الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 40/حالة المسلمين الاجتماعية

مجلة المقتبس/العدد 40/حالة المسلمين الاجتماعية

مجلة المقتبس - العدد 40
حالة المسلمين الاجتماعية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 5 - 1909


أيها السادة

إن من يلقي نظرة التاريخ الإسلامي ويرى ما كان عليه المسلمون في القرون الأولى من عزة الجانب وقوة السلطان وحرية الأفكار واتحاد الكلمة وما هم عليه اليوم من وهن العقيدة وضعف العزيمة وانحلال الرابطة قد نالت منهم الأهواء وفتك فيهم داء الشقاء تذوب نفسه حسرة وأسى ويتشوق إلى الوقوف على ما أصاب المسلمين فبدّل من حالهم ونزل بهم م مستوى العظمة إلى حضيض الضعة والمهانة وهم اليوم أعز من سلفهم نفراً واكثر مالاً وأرقى عيشاً وهذا كتاب الله وسنة رسوله وهما الأساس المتين الذي قامت عليه قوة الإسلام ومنهما قد انبثق نوره وأضاءت محجته يتليان بين ظهرانيهم بكرة وعشياً. وهذه معاهدهم العلمية تخرج في كل عام من رجال الدين وحملة الشريعة وأرباب الأقلام ما يربو عدده أضعافاً مضاعفة على ما تخرجه قرون كثيرة في أول الإسلام.

ليت شعري كيف لا يذهل قاريءٌ التاريخ مما وصلت إليه حالة المسلمين وهو يرى أن الإسلام قد ظهر بتعاليمه السامية ومبادئه العالية فأشرق نورها على أفئدة قوم لم يسبق لهم عهد بالمدنية ولم يعرفوا بين الأمم إلا بجفاءِ التربية وعبادة الأوثان وشن الغارات وشظف العيش وخشونة الطباع اللهم إلا بعض أخلاق كريمة كالكرم والوفاء ونحوهما مما لا يعد ركناً وكيناً تستند عليه الأمم في نهضتها فما لبث أن حرر الأفكار من عقالها وبعث الهمم من مراقدها وأنشأ منهم نشأ جديداً فلم تكن عشية أو ضحاها حتى تجلت عروس تلك المدنية العربية في ثوبها القشيب جامعة بين قوة السلطان وصولة العلم بين التسامح والشدة فعمروا الأرض وأحيوا فيها موات الفضيلة وبلغوا شأواً عظيماً من رقة الشعور وصفاء العقل فمكنهم ذلك من التلطف بالأمم حتى وقفوا على خفيات أخلاقها وعاداتها وكشفوا ما كان مستوراً عهدها واستخرجوا من كنوز معارفها ودقائق حكمها ما ظهر فضله على الأوربيين بعد عدة قرون من البعثة النبوية.

نعم لم يمض جيل حتى أخذت دولة العلم تعانق دولة الإسلام في جزيرة العرب وما فتحه المسلمون من الأمصار فينبغ فيهم الحكيم والطبيب والفيلسوف والمهندس والمخترع والفقيه والمحدث والسياسي المحنك والأصولي البارع والإمام العادل فأخذ هؤلاء يجوبون الآفاق يقودون طلائع تينك الدولتين أينما حلوا حل معهم ما استفادوا من صنائع الفرس والآر وعلوم المصريين والرومانيين بعد أن هذبوه وغسلوا عنه ما تراكم عليه من الأوضار بأيدي الرؤساء في الأمم حتى غدا بفضلهم أبلج ناصعاً يختال في حلة عربية تدهش الناظرين وتزري بكل شيء في العالمين.

وإن ديناً هذا شأنه في ترقية الشعوب وتهذيب النفوس لجدير بأن لا يقف بأهله تيار الرقي والتيكلما توالت الأيام وحرصوا على التمسك بمبادئه ونهجوا منهجه القويم، فما هو هذا الداء العضال الذي مني به المسلمون فتقاعسوا عن اللحاق بأسلافهم وتقطعت بهم السبل وبرح بهم داء الفشل.

ارجع البصر معي أيها السامع الكريم وانظر إلى ما وصلت إليه حال المسلمين. إنك لا تجد إقليمين متجاورين أو ناحيتين في إقليم أو قريتين فيناحية أو بيتين في قرية وأهل أحدهما مسلمون والآخر غير مسلمين ألا وتجد المسلمين أقل من جيرانهم نشاطاً وانتظاماً في جميع شؤونهم الحيوية والعمومية وأقل من نظرائهم في كل فن وصنعة وأعظم إهمالاً وأكثر خمولاً وأكبر شقاقاً وأحقر نفوساً وأتعس حالاً حتى توهم كثير من حكماء الأمم الحية لينصفوا التاريخ أن الإسلام والنظام ضدان لا يجتمعان وعدوان لا يأتلفان.

أيها السادة

إن علينا واجباً كبيراً وفرضاً محتماً أمام الله ورسوله والناس أمام الشرف والتاريخ لا نخرج من عهدته ولا نبرأ من تبعته إلا إذا وجهنا جل عنايتنا وصرفنا أوقاتنا وقللنا شباة يراعنا بحثاً وتنقيباً حتى نصل إلى تشخيص هذا الدواء ومعرفة جراثيمه وأعراضه وما يستأصلها من الدواء الناجع وهذا أفضل جهاد نثاب عليه من الله والتاريح ولنعم الجهاد هذا الجهاد لذلك رغبت في أن يكون هذا المبحث الجليل موضوع محاضرتي اليوم طرقته مستعيناً بالله وربما أوتيته من العلم فأقول:

اختلف الباحثون من العلماء في منشإ هذا الفتور فذكروا أسباباً كثيرة كلها فروع ترجع إلى أصل واحد ألا وهو الانحراف عن جادة الكتاب والسنة وتلمس الهدى من غيرهما فحقت علينا كلمة القرآن إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى. وقد ذكرنا في المقدمة ما كان عليه العرب قبل الإسلام من الأعراث في البداوة لم يتبلغوا بشيء من التعليم والترف ولم يشموا رائحة العلم والصناعة فما كادوا ينفضون عنهم غبار الوثنية حتى ظهر من أمرهم ما قصصناه عليك. وذلك أن الدين الإسلامي كما أنه يدعو الناس إلى توحيد الله والإيمان بما بعد الموت من عالم الغيب يدعوهم أيضاً إلى الإيمان بعالم الشهادة والسير على سنن الكون قد أطلق لهم عنان الحرية وطالبهم بالتفكر فيما خلق الله من عالم السماوات والأرض قد وضع لهم قانوناً جامعاً لضروب الهداية متكفلاً لهم أن هم اتبعوه ونصروه بإصلاح شؤونهم في هذه الحياة الدنيا قد أحكمت أصوله على قاعدة جلب الداقع ودرء المفاسد والإرشاد إلى أنه الدين القيم الفطري الملائم لإصلاح النفوس بالأخلاق الفاضلة وإصلاح شؤون البشر الاجتماعية بإقامة العدل واتباع الطريقة المثلى في كل شيء. سنة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله.

فهم السلف الصالح هذا الأصل من القرآن فاهتدوا بهديه ولم يحيدوا عنه قيد شبر عالمين (إن من أقام هذه الأركان كلها كان هو المسلم الكامل ومن هدمها كلها كان ملحداً في دينه ومن كان أقرب إليها كان حظه من السعادة بمقدار سهمه منها) وأن ليس بعد القرآن والسنة إلا الضلال والعمى كما قال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.

تفرع أيها السادة عن هذا الأصل الوبيل أمراض هشمت من عظمة الإسلام وشوهت من محاسنه فأول جرثومة سرت منه إلى المسلمين رجحان كفة السياسة الكاذبة على كفة الدين الصحيح لحاجة في نفس بعض الأمراء المستبدين كانت الحكومة الإسلامية في أحكامها نيابية اشتراكية (ديموقراطية) كما نطق بذلك القرآن الكريم وأرشدت إليه السنة وظلت كذلك زمن الخلفاء الراشدين إلى أن وقع النازع بين علي ومعاوية فاتخذ بنو أمية ذلك ذريعة حول مجراها وقيد معالها وجعلها ملكاً عضوضاً يمكله فرد يستبد به كيف شاء فبدأ يتطرق إلى الأمة داء الذل ووجد الضعف منفذاً إلى قلوبهم ووجد الأبرياء من بعدهم مع توالي الأيام مجالاً فسيحاً من صدور أولئك الذين نصبوا أنفسهم قادة للدين وسموا أنفسهم حماة الشريعة فوضعوا لذلك أصولهم في التشيع والاختلافات في أصول الدين وفروعه فانشغل بها الناس وصدقوا عن الكتاب والسنة وولوا وجوههم شطر البدعة وذهبوا شيعاً متباينة مذهباً متباعدة سياسة ومشرباً كل طائفة تجادل عن نفسها وتدعو إلى كتابها ولو أدى ذلك إلى تكفير الأخرى فخرج الدين عن حضارة أهله وتحول عن بساطته واتسع الخرق وانحلت الرابطة الإسلامية بل والقومية وفشت المنكرات وانطمست معالم السنن وتحكم التقليد لأنه أثر من آثار التشيع بل ركن من أركانه.

التقليد

التقليد وما أدراك ما التقليد التقليد هو قيد الأحرار وسجن العقول وهادم الأفكار وعدو الشرائع ومبيد الأمم وجيش الاستعباد.

كان الإسلام ملة سمحاء ليلها كنهارها واضحة المسالك معروفة الواجبات سهلاة المأخذ يتلقفها الأعرابي الجافي من فم الرسول ﷺ فلا يبرح من مجلسه إلا وقد خالطته بشاشة الإسلام وأشرب في قلبه التوحيد كما قال تعالى: ما جعل عليكم في الدين من حرج شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه.

عجباً كيف يرضى المسلم العاقل أن يغل أعز شيءٍ وهبه الله وهو العقل بغل التقليد والاستسلام ويلقي بنفسه في براثن الجمود والله قد أمره بأن يكون على بصيرة في دينه فقال تعالى: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني إنما ضل من الخلد إلى التقليد بعد أن تبين له الحق كمثل رجل أراد أن يسلك طريقاً مستقيماً واضح المسالك لا عوج فيه فوسوس إليه الشيطان قال: هل أدلك على طريق آخر هو أقرب إلى غايتك فانصاع له فأخذ يقوده كالأعمى في طريق مظلم كله تعاريج وعقبات فلما أن توسطاه قال إني بريء منك وتركه يتخبط في ديجور حالك لا يدري أين يهذل كلما أخرج يده بم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فمال له من نور.

أنحى الله باللائمة والتقريع على أهل الجمود من المقلدين في كثير من آي القرآن قال تعالى بعد أن احتج على المشركين وبيّن أن لا حجة لديهم في عبادة الأوثان (با قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون. وما أرسلنا من قبلك في قريسة من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) فقد احتج على المقلدين بأنه يجب عليهم اتباع النظر وما هو أهدى ولم يعذرهم بالتقليد فدل على أن عذر غير مقبول عنده ولو كان التقليد عذراً لأحد لكان جميع المشركين معذورين عنده.

كان الصحابة والتابعون يأخذون أصول الدين وفروعه من القرآن ومايثبت من السنة يحكمون العقل واللغة في تفهمها واستنباط ما لا يجدون فيه نصاً صريحاً وإن اختلفوا في شيء رجعوا فيه إلى ذينك الأصلين كما قال تعالى (فإن تنازعتم في شيء الآية) فهناك يرتفع الخلاف ويرجع المخطيء عن خطئه ويظهر الحق كما وقع لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع أبي بكر رضي الله عنه في قتال أهل الردة وهذا هو الاجتهاد الذي كان سائغاً في السلف الصالح من الأئمة وكأن هؤلاء نظروا إلى المستقبل من طرف خفي فأنكروا أشد الإنكار على من يأخذ بآرائكم في الدين قبل أن يعرف مصدرها من الكتاب والسنة فقد روي عن أبي حنيفة أنه قال لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا وقال الشافعي إذا صح الحديث فهو مذهبي ولكن خلف من بعدهم خلف وقف بهم جمود الفطنة وقصور الهمم عن اتباعهم وتقليدهم تقليداً أعمى فجعلوا مذاهبهم أصولاً يرجع إليها وأخذوا يتفننون في فرض المسائل واستنباط الأحكام من تلك الأصول فتشعبت الآراء وكثرت الاختلافات واتسعت التآليف في الفقه وأصول الدين على غير أسلوب فصيح من اللغة العربية لا يخالها القاريء إلا رموزاً أو أحاجي يتعاصى فهمها على العربي الصميم. يمضي الطالب واأسفاه زهرة العمر في تحصيلها فلا يخرج من تلك المضايق إلا وقد حشر في مخيلته ضروباً من الاصطلاحات والمسائل متشاكسة متنافرة لا تروي من ظمأ ولا تشفي من علة وإن فهم القرآن والسنة لأسهل بكثير من هذه الشروح والحواشي لأن كلامهما عربي مبين لم يتلوث بالعجمة ولم يتدنس بسقم التركيب والآراء فمن تعلم العربية تعلماً صحيحاً تيسر له الفهم منهما فلا يعاني عشر معشار ما يعانيه في تلك المعجمات (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر).

ثم لم يكفهم ذلك حتى حجروا على الله واسعاً فأرصدوا باب الاجتهاد وأسدلوا بين الأمة وبين كتابها ستراً من الأوهام وحرموها لذة النظر والتدبر في معجزاته فأصبح لا يتلى إلا في المآتم وعلى المقابر (تبركاً) يتأكل به أناس من الكسالى يتغنون به على قارعات الطرق وأبواب المساجد يحرفون الكلم عن مواضعه ويشترون به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون من هنا أيها السادة اقتسم هذا الدين فريقان فريق اطمأنت نفسه إلى القديم فهو يريد أن يرجع بالناس القهقرى يحمل أهل القرن الرابع عشر على أن يتخلقوا بأخلاق أهل القرون الوسطى ويحذوا حذوهم في أحكامهم وآرائهم ومدنيتهم فلا يتخطوها قيد شبر يكابرك فيالمحسوسات ويجادلك في الحق وينكر سنة الله في خلقه من أن لكل عصر طوراً من أطوار الحياة يأخذ قسطه من النمو والارتقاء بحسب استعداده أهل ذلك العصر ولذلك كانت نصوص القرآن خصوصاً ما يتعلق منها بالآلاء والأخلاق التي هي أكبر معجزاته مجملة يتناولها أهل كل زمان بقدر ما وصلوا إليه من الرقي.

وفريق رأى من وعورة المسلك وصعوبة الفهم في كتب القوم ما يقطع نياط القلب دون الوصول إلى الغاية وإن كثيراً منها على تشتته وتشويشه لا ينطبق على مقتضيات العصر الحاضر ولا يأتلف مع مدنيته ففرطوا في أمر الدين وأهملوا مجد آبائهم وذهبوا يتلمسون الإصلاح من غيرهما فعبدوا بهرج المدنية الأوربية وصبت إليها نفوسهم حتى أصبح التدين ضرباً من التهوس وسمة من سمات التأخر وساعدهم على ذلك ما رأوا من نظام الغربيين طفرة منهم قد خرجوا من ورطة التقليد الأولى ووقعوا في شر منها فلم يكن من جراء ذلك إلا أنهم قلبوا أوضاع مبانيهم وغيروا من أزيائهم وبدلوا من هيئات مآكلهم وملابسهم وآنيتهم وتنافسوا في أيهم يسبق الآخر في إحكام نظامه إلى أجود ما يكون في البلاد الأوربية وتوغلوا في الإسراف والبذخ وانسابت ميازيب الثروة من أيدي الشرقيين إلى جنوب الغربيين لجلب ما تستدعيه تلك المدنية من الضروريات والزخارف فكسدت بذلك أسواق الصناعات الوطنية ومات أربابها لأنها أصبحت رثة بالية لا تروق في أذواقهم لم تجد معضداً من موسريهم وسراتهم لتنهض من خمولها وتضارع أختها في الغرب كما فعل أهله إبان رقيهم فنخلص من شر ما يضمره لنا المستقبل من الفقر المدقع إن دام هذا السبات لأن ما قريناه من المدنية الكاذبة لم يقم على أساس متين. نعم أنا لا أنكر أن في الأمة الإسلامية كثيراً ممن تعلموا في أوربا فوقفوا على أسباب حياتها وحملوا إلينا شيئاً مما تعلموه ولكن قلَّ أن ترين من هؤلاء مهندساً مخترعاً أو طبيباً مكتشفاً أو عالماً أخلاقياً أو أصولياً مشرعاً وهناك أناس لا يسعون وراء الثروة ويتكلون على الوظائف ومن كان هذا شأنه فمحال أن يعمل لخير بلاده.

قرر علماء الأخلاق والباحثين في أطوار الأمم أن المقلدين في كل أمة المنتحلين أطوار غيرها يكونون سلماً تتطرق الأعداء إليه ويكونون بما وقر في قلوبهم من تمجيد الذين قلدوهم واحتقار من لم يكن على مبادئهم ولو كانوا من أبناء جلدتهم أو إخوانهم أو عشيرتهم فيستهينون بجميع أعمالهم ويحتقرون أمرهم ويسخرون منهم وبهذا وأمثاله وهنت الرابطة القومية وانحلت عقدتها وفقد التضامن الذي عبر عنه عليه الصلاة والسلام بقوله: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً مثل المؤمنين في تعاضدهم وتآزرهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى وكفى بذلك مدعاة للتقهقر والانحطاط ولكن يلوح من بين هذه النابتة الذين تهذبوا بنور العلم وعركتهم يد الحوادث بصيص من الأمل يجعل الأمة تتطلع إلى مستقبل باهر كما قال فيهم بعض الفضلاء: أرى في شجرة الإسلام التي جفت أوراقاً خضراء فلا أدري أهي بقية مما مضي أو باكورة للمستقبل.

البدعة في الدين

أيها السادة

أرأيتم لو أن طبيباً وصف لأحد المرضى علاجاً رأى فيه شفاء فحدد للصيدلي ما يحتاجه ذلك الدواء من العقاقير وبالتالي مقاديرها وكيفية تركيبها فخالف الصيدلي أمر الطبيب وأخذ يزيد وينقص في المقادير كيف شاء حتى جعلها سماً زعافاً لا دواء نافعاً إنكم ولا شك تحكمون على هذا الكيماوي إما بالجهل في صناعته وإما بالغش والخيانة وإنه من أكبر العاملين على تفشي الأمراض وإزهاق الأرواح بسبب ما يرتكبه من الخطل في تلك المهنة الشريفة.

ولكم مثل الذي يبتدع في الدين ويفتري على الله الكذب لأن القرآن والسنة والله هما شفاء لما في الصدور قال الله تعالى: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة. ونزلنا الكتاب تبياناً لكل شيءٍ فالذي يبتدع في الدين إنما يحارب الله ورسوله ويصيب كبد الإسلام بسهم مسموم.

يا حسرة على الإسلام وظهرت بوادر هذه البدع في إبان الإسلام فكان قادة الإسلام يحاربونها بسلاح القرآن يدحضون الحجة بالحجة ويقرعون البدعة بالسنة إلى أن تمكن حب التقليد من النفوس وقل الاشتغال بالتفسير والحديث وأهمل التاريخ فاختلط الحابل بالنابل وراجت سوق الأحاديث الموضوعة وانتفخت بها بطون التآليف لاسيما ما يتعلق منهابالزهد والرغائب والحثّ على القناعة باليسير والكفاف من الرزق وإماتة المطالب النفيسة كحب المجد والرئاسة والإقدام على عظائم الأمور ودب إلى الأمة داء التواكل واسترسلت وراء الأوهام وعلق بالقلوب كثير من أدران الشرك وظهرت المعجزة في حديث لتتبعن سنن من قلبكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم أليس ما نراه اليوم من تعليق الآمال بقبور الصالحين وتشييد الأضرحة وبناء القباب والمساجد عليها والتغالي في زخرفتها ونذر النذور لها وشد الرجال لزيارتها مما يعتقد كثير من الناس أنه من أعظم القربات كان في صدر الإسلام ضرباً من الشرك بل هو الشرك الذي جاء الدين بمحوه.

إن القرآن والسنة لم يتركا باباً من أبواب الشرك إلا وأوصداه بألف حجة وبرهان وخليا بين العبد وربه يناجيه ويرفع إليه حوائجه كيف شاء ومتى شاء لا يحتاج في ذلك إلى وسيط أو وسيلة اللهم إلا ما شرع لنا من وسائل الأعمال الصالحة كما فسر الرسول بذلك الوسيلة في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة.

نرى كثيراً ممن يهتدي بهم يتهافتون على هذه المهلكات تهافت الذباب على الطعام ويقتسمون ما يلقى في الأضرحة من النذور كأنه ميراث ورثوه عن الأجداد والآباء ويؤولون ما ورد في ذلك من النصوص القطيعة محديث: لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها السرج. لا تتخذوا قبري من بعدي وثقاً يعبد. لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى.

أيها السادة هذه هي أمهات البدع التي ألصقت بالإسلام ولولا أنه دين قويم قام على أساس متين لانمحى أثره من الوجود لكثرة ما رزيء به من أمثال هذه الأمراض القتالة.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

لم أرَ ديناً كدين الإسلام خول لكل فرد من أفراد الأمة الإشراف على الشؤون العامة والقيام بأمر الإرشاد والنصيحة وأطلق لهم عنان الحرية في مباشرة هذين الأصلين بحسب ما تستدعيه حالة الأمة. قال الله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فالذي لم يقم بهما لا شك أنه خارج من هيئة المؤمنين.

كان خطباء المساجد هم من القائمين بهذه الوظيفة يمزجون مصالح الأمة بالمواعظ والإرشادات فكانت خطبهم تفعل بالنفوس ما لا تفعله السيوف. هذه كتب الأدب فطالعها إن شئت تجدها مشحونة بخطب السلف من الأمراء وغيرهم على نحو ما تسمعه اليوم عن الغربيين في دور نوابهم ومجالس أعيانهم كم نبهت شعوراً وأحيت أمماً وأماتت جبناً وأصلحت معوجاً وهذبت نفوساً وسنت نظاماً انعكست القضية فأصبح خطباء المساجد إلا قليلاً من أجهل الناس يقولون ما لا يفعلون ويتكلمون بما لا يفهمون من سقط القول فلا تسمع إلا سجعاً كسجع الكهان وإني يؤثر الوعظ إذا كان لا يتجاوز اللسان.

احتياجنا إلى العلم

أيها السادة ما أشبهنا في حياتنا الاجتماعية بالحيوانات الأليفة أو الطيور الداجنة التي يحبسها ربها في الأقفاص تنتظر منه فضالة من طعام أو رشفة من ماء فإن هو منعها ذلك هلكت جوعاً وظمأً إذ ليس لها من الحول والقوة ما تفك به قيود الأسر فتخرج إلى الفضاء آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان.

واأسفاه. سبقتنا الأمم شوطاً بعيداً فأصبحنا في مؤخر الرحل كقدح الراكب عالة عليها في كل حاجاتنا الأدبية والمادية حتى فيما يتوقف عليه فهم كتابنا الكريم من الحكمة العرفية والعلوم الكونية. بربك هل تجد فيما يدرأ عنك طواريءَ العاديات وتدفع به غوائل الحر والبرد مما تذود به من سلاح ولباس وما تسكنه من قصور شامخة ومبان شاهقة وأكواخ حقيرة وما تحتاجه من آنية طعام وشراب وموائد وأخشاء وحرائر وأطالس وفرش ومقاعد ومصابيح ومطابخ وحلي وجواهر ونقود ومعادن وما يحتاجه الزارع في زراعته والكاتب في كتابته والكيماوي في حانوته. هل تجد في كل ذلك أبداً لصانع شرقي اللهم إلا إذا كان مكارياً أو سمساراً أو عاملاً بسيطاً أو تاجراً لا يربح من تجارته إلا اليسير لا يدري أين صنعت ولا كيف صنعت.

جهلنا حقائق الأشياء فلا نعلمها إلا أماني وانتصرنا على ما يتعلق بعلاقة الإنسان مع ربه وحكمنا على ما عدا ذلك بالإعدام وحاربنا أهله وأزهقنا روح التقدم وأطفأنا مصابيح العرفان في الأذهان.

أين منا المؤرخ والنباتي؟ أين منا الطبيب والكيماوي أين منا المهندس والطبيعي واللغوي والأديب والمنطقي أين منا عالم الأخلاق والحكيم والفلكي وعالم الزراعة نعم إن لدينا منكم نفراً ولكن هم دون الحاجة وقليل منهم العاملون.

دعانا داعي الإصلاح فأرشدنا إلى مواقع الضعف منا وإن لا نجاة إلا بمجاراة الأمم الغربية وإن تقلع جذور هذه التربية العقيمة علنا نعمل فلنسترجع مجد آبائنا الأولين أساتذة الغرب فنعق به دعاة السوء من كل جانب إن قد خالفت الدين افتراء منهم على الله وما كانوا مهتدين.

يا قومنا هذا القرآن حجة على الشعوب الإسلامية بما فرطوا من أمر الدين والدنيا تتلى عليكم وفيها من أسرار الكون وعجائب المخلوقات ما لا سبيل لنا إلى فهمه إلا إذا أخذنا نصيباً من هذه العلوم.

قال الله تعالى إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء لآيات لقوم يعقلون وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون. هذه الآيات وأمثالها تسجل علينا العار وإننا لسنا من العقلاء في شيء إذ العقلاء هم الذين تتغذى أرواحهم بمعرفة ما أبدع الله في الكائنات وما ذرأ في الذرات من مباهج الآلاء والحكمة. العاقل من تدعوه لذة النظر إلى الشوق والولوع في حوز المعارف والعلوم.

يا قومنا هذه هي أزمتنا وهذه جراثيمها التي لا تزال تنخر في جسومنا وتفسد من أعضائنا وتميت من مشاعرنا فهل لنا أن نكشف الغطاء عن أبصارنا وبصائرنا فنخرج إلى عالم النور فنحيا حياة طيبة.

يا قومنا لا دواء لنا من هذه الأدواء إلا بالعلم ولا علم إلا بالتربية والتربية مفقودة عندنا نسمع ضجة للعلم وجلبة للمدارس ونبغ فلان وأخذ فلان الشهادة فإذا سرنا في الشوارع أو بين دور الوطنيين نرى ما تذوب له الأكباد نرى فلذاتنا أمة الغد من ذكور وإناث كقطعان الغنم يتلاكمون ويتلاطمون ويتنابزون بكلمات الفحش والفجور قد صبغتهم الأوساخ وشوهت من محاسنهم الأمراض أليس هذا بدليل على أن الأمة لا تزال في أقصى درجات الانحطاط مسخنا نصوص الشريعة الغراء فإذا دعانا داعي الإصلاح أن لا سبيل للرقي إلا بتعليم المرأة صوبنا إليه سهام الطعن وقلنا كذباً وافتراء أن ذلك مخالف للدين.

أفلا تنبهنا الحوادث وتوقظنا العظات وها نحن قد شخصنا أمراضنا وعرفنا أسباب تأخرنا فلم لا نعمل على إزالة هذه الأسباب فنفيق من رقودنا ونهب من سباتنا ونخلص من هذه القيود ونسبح في فضاء الحرية نستبدل بهذا الخور عزيمة وبالذل عزاً وبالاستكانة شهامة وبالتفرق وئاماً وبالجهل علماً.

يا قومنا إن العلم كنز مفاتيحه الأخلاق وحاجتنا إلى هذا الكنز شديدة فهلموا لنهذب من أخلاقنا ونمحو آثار الرذيلة من بيننا ونحافظ على عاداتنا علنا أن نفتح هذا الكنز المغلق فنكون خير أمة أخرجت للناس.