شجاعة فيهم ضعاف المدارك موسومين بالتعصب لا وقوف لهم على اللغة بل ولا على آداب العرب وأخذوا بتحريض الفقهاء يضطهدون الشعراء والعلماء والفلاسفة باسم الدين حتى اضطر هؤلاء أن يصمتوا أو أن يفروا بأنفسهم إلى بلاد أعدائهم القدماء ملوك قشتالة ونزلوا مدينة طليطلة حيث توفروا على تخريج النصارى يعلمونهم من أحكام الترقي ما كان ينقصهم للحاق بالمسلمين.
ومن الغريب أنه لم ينشأ على عهد عبد الرحمن الثالث والحكم الثاني على كثرة حرصهم على المعارف علماء متجرون وفلاسفة عظام في البلاد الأندلسية المستعربة. وعلى العكس كنت ترى الفلاسفة يكثرون في عهد الشدة أيام أخذ المتعصبون من أهل الدين يطاردون كل من يجرأ في أرض الأندلس على مخالفة مذهب مالك. نعم كانوا ينبغون على حين غرة من أولئك المتنطعين وينيلون إسبانيا العربية مجداً لم يبلغه المسلمون أيام كانوا مشارقة صرفاً. فجاء الأندلس أمثال ابن باجة وابن الطفيل وابن زهر ولاسيما أبو الوليد ابن رشد الذ تخرج بابن باجة وانتمى إلى ابن الطفيل وصحب ابن زهر.
هذه الفلسفة التي انتقد عليها فيما بعد لخلوها من الإبداع قد كان لها شأن عظيم في حضارة القرون الوسطى بأن كانت واسطة النقل إلى الغربيين الذين أضاعوا حتى الاسم من معارف اليونان على ما تلقتها عنهم مدرسة الإسكندرية وبفضل هذه المدرسة تسنى لعلم الفلسفة واللاهوت (علم الكلام) في القرون الوسطى في الغرب أن تتصل التقاليد المدرسية بآداب النهضة.
كان للشعراء مقام كريم بين الناس بمافطروا عليه من التصورات فكانوا على طبيعتهم الشرقية لا يأتون ما يخالف روح الإسلام وكان الملوك بما فيهم من الاستبداد الطبيعي والأغراض السياسية يمقتون الفلاسفة. هذا إلى ما هنالك من حقد المتنطعين والمتفقهين وما جبل عليه الشعب الإسباني من أخلاق التعصب وكان الإسبانيون بانتحالهم الإسلام يزيدون المسلمين تعصباً إلى تعصبهم.
وكان عبد الرحمن الثالث والحكم الثاني من التسامح على جانب مع العلماء ولقد اتهم المنصور حاجب هشام الثاني بأفكاره الفلسفية فلم يدفع عنه هذه التهمة إلا بتكبير مسجد قرطبة ونسخ القرآن بيد، وإدرار الهدايا والعطايا على العلماء والفقهاء وتخريب خزانة كتب الحكم الثاني لأنها كانت عبارة عن كتب فلك وفلسفة وجغرافيا وطب فأحرقت وبإحراقها بادت إلى الأبد كنوز لا تقدر بثمن ونال لقاء ذلك رضا المتنطعين فخلا له الجو في قصره وأخذ يشتغل بالدروس التي يحظرها على الناس ويشتد في الإنكار عليها. وما أتاه من هذا القبيل سياسة قام به المرابطون مدفوعين إليه بعامل من الاعتقاد ونابل من أمزجتهم.
فكما أحرقت سنة1150 كتب ابن سينا في بغداد بأمر الخليفة رأينا بابن باجة يسجن بدعوى المروق من الدين ويضطر ابن واهب من إشبيلية أن يخلى عن دروسه الفلسفية إبقاءً على حياته ويقتل ابن حبيب من أهل تلك المدينة لاتهامه بالفلسفة. ويضطهد ابن الطفيل حتى يضطر إلى الاعتراف جهاراً بإيمانه الصحيح ومعتقداته الخالية من الشوائب. وهكذا انقضى زهاءُ قرن والكتب تحرق في أطراف إسبانيا الإسلامية وبها يبيد أثمن ذخر من الآداب العربية.
حاول السلطانان الأولان من الموحدين وهما عبد المؤمن ويوسف وكانا يميلان إلى الحرية أن يخففا من تعصب عصاباتهما ومن تشدد المتنطعين من المتصوفة حتى حظر عبد المؤمن إحراق الكتب على نحو ما كان يفعل المرابطون لإبادتها وأحسن معاملة ابن الطفيل وابن زهر وابن باجة. وأغدق يوسف وكان أعلم أمراء عصره على ابن الطفيل من إنعامه الشيء الكثير وقرأ عليه فلسفة ابن رشد وفوض إليه أرقى المناصب ومنها منصب القضاء في إشبيلية ثم أقامه طبيباً أول فيقصره (1183) ووسد إليه منصب قاضي القضاة في قرطبة على نحو ما كان أبوه وجده. وأفاض عليه يعقوب المنصور بالله ما كان له من أسلافه وزاد عليه ولكن إرادة شخص ولو كان ملكاً لا تقوى على صد هجمات تيار الرأي العام ولاسيما في عصر كان فيه سلاطين الموحدين مضطرين إلى إضرام جذوة التعصب فينفوس رعاياهم المسلمين من الأندلسيين لمعاكسة ملوك قشتالة وأراغون الذين كانوا على الدوام يتقدمون إلى الأمام.
وفي سنة 1196 بعد وقعة الأركوس التي كتب فيها النصر للمنصور على ألفونس التاسع صاحب قشتالة قويت شوكة الحزب الديني في القصر السلطاني ونكب ابن رشد على شيخوخته نكبة هائلة تناولت كثيرين من العلماء والأطباء والشعراء بل والفقهاء متهمين بحرية الفكر والخروج عن مقصد الجماعة. وطرد العامة ابن رشد على أبشع صورة من الجامع الأعظم في قرطبة وكان ذهب إليه لأداء الصلاة مع ابنه عبد الله الذي كان من أعظم عمال تلك المدينة ونفي إلى مدينة لوسنا اليهودية. وفي غضون ذلك صدر أمر من المنصور يحظر فيه على مراكش وإسبانيا درس الفلسفة المضرة والعلوم وما يتعلق بها ولم يستثن من هذا الحظر إلا الطب والحساب ومبادئ الفلك. وعهد بتنفيذ أمره إلى ابن أخت ابن زهر وكان فيلسوفاً كخاله فصدع بالأمر والخوف رائده. ثم إن ابن رشد نال الرضا من سلطانه قبل موته بأربع سنين وعاد المنصور يتوفر على دراسة ما كان يحظره على أمته من العلوم ولكن بعد أن ضربت الفلسفة الإسبانية العربية ضربة لا يجبر كسرها.
وإذ طردت العلوم الإسلامية من بغداد ومراكش وإسبانيا لم يبق لها غير مصدر واحد تلجأ إليه في طليطلة حيث طلبت حماية الدول المسيحية التي هي ألد أعدائها وكان سبقها إلى تلك العاصمة كثير من المسيحيين والإسرائيليين من أهل الأندلس فزعوا إليها لتحمي حياتهم ومعتقداتهم. وإذ كان المرابطون والموحدون متعصبين بالفطرة اضطروا أن يتظاهروا بالتعصب سياسة أيضاً فكانوا يعيشون في جهاد دائم لمقابلة المسيحيين من سكان الشمال الذين لم يكونوا دونهم في الانغماس بحمأة التعصب أيضاً للدفاع عن كيانهم في بلادهم ولم ير أولئك المرابطون والموحدون وسيلة إلى بث دعوتهم في نفوس أبناء دينهم أحسن من إثارة روح التعصب في جمهور العامة المتعصب وليس من سبيل إلى إقناعهم إلابتحسين دينهم لهم واضطهاد غيره من الأديان. فلا عجب من ثم إذا عومل نصارة الأندلس بأقصى الشدة وخربت كنائسهم وصودرت أموالهم وغدوا على الدوام مهددين في حياتهم. ولما عيل صبرهم استصرخوا ألفونس السابع المعروف بحبه للحرب والضرب فاقتصر من نجدتهم على غزو المسلمين في عقر دارهم ولكن بدون طائل إذ قاسى مسيحيو الأندلس من تلك الغزوات ضروب النكبات فقتل بعضهم أو نفي إلى إفريقية (1125) على صورة متوحشة بحيث هلكوا بأسرهم قبل أن يبلغوا منفاهم.
وجرى استئصال شأفة النصارى سنة 1136 على أقسى وجه حتى لم يبق منهم باقية في الأندلس ومن نجوا من الموت والتشريد لجؤا إلى قشتالة. وهكذا أسدى المرابطون والموحدون لنصارى الشمال معروفاً عظيماً غير متوقع بما توفروا على القيام به من العسف حتى نقضوا العهد الذي كان عقد بين إسبانيا الجنوبية والمسلمين العرب وقووا الشعور الوطني والتحمس الديني في الأندلسيين وجمعوا بين الإسبانيين من سكان الشمال ومن سكان الجنوب بما بينهم من أواصر الجنس والدين فقاموا قومة رجل واحد في وجوه المسلمين مسوقين إلى ذلك بحب الانتقام المتأصل بين الإسلام ومن يخلفه. وما كان الاضطهاد الذي نال أهل الصناعات الوديعين من المغاربة بعد خمسة قرون إلا جواباً طال التفكر فيه ودعت إليه قسوة المرابطين والموحدين وكان نتيجة تعصب مماثل لذاك التعصب ورأي سياسي مشابه لتلك الآراء وإن كان إلى الصراحة أقرب.
ولم يلبث امتزاج الشعوب الإسبانية على اختلاف العناصر والدين إن أثمر الثمرة المطلوبة فانهارت قوة الموحدين في وقعة لاس نافاس دي تولوزا (1212) وسقطت قرطبة (1238) وإشبيلية (1254) وبلنسية ومرسية في أيدي الإسبانيول وغدا هذا الاسم بعد حين جامعة دينية أكثر مما هو جامعة جنسية لأن جميع من لم يرتدوا عن الإسلام دخلوا في سواد العرب البربر وامتزجوا فيهم أي امتزاج. وإن المغاربة الذين رضوا بأن يعيشوا في الأندلس عيش التنبت إلى القرن السابع عشر ليصعب عليهم أن يبرهنوا على أنهم من دم إفريقي ثم أنه يتعذر على الإسبانيول أيضاً أن يذكروا أنسابهم لأن بعضهم مخضرمون خلاسيون فيهم الدم العربي وقليل منهم سرى إليهم دم البربر إبان الفتح وآخرون أصبحوا إفريقيين صرفاً عند زوال ذاك السلطان وخفوق راية الإخفاق على ربوع الأندلس الإسلامية.
ومما قوى أمل المسلمين في المستقبل وزادهم نشاطاً كثرة عديدهم فقد طرد منهم فرديناند الثالث بعد دخوله إشبيلية زهاءَ ثلثمائة ألف مسلم من أهل هذه المدينة فلجؤا من إشبيلية إلى قرطبة وجيان وبلنسية وغرناطة حيث بقيت دولة بني نصر مائتين وخمسين سنة أيضاً وعلى هذا كانت غرناطة آخر ملجأ للعمران العربي أزهر أي أزهار عندما أوشك بالانقراض فرأت حدائق الحمراء البهجة كبار الشعراء والمؤرخين من العرب أمثال محمد بن الخطيب وابن خلدون يجتازانها هما وابن بطوطة الجغرافي العظيم.
كان من نتائج وقعة لاس نافاس دي تولوزا أن حررت إسبانيا من رق العبودية للمسلمين وأدرك ملوك قشتالة أن ليس من العقل مقاطعة الماضي القديم وأنهم في حاجة بعد إلى أن يتعلموا من معلميهم القدماء ومنافسيهم الألداء (المسلمين) فحاول ألفونس العاشر خليفة القديس فرديناند الثالث واكن أوسع ملوك عصلره مدارك أن يعمل لإسبانيا المسيحية ما عمله العرب لإعلاء شأن الإسلام وذلك بالأخذ بأحسن ما فيالحضارتين ومزجهما بالحضارة الإسبانية.
فأسس سنة 1254 في إشبيلية مدرسة عامة لاتينية عربية وحفظ لمدينة مرسية رونقها العربي الصرف واستدعى إلى عاصمته العلماءَ من جميع الملل والأجناس ليؤسس مدرسة طليطلة الثانية وقوامها اختيار أحسن المعارف النافعة وهي أقرب إلى التسامح من المدرسة الأولى إذ كانت تجمع إلى التقاليد اللاتينية الحضارة العربية والعلم العبراني. وذلك لأن الإسرائيليين على سعة آمالهم في أحكام صلات التآلف بينهم وبين مسلمي الأندلس وما عرفوا فيه من مرونة الأخلاق قد عوملوا أسوأ معاملة وأوذوا في أنفسهم كما آذى المرابطون والموحدون نصارى تلك البلاد. فقتل الإسرائيليون ونفوا ومن سعدهم أن لجؤا إلى أرض ملوك قشتالة وأراغون الذيمن أحسنوا استقبالهم وكان لهم في بلاطهم شأن مهم أواخر القرن الخامس عشر فكان منهم أمناء الخزائن ومستشارون وأطباء للملوك. وبلغ عددهم في طليطلة أيضاً زهاء اثني عشر ألف شخص. وظل اليهود إلى ذاك الحين أقدر التراجمة على نقل الحضارة العربية وبما ترجم منها إلى لغتهم نجت أثمن آثار تلك الحضارة لأن الموحدين والمرابطين أخذوا يبددون كتبها عامة. وكان زان بن زاكت ويهوذا هاكوهن والربان زاك هم الذين نقلوا لألفونس العالم معظم كتب التاريخ والفلسفة والفلك عند العرب مع الشروح التي علقها عليها الشراح. وأتى دهر ظن فيه أن ألفونس العاشر سيحيي إسبانيا بعد موتها.
ظهرت الكنيسة أنها طمع في تنصير المسلمين بالبرهان فوضع أحد الرهبان الدومينيكيين واسمه رامون مارتي أول معجم عربي باللغة الإسبانية سنة 1230 وفي سنة 12 ـ 1311 امتدح البابا كليمان الخامس في إحدى المجامع الدينية من إنشاء كرسي لتعليم العربية في مدرسة سالامنكة. وفي أواسط القرن الثالث عشر كان الدومينيكيون مثالاً لغيرهم بإنشاء مدارس لتعليم اللغات الشرقية ليقف رهبان من أهل الغيرة على لغات غير أبناء دينهم ومعتقداتهم ويباحثوهم ويجادلوهم. وقد أنشأ يعقوب الأول صاحب أراغون مدرسة مثل هذه في ميرامار إكراماً لثلاثة عشر راهباً فرنسيسكانياً وأخذ المجمع الديني في طليطلة ينفق على طغمة من الرهبان مؤلفة من ثمانية أشخاص ينقطعون إلى دراسة اللغة العربية ليقاوموا الفقهاء والمشايخ بسلاحهم. وعلى هذا التقليد ظلت الجمعيات الدينية ولاسيما الفرنسيسكان إلى القرن الثامن عشر في إسبانيا هي القائمة بدعوة الاستشراق أي درس آداب الشرق ولغاته وتاريخه.
كانت وطنية الإسبانيين متشبعة بروح السخط وحميتهم قائمة على التعصب وعدم التسامح وسياسة ملوكهم إلى الشدة ولذلك نالوا ما طمحت إليه نفوسهم من استتباع المسلمين بدراسة علومهم وقد نشأت من هذا الاحتكاك حضارة ذات قلب وإبدال مركبة من حضارتين مهمتين بغناهما ثم استقل الإسبانيون بعقولهم المرنة الشديدة المروضة وأصبحوا مصدر حضارتهم ومقرري مدنيتهم.
اعترفت إسبانيا بما هي مدينة به للحضارة العربية بما حفظته لها في مدارسها من الشأن حتى بعد أن تحررت من قيودها. كان في سالامنكة التي استحقت أن تجعل في مصاف باريز وأكسفورد وبولونيا إحدى المراكز العلمية الأربعة في الغرب سبعون حلقة للتدريس وربما بلغ عدد طلبتها سبعة آلاف في القرن السادس عشر ولم تنل هذه الشهرة الطائرة أولاً إلا لكونها بتأثير العلم العربي أقامت على أساس معقول تعليم العلوم الطبيعية والطب التي كانت إلى ذاك العهد مغشاة بتجارب تافهة وعمليات مضحكة من نحو السحر والطلسمات. ولم يكن في سالامنكة في أواخر القرن الثالث عشر على عهد البابا بونيفاس الثامن غير خمسة وعشرين حلقة للتدريس منها حلقة لليونانية وأخرى للعبرانية وثالثة للعربية.
ولقد أصيبت هذه الحركة المثمرة المباركة بضربة شديدة عندما عاد ملوك الكاثوليك فاستولوا على غرناطة سنة 1492 واستصفوا أرض إسبانيا وأبادوا آخر مملكة إسلامية من شبه جزيرة الأندلس. ومنذ ذاك العهد أعادت حرب لا على دين أصحاب تلك البلاد ونعني بهم المسلمين بل على جنسيتهم ومدنيتهم. وقد جرت العادة بأن تلقي تبعة هذا العمل على رجال الدين من الإسبانيين ممن كانوا في الحقيقة متفانين في تنفيذ هذا العمل وذاهبين بفضل الربح فيما قاموا به من الذرائع على أن هذا الحكم لا يخلو من غلو ووضع المسؤولية في غير موضعها وذلك لأن ملوك الكثلكة مثل شارلكان وفيليب الثاني وفيليب الثالث الذين نسب إليهم الفخار بهذه الأعمال هم اليوم يبوؤن بالقسم الأعظم من العار. فكانت الشدة فيهم منبعثة عن رأي سياسي كاذب أكثر مما هي عن تعصب ديني ويراد بها التوسع في الملك على وجه سخيف. فطمع الإسبانيون بعد الوحدة السياسية والملكية التي نالوها بالصبر عليها قروناً أن يضموا إليها الوحدة الأدبية المتناهية في الخيال وهي التي كان يتصورها لويس الرابع عشر بفكره القاصر وانتهت بفسخ الأمر الصادر في نانت. وكان الفكر السائد منذ عهد فرديناند الكاثوليكي إلى فيليب الخامس بين جميع حكومات إسبانيا أن يعملن كلهن على تطبيقه على ضعاف المغاربة بالشدة التي جرين عليها في الأزمان السالفة فكن يقاومن أمراء المسلمين في الأندلس مقاومة ليس بعدها مقاومة. ومثل ذلك كان يجري على الإسرائيليين بصورة أكثر شدة ولكن لا تكاد يشعر بها لأن اليهود كانوا عبارة عن طائفة أقل من المسلمين وكان الغضب والأحقاد الشخصية تصب عليهم في الفترات متقطعة ثم زاد التعصب الإسباني وعجل بالقضاء على كل مخالف. وأكد فرديناند وإيزابيلا للمغاربة في غرناطة والأندلس بأنهم في حلٍّ من البقاء في أرض إسبانيا وأن يكونوا أحراراً في دينهم على شرط أن لا يدعوا إليه وأن تجعل جميع مساجدهم كنائس كاثوليكية. ولما قضى نحبه الكردينال بدرو كونزالز دي مادوزا سنة 1495 قام الكردينال كسيمنس دي سيسنروس رئيس أساقفة طليطلة ومن قدماء الأساتذة ومن الشاهدين على ما قالته إيزابيلا وحاكم إقليم قشتالة ينقض العهد الذي تم مع المسلمين رياءً ونفاقاً. وكان هذا الرجل معروفاً بسعة نظره وقوة عارضته في العمل بكل رأي يراه صواباً فيدعو على العمياء لتأييد الحكم المطلق للمقام البابوي أو للحكومة الملكية.
وأنشأ القوم بعد ذلك لا يكتفون بدعوة المسلمين إلى النصرانية بل يتطلعون إلى تعميدهم أو طردهم فجرى تعميد ألوف في إشبيلية وطليطلة وقرطبة وغرناطة من أولئك البائسين من المسلمين ممن اضطرتهم المصلحة والخوف واحترام المتغلب وحب الأرض التي ولدوا فيها أن يرضوا بتغيير معتقداتهم وقلوبهم منكرة عليهم أعمالهم ثم تكفل ديوان التفتيش الديني بمراقبتهم لتتبين له طهارة اعتقادهم. ومنذ سنة 1501 ـ 2 طرد من قشتالة ومملكة غرناطة كل من ظلوا محافظين على الإسلام ولم يعد للدومينيكيين والفرنسيسكانيين من حاجة لتعلم العربية ليتمكنوا بها من مجادلة الفقهاء وتخلوا عن علومهم لأنها أفسدت أفكارهم وزهد المسيحيون في علوم المسلمين إذ قام في أذهانهم أنها خطرة عليهم. ولذلك رأينا الكاردينال كسيمنس عندما أسس أو أحيا سنة 1499 كلية الكالادي هنار استنكف أن يضيف إلى دروسها حلقة لتعليم العربية مع أنه نسج في تأسيسها على منوال مدرسة سالامنكة وجعل فيها حلقتين لتدريس العبرية واليونانية فرأى أن تكون هذه المدرسة الجامعة لتلقي علوم اللاهوت وأن تبث الدين الذي يريد الملوك والبابا أن يروه غاماً موطداً الدعائم من أقصى إسبانيا إلى أقصاها. وكان أعظم أستاذ في سالامنكة في القرن السادس عشر فري لويس دي ليون شاعراًً لاهوتياً وفيلسوفاً مستشرقاً يحسن اللغة العبرية كل الإحسان ولكنه يجهل العربية.
صدر أمر الكردينال كسيمنس سنة 1511 بعد أن أحرق في ساحات غرناطة كمية من الكتب العربية ولاسيما من المصاحف المخطوطة أن تباد كتب العرب من بلاد إسبانيا عامة فتم ذلك بغيرة عمياء مدة نصف قرن ولولا تلك المترجمات إلى العبرية واللاتينية لقضي على الحضارة العربية بجملتها التي امتد رواقها على إسبانيا مدة ثمانية قرون ولم يبق لعينها من أثر. وكاد ديوان التفتيش الديني على ما أخذ به نفسه من إبادة كل أثر للعرب أن يجعل طعاماً للنار تلك المخطوطات العربية التي حفظت في خزانة كتب الأسكوريال لولا أن تلطف الماركيز فيلادا وحال دون إحراقها. أما متنصرة المغاربة الذين دانوا بالنصرانية مكرهين فلم يكونوا يستطيعون إبداءَ أسفهم إلا سراً وفي الكتب العربية المكتوبة بالعجمية أي الإسبانية المكتوبة بحروف عربية دليل على تعلق أولئك المتنصرة بقديمهم.
ولم يحظر فيليب الثاني سنة 1556 على متنصرة المسلمين حمل السلاح فقط بل منعهم من استعمال اللغة العربية وأرادهم على أن تنزع من أسمائهم التراكيب العربية ومن أجسامهم الألبسة الشرقية ليدل بذلك على أنه يريد مزجهم في سواد أبناء المذهب الكاثوليكي. ثم إن قدماء المسيحيين من الإسبان كانوا كل حين يحتقرون أولئك المتنصرة على نحو ما كان العرب قديماً أيام عزهم يزدرون بالمولدين ولما ضاقت صدور المغاربة انتفضوا على احكومة فشتت شملهم في أودية البوجاراس وبعد مقاومة شديدة نفي أولئك المتنصرة أو سجنوا في أواسط بلاد إسبانيا وأصبحوا أمراء (1558).
سيم المسلمون في إسبانيا سوء العذاب فحاولوا ثانية أن يشقوا عصا الطاعة على عهد فيليب الثالث وعندها نفوا آخر مرة وعددهم نحو مليون نسمة على صورة قاسية سخيفة. ولم يبق إذ ذاك من الحضارة العربية واللغة العربية غير ذكراهما البعيد وأصبحتا مزدرىً بهما. وهنا لا يسعنا إلا الاعتراف بأن الإسبانيول عاملوا الكتب والناس على نحو ما جرى المرابطون والموحدون وكانوا يمقتون أكثر لو لم يستعيضوا عن المدنية التي قضوا عليها بمدينتهم التي كانت إذ ذاك في أوائل أنبلاج فجرها فإن تخالفت النتيجة فالطرق إليها سواءٌ في اللوم والتقريع.
ومما لا يقبله العقل لولا أنه حقيقة أن إسبانيا التي كان للمدنية العربية عليها أيادي بيضاء قد بلغت بها الحال إلى أن تناستها بالكلية. فكان يزهد خلال القرن السابع عشر والثامن عشر بالمرة في تعليم اللغة العربية في أرض إسبانيا ولم يكن له أثر إلا إذا كان على طريقة سرية إفرادية وغدا الاطلاع على العربية نقصاً وربما اتهم من يتعلمها بالإلحاد ولم تبق مدرسة تريلنك لرهبنة الفرنسيسكان في إشبيلية من أساليب تعلم العربية إلا أثراً ضئيلاً فكان يكفي الطالب منها أن يلفظ الأسماء المستعملة ليذهب بعد إلى إفريقية وآسيا داعية للنصرانية ومن كان يحب التقدم منهم في معرفتها مجذوباً بما حوت من الآداب الغنية لم يبلغ شوطاً كبيراً في معرفتها إذ لم يكن يراها أحد عنوان مجد لإسبانيا الكاثوليكية في عصره.
ومن العدل أن يقال أن إسبانيا كانت منذ عهد فيليب الرابع إلى شارل الثالث تتخبط في المسائل الشاقة سواءٌ كان في شؤونها الداخلية أو الخارجية فلم يترك لها انحطاطها السياسي والعملي وقتاً ولا قوة لدرس العربية والتفرغ للبحث في تاريخ الحضارة الإسلامية وقد أوشكت على عهد شارل الثالث ملك الفلاسفة أن تعود العربية وآدابها إلى ما كانت عليه من الحياة في إسبانيا وإن كان بعض الإسبانيين إلى اليوم ينكرون على هذا الملك أفكاره على أنه كان له في إسبانيا الحديثة شأن أقل من فيليب الثاني وإن كان مثله في مكانته وسلامته ففيليب الثاني وشارل الثالث هما الملكان الكاثوليكيان اللذان بلغا بمملكة إسبانيا أوج الفخار أما شارلكان فهو أوربي أكثر منه إسباني وإن كانت إسبانيا بلد أمه. وبآثار ذينك الملكين يعثر في كل خطوة من يزور شبه جزيرة إسبانيا. فقد بلغ من جرأة شارل الثالث أن ضرب الماضي ضربة أدخلت إسبانيا في الحياة الجديدة التي أخذ شعوب الغرب يستمتعون بها فأراد وهو مشغول القلب بماضي مملكته شغله بسمتقبلها أن يعيد إلى إسبانيا عهد الآداب العربية فاستدعى لذلك رهباناً موارنة من سورية وأنفق عليهم النفقات الطائلة ليعلموا الإسبانيين لغتهم الأصلية الثانية. وكان هذا العمل من الصعوبة بحيث لم يكف عصر شارل الثالث (1759 ـ 1788) لإتمامه هذا مع ما وقف في سبيله من الأوهام والعثرات حتى إذا مضى لسبيله انقطع العمل الذي قصد إليه. بيد أنه يحق للنصف الثاني من القرن الثامن عشر أن يباعي بأساتذة متمكنين من أسرار العربية أمثال القصيري وكامبومان والأب بلانكري وكوندو وفري باتريسيو دولانور وغيرهم.
جرَّت حروب نابوليون الويلات والاضطرابات على شبه جزيرة الأندلس وانقطع على عهد فرديناند السابع كل عمل يراد به إحياء العلم على نحو ما بدأ به شارل الثالث. ولما تولت الملك إيزابيلا الثانية قويت النهضة وخلصت النيات للتجديد ودخل الإصلاح إلى تلك الكليات القديمة التي كانت تتسكع في ديجور الباطل والعاطل إلا أن مسألة تعلم اللغة العربية كانت في الدرجة الثانية بالنسبة لما شرع فيه من إصلاح التعليم سنة 1845 على يد المسيو جيل دي زارات وبفضل هذا عادت العربية تدرس في الكيات رسمياً.
ولما استلمت الحكومة الإسبانية سنة 1857 زمام إصلاح التعليم من دون رجال الدين أو الملك أو الأشراف ربحت اللغة العربية حتى كادت تعود إليها حياتها التي كانت لها في شبه جزيرة الأندلس منذ القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر ثم إن فقد إسبانيا لمستعمراتها في أميركا وآسيا ضاعف حركتها العلمية وطمحت بها آمالها السياسية نحو استعمار أفريقية أي مراكش.
فأخذت معرفة اللغات والآداب العبرية والعربية من تلقاء نفسها تدخل في قائمة دروس التعليم العالي وأصبحت المجموعة النفيسة من المخطوطات العربية الموجودة في مكتبة الأسكوريال ومكتبة الأمة ومكتبة المجمع العلمي التاريخي ميداناً للمستعربين من الإسبانيين يبحثون فيه ما شاؤا ويضاف إلى تلك الأسفار الثمينة المجموعة النادرة جداً من المخطوطات العربية المكتوبة بحروف عبرية الت احتفظت بها رهينة الكنيسة الكاتدرائية في طليطلة. دع عنك تلك النفائس التي اقتنتها بعد مكتبة العالم كايانكوس وما اقتناه الأستاذ كودرا في رحلاته إلى مراكش وتونس.
وعندنا أن للمستشرق كايانكوس الفضل في أنه خط للمشتغلين بالعربية في إسبانيا طريقاً مهيعاً فقام على أثره زمرة من العلماء وفي مقدمتهم المحترم الدكتور فرنسيسكو كودرا الذي احتفل بيوبيله احتفالاً دل على عواطف أهل العلم الأوربي. وقد أصبحت مينتان من مدن إسبانيا كهف اللغة العربية ونعني بهما مجريط (مدريد) وغرناطة فنبغ في مجريط الدكتور كودرا أستاذ الكلية الوسطى والدكتور فرناند إيكونزالز والأب لازكانو الذي أخذ يبحث في اللهجة السورية في دير الأسكوريال وهو العمل الذي بدأ به في بيروت. وغير هؤلاء العلماء بالمشرقيات وقد انضم إلى هاته الزمرة الغيورة أناس من الفتيان أخذوا على أنفسهم الجري على آثارهم لإتمام العمل الذي بدأوا به وتقوية روابطه مثل الكاهن المسيو ميكل أسين أستاذ اللغة العربية في الكلية الوسطى والأستاذ ريبرا أستاذ كلية سرقسطة الذي يدرس في مجريط حضارة المغاربة والعبرانيين والمسيو آلماني مدرس اليونانية والعالم المشهور بالعربية والمسيو فيف عضو المجمع العلمي التاريخي والمؤرخ الأثري المحقق والمسيو كونزالفو خازن كتب السجلات الوطنية والمسيو فيلالتا الذي قضى شطراً مهماً من حياته في مزغان والدار البيضاء وطنجة.
وقد كانت غرناطة فيما مضى مثل مجريط اليوم عاصمة الأندلس فحق لها أن تكون مركز الدروس العربية وكان الدكتور فرنسيسكو جافيه سيمونه هو الذي رفع مقام هذه اللغة وعد تحصيلها فرضاً رسمياً على الطلاب في غرناطة. مات مؤخراً وهو مشهور بأبحاثه العديدة في الجغرافيا والتاريخ وأصول اللغة والآداب الإسبانية الإسلامية وأخصى في حل الخطوط العربية ومثله الدكتور ليوبولد أكويلاز والدكتور ماريانو كاسبار ريميير وامتازت إشبيلية بأبحاثها الكتابية المتعلقة بغرناطة وهو الفرع الذي برز فيه الأستاذ الماكرو كاردناس ولكل من مدينتي برشلونة وسالامنكة صفان لتدريس العربية العامية وتجد مثل هذين الصفين في مالقة وقادش وبالمادي ولورقة وتنيريف في قناريا.
ولا يسعنا أن ننسى ما أصدره كل من الدكتور كودرا والدكتور ريبرا تاراغو من الأثر النفيس باسم المكتبة العربية الإسبانية فإنهما لم ينشرا منذ سنة 1882 إلى 1892 أقل من عشرة مجلدات في أصول اللغة والتاريخ والجغرافيا والأدب والنقود العربية في إسبانيا. ومما لا يصح السكوت عليه ما نشر باسم مجموعة الدروس العربية بمساعي الدكتور ماريانو دي بانو والدكتور دودرا وقد بلغ ما نشروه حتى الآن سبعة مجلدات.
وإنك لتجد في إسبانيا ميداناً عجيباً للدرس وذلك لأن المخطوطات والكتابات كثيرة فيها على الرغم مما أصابها من التلف منذ القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر كما تقرأ ذكرى الحكومة العربية في كل حجر يقع نظرك عليه بل في كل وجه يتمتع طرفك بمرآه وتجد العاملين المدربين على العمل كثاراً فلا يعوزك إلا أن تدعوهم فيستخرجون معك الدفائن والكنوز. ولولا الصفات الشخصية التي فطر عليها المشتغلون بالعربية من الإسبانيين بالنظر لانفرادهم وقلة معونة الحكومة لهم وجهل الأمة قيمة ما يشتغلون به لما كان للعربية في إسبانيا ذاك المقام المحمود فقد رأينا الحكومة تتشدد في توصيد تدريس العربية في الكليات إذا خلت من مدرسيها فتقتصد بذلك رواتب المدرسين أو تعهد بالتدريس إلى أناس غير متمكنين منها حق التمكن كما فعلت في سالامنكة وبرشلونة ووسدت التعليم فيهما إلى مدرس اللغة العبرية. والمعلوم أن العلم كلما ارتقى احتاج إلى أناس متحجرين وأخصائيين. والأخصاء في فن يفتح لصاحبه السبيل فيبذل جهده في نقطة واحدة وبذلك يبرع ويبرز.