الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 40/مصالح الأبدان والأنفس

مجلة المقتبس/العدد 40/مصالح الأبدان والأنفس

بتاريخ: 1 - 5 - 1909


قد يظن بعض من لا عهد لهم بحالة العرب أيام حضارتهم أنهم كانوا كعرب البادية اليوم لا يكادون يعرفون الأمور الصحية ولا تدبير البدن وأنهم كانوا يسيرون متشبعين بفكر القضاء والقدر إن هلكوا قالوا قضاءٌ وإن عاشوا قالوا قدر. والحقيقة إن القوم كانوا على عناية أكيدة بأمور الصحة وما بقي من كتبهم القليلة المحفوظ بعضها في دور الكتب في الشرق والغرب والمطبوع بعضها يدل دلالة كبيرة على ذلك وأقرب سبيل للإشراف على عناية العرب بتدبير الصحة أن يرجع القاريء إلى كشف الظنون فيرى الكتب التي ألفت في هذا الفن بل إلى تراجم الأطباء في القرون الأولى للإسلام ويقرأُ في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة أسماء الكتب التي صنفوها في تدبير الصحة فقط.

وقد ظفرنا في خزانة كتب السيد أبي الخير عابدين من جلة فقهاء دمشق بكتاب مصالح الأبدان والأنفس لأبي زيد البلخي ولعله الجغرافي المؤرخ المشهور في القرن الثالث: والقطعة مقتطعة من كتاب للمؤلف تغلب عليها الصحة فأحببنا نقله للمقتبس لأن معظم ما تكلم فيه من المصالح كأنه كتب في هذه الأيام قال المؤلف:

تذكرة مقتضبة على سبيل الإيجاز والاختصار من كتاب أبيزيد البلخي رحمه الله تعالى المسمى مصالح الأبدان والأنفس تجنبنا فيه بسط أبي زيد وتطويله وإن كان ملذاً غير مملول ومعسول اللفظ غير مغسول إلا أنا ملنا إلى ما يدركه الحفظ وتقصر في الإحاطة به مساهمة اللحظ وبالله التوفيق والإعانة. . .

باب الحاجة إلى تعهد الأجسام وما في ذلك من استدامة الصحة

إن الجسد يحتاج في تعاضد أركانه وتماسك أجزائه إلى تعهد شديد وتفقد بليغ والنفع في ذلك بين أثره عند من دق نظره. ومثاله ما نراه من حال النمو في الأطفال وأنه يتدرج على ترتيب يخفى عن الحس إلى أن يبلغ غاية التمام والشباب ثم يولى تولية تلطف عن الإدراك حتى يجتمع فيه من أحوال الانتقاض والانتقاص ما تكون جملته محسوسة وإن لم يحسن تفصيله فذلك منفعة التعهد ومضرة الإهمال في خفائهما أولاً ثم ظهورهما أخيراً.

باب في تدبير الأهوية والبلدان

كما يسافر الناس لطلب المعاش فلذلك يجب أن يسافروا لطلب المنازل المحمودة والبع الأهوية الفاسدة فإن بعض الحيوان قد يفعل شبيهاً بذلك مثل أجناس الطير القاطعة وأصناف السمك المثقلة والهواء كالمركب أبداً من طبيعة الماء والتراب اللذين يمر عليهما واختلاف أحوال سكان البلاد في صورهم وأخلاقهم يتولد عن اختلاف هذه الأصول التي هي التراب والمآء والهوآء، وعلى حسب ذلك يجب أن يرغب الحكيم في إصلاح ما يخصه منها. وأفضل المساكن ما كانت تربته عذبة طيبة غير مشوبة ولم تبعد الشمس عن سمت رؤوس أهلها وكان عالياً في إنجاد الأرض وذرى الجبال ليتموج هوآؤُه ولا تحتقن فيه بخارات المياه وأنفاس الحيوان. ويكون ماؤه سبحاً من مناقيع طيبة حرَّة التراب، وتكون مجاريه بارزةً للشمس وحركته شديدة ومسافته من مبدإِه إلى منتهاه بعيدة ولا يكون بقرب المنزل تربة فاسدة أو مياه أَجنة من بطائح ونقائع، وقد يوجد في المواضع الخربة من الأرض تفاوت شديد يجب معه الحرص على طلب الأصلح وإذا دفعت الضرورة إلى نزول بلد هواؤُه فاسد أصلح بالبخورات الموصوفة. وجلب الماء للشرب من المواضع السليمة والانتقال عنه أصلح، فأما السلطان فتنقله في بلاد ملكه يجمع فنوناً من المصلحة منها سرور التنزه، ومنها تخير الأصوب في تدبير الأجسام ومنها توزيع مراعاته على كل حد من حدود ملكه، والهوآء أقوى أجسام هذا العالم تصرفاً وتصريفاً لما لاقيه وهو الذي يؤدي السري من الأجسام السمارية إلى الأرضية ويوصل قوى ما يمر عليه إلى ما يصل إليه كإيصاله الأصوات والروائح التي لو سكن لعدمت، ويجب أن يكون المبيت في الصيف بإزاءِ مهب الشمال، والجلوس فيالشتاء بإزاء مهب الجنوب، وفي الفصلين بإزاء مهب الصبا فهي موصوفة بطيب النسيم ولاسيما في السحر ويجتنب مع ذلك ملاقاة كل ريح عاصفة، وإنما خصت الصبا بالحركة في السحر لإقبال الشمس من ناحيتها فترفق أجزاء الهواء بحرها فيتبدد ويطلب مكاناً أوسع فيحدث النسيم المستلذ، ولأن الشمس تعطي كل ما تلاقيه في أول النهار قوة عجيبة، وأما الدبور فيجب اجتنابها في جميع الأوقات والأحوال. ويجب أن يجعل الجلوس عالياً عن مهب الهواء الجاري على وجه الأرض المشوب بالأبخرة فإنها تكدر الهواء المتنسم فيختر البدن ويفتره ويضعف قوة الحفظ وينقصه، وتستوطن العلالي والمناظر إلا أن يمنعه منها صميم الحر والبرد فيتعوض عنها الأسرَّة والفرش المنضدة قياساً على ما قد تقرر من أن المواضع الجبلية أصح مزاجاً وأنقى هواءً من السهلية. . .

باب تدبير الأكنان والملابس

واجب على الإنسان توقية جسمه الح والبرد من غير مبالغة في ذلك تكسب الترفه وتجلب الضرر عند أيسر تغيير من العادة وترقق أديم الجسم والحرارة أوحى إهلاكاً (؟).

والبرودة أشد مضادة وبذلك يهلك الشتاء النبات ويحوج الحيوان الصامت إلى الاستتار بدل الانتشار ويجب أن تكون مساكن الشتاء منحرفة عن سنن الرياح مستحصفة الحيطان لتكون أحصن. . . تخلل الهوااء واسعة رفيعة السمك ليكون للبخار والأنفاس ودخان الوقود والمصابيح مجال فيها فإنها إن تكاثفت انعكست إلى المسام فكانت لها بئس الغذاء وهذه الصفة في التوسعة وتعلية السمك تلزم في الصيف والشتاء، ويجعل مساكنه مضيئة ما أمكن فإن النفس تنزوي من الظلمة وتستوحش قياساً على الليل والنهار وربما احتيج إلى قرآءة كتاب في الظلمة فلم يكن إلا بإكراه البصر وإكراهه يكله ويضعفه والظلمة مضرة بالبصر فإن قوام النظر بالهواء المعتدل. وشدة الضوء تضره كشعاع الشمس واتصال الظلمة يبطله كما أصاب من طالت مدته في الحبس. ويجب إدفاء بيوت الشتاء بالنار التي يستوي في إحمائها جميع أجزاء البيت لتستوفي لذة الدفاء من جميع الجهات كفعل الحمام فإن اختفت مقادير السخونة أضرت بحسب خروجها عن الانتظام والاعتدال، إلا أن يحتاج أن يسخن بعض أعضائه فيجري ذلك مجرى العلاج ويبتدىء فيدخل في أول البرد إلى الأروقة ثم إلى المواضع التي تليها ثم يتدرج إلى المواضع الغامضة بحسب زيادة البرد كحال الداخل إلى الحمام في التنقل بين بيوته فإن لزوم التدريج بين الأضداد واجب، ويتقي برد الخريف أكثر من اتقائه برد الربيع لأن ذلك مقبل وهذا مولٍ، وأعدل الثياب القطن ولذلك لا يصيبها السوس ولا تسرع إليها الآفة وهي ملابس الشتاء والكتان للصيف لبرده ولتنشيفه العرق ييبسه، والصوف قوي الحرارة مضر بالأبدان التي تكثر حرارتها ويجب أن يختار من الملابس ما كان ناعماً لتلتذه حاسة اللمس، ويكون في الشتاء خفيفاً ليمنع البخار الخارج من الأبدان من النفوذ فينعكس إليها فيكون به الدفاء وهذا حقيقة الدفاء وبه تدفأ الأوبار أكثر لأن الكثافة فيها أوفر، واحتقان الأبخرة في أثنائها أعظم، وثوب الصيف متخلخل شفاف بضد ذلك إلأا أن يكون ضاحياً بارزاً في الصيف فيحتاج إلأى لباس كثيف ليوقي جسمه الحر، ومن كان محروراً واضطر إلى الوبر فليجتنب الثقيل الطويل الشعر كالثعلب، وليجتنب ما كان ضاماً للبدن كله كالأقبية ونحوها، وليقتصر على ما يدفئ الظهر فهو أشد ما في البدن برداً إلا أن الأعضاء التي فيها الحرارة كالكبد والقلب في البطن دون الظهر ولذلك يكون ابتداء الأمراض عنه أعني الظهر فإن الأخلاط فجة هناك فتبتديء الطبيعة بها ولا يغم رأس المعدة قإنه موضع حساس، وللصفراء هناك تسلط ربما آذاه لصوق الوبرية بل يجتهد أن يصل إلى هذا الموضع روح الهواء ما لم يضره، أو يخالف عادته ويتوقى ملاقاة الريح فإن التحرز من البرد فيها لا يمكن في الهواء الساكن فإن اضطر إلى ذلك استكثر من الدثار وتلثم وسد منخريه ولم يستنشق من الهواء البارد بل يتنفس من كمه أو ما يستره، وإن كان ممن يمشي مشي فسخن جوفه وإن لم يكن ممن يمشي ركب دابة كثيرة الحركة محوجاً له إلى الرياضة ودلك بدنه وقتاً بعد وقت فإن الحركة تقاوم البرد ودليل ذلك ما تشاهده من جمود الماء الواقف قبل الجاري ولا يباشر السفر في هذه الحال، إلا بعد أن يغتذي غذآء خفيفاً غير تام ويجعل فيه كالثوم والخردل، وأنفع من ذلك كله الشراب الموصوف فإنه يسخن الدم في عروقه. ويختار للصيف المساكن الفسيحة الكثيفة الحيطان التي للرياح الهابة فيها مخترق وترش وينضح الجسد بماء الورد ويروح عنه فأما السراديب والمواضع العميقة فتجتنب البتة فإن أهويتها غليظة تكسل وتفتر وإذا جلس في الخيش استعلى عن سطح الأرض بالأسرَّة وما يجري مجراها واحتال لوصول الهواء من أعالي البيت ليخفف عنه ثقل الهواء الثقيل المنحصر فيه ويكون الاستكنان في الخيش في وقت الظهيرة لا قبله ولا بعده ويستعمل الأطعمة الحارة في الشتاء فعلاً ومزاجاً والأطعمة الباردة في الصيف.

باب تدبير المطعم

من أخذ من الغذاء قدر حاجته من غير زيادة عليه ولا تقصير عنه دامت له الصحة، وكان مثله كالمصباح يمد من الدهن بما لا ينقطع عنه فيطفئه ولا يغمره فيفرقه وأقوى الأغذية غذاء اللحم، ولذلك صارت السباع التي تغتذي به أقوى من غيرها والأمم التي تنفرد باستعماله أشد بطشاً وأكثر غناءً في المصاولة ممن سواها كالأتراك ومن أشبههم وأفضله المعتدل الذي لا تغلب عليه كيفية من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة كلحم الضأن ولذلك صار الإنسان لا يمله وصار يطيب بكل صنعة وبكل طعم يضاف إليه وخص بهذه الفضيلة لاعتدال مزاجه، وخيره لحم الفتي منه وإن يجتنب ما صغر كالأجنة وما قرب عهده بالنتاج فإنه يكون لزجاً مولداً للكيموس الفاسد. ويجتنب الضاني القحل اليابس ويقصد السمان دون المهازيل والخصيان دون النعاج، فإن الولد يمص جوهرها ودون الفحول فإن السفاد يؤبس لحمها وكلا المعنيين يأخذ صفو أجساد الحيوان ويختار للأكل الرقبة ولحم الأضلاع والكتف والمواضع المتوسطة للجسد. ويجتنب الرأس وكل ما فيه الأفخاذ وما يليها فإن لحومها غليظة ثقيلة بطيئة الانهضام والأعضاء ذوات الأسماء والهيئات ولا خير فيها كالقلب والكبد والطحال والأمعاء والكروش إنها ليست لحماناً خالصة ولحم الطيور بالحكم الأعم أخف من لحوم المواشي وربما ثقلبعضها بالحكم الأخص وينبغي أن يقصد منها الأسرع انهضاماً، والحيوان المآءيُّ كالبط والغرانيق غليظة زحمة بطيئة الانهضام ولا خير في السمك لأصحاب الأبدان الباردة الرطبة وقد ينفع الطري منه المحرومين ويقصد منه المتوسط بين الصغير والكبير ولما كان في المياه العذبة دون البحار والآجام والمملوح منه كالقديد من اللحم ولا خير فيهما فإنهما كالشيءِ الذي ذهب صفوه ولبابه وبقي أثقل وأغلظ ما فيه، وأما الألبان فمناسبة للحم في جوهرها لأن أصلها الدم وتعمها اللطافة وسرعة الاستحالة فللطفها صارت غذاءً للصغار الذين تضعف قواهم عن الهضم ولاستحالتها صارت أجزاؤها تتميز سريعاً كالزبد والسمن وأمكن أن تتخذ أصنافاً كثيرة من الأغذية والاقتصاد عليها ليس بمحمود إلا لمن جرت عادته بها وإن جعلت أداماً وفي الطبيخ فإن طبيعتها عند ذلك تمتزج بطبيعة ما يكون مخلوطاً بها والحموضة فساد عارض في اللبن كما يعرض مثله في الشراب فليجتنب الصادق الحموضة منه ما أمكن وبياض البيض غذاء ثقيل وخيم وصفرته غذاء شريف كثير التغذية، وأفضله النيمبرشت والذي ينهضم من الحبوب ويستحيل منها إلى الدم أقلها والباقي الفاضل عن الهضم أكثرها وهي في ذلك مخالفة للحم لأنه مناسب للدم بجوهره سريع الاستحالة إليه، وينبغي أن يجتنب منها ما طبيعته توليد الرياح فكل ما يتولد الرياح عنه رديء بطيء الانهضام، وأجود الحبوب للاغتذاء السمين وما تناهى إدراكه ولم يكن فجّاً ولا عتيقاً عفناً كالفتي من الحيوان بين الأطفال والمسان ويعتمد لبابها، ويجتنب قشورها، فإن القشور تولد كيموساً غير محمود، والفواكه قليلة الغذاء ومن أفضلها التين والعنب، وهما مع ذلك إذا لم ينهضما ولدا أمراضاً رديئة والإكثار من جميع الفواكه ومن هذين النوعين رديء لإسراع العفونة إليها في المعدة واستحالتها إلى الكيفيات الرديئة ويجتنب قشورها فربما لصق القشر بالمعدة والأمعاء فضر ويهجر كل ما كان فجاً وقديماً عفناً من جميع أصنافها والبقول لايكاد ينهضم منها إلا ما كان مطبوخاً لأنها عادمة النضج في جميع أحوالها إلا أنها في أول منبتها ألطف ويجب أن يجتنب أكلها بالجملة كل معنيّ بحفظ الصحة فإن دعت شهوة أو ضرورة فالفوذيخ (؟) فإنه يقوي المعدة والهندباء فإنه يصفي الدم، والخس فإنه يرطب ويقمع الصفراء ويهجر ما له حرافة وحدة إلا أن يطبخ في جملة الطعام.

صنعة الطعام

إحكام صنعة الطعام أحد قوانين حفظ الصحة لأن الطبيعة تشتهيه فتستمريه وقوام الطعام معنيان نوع الغذاء وصنعه وقوت الصنعة أضر من رداءة النوع، لأن الرديء النوع قد ينقله أحكام الصنعة إلى أن يلتذ ويشتهى. والجيد النوع قد يجري أمره بالضد فيقل ميل الطبيعة إليه ونيلها منه وما فاته جودة الصنعة حل من الطبيعة محل الدواء المستكره لا الغذاء المشتهى وربما ولد أمراضاً لنفار الطبيعة منه وقلة احتوائها عليه ويبلغ من الانتفاع بقوة الشهوة أن الضار قد يصير بها نافعاً بجودة الاستمراء له واستيلاء القوة عليه حتى أن المرضى ربما اشتهوا شيئاً رديئاً فأصلحت قوة الشهوة فساد مزاجه فقلَّ لذلك الاستضرار به، وأحوج الناس إلى هذا الباب من اعتاده ومرنت حاسة الشم منه عليه وارتاضت مذاقته به والجفاة الطبع أقل حاجة إلى التدقيق في هذا الباب أولاً لجفاء التركيب، وثانياً لفقد العادة في الارتياض لمعرفة الطيب وغيره فقليل الصنعة كثير عندهم، وثالثاً أن كثرة حركاتهم تجود هضم معدهم حتى يستمروا من الخبز الفطير ومن اللحم ما ناله الأشمام ولا يستضرون بشيء منه بل يناسبون الحيوانات الصامتة في أكثره وأولى الأشياء بالتقية فيه الخبز لأنه أصل الغذاء والراتب منه وأصوب ما يستعمل فيه المبالغة في إنضاجه فإن القليل النضج منه يولد فيالبدن أخلاطاً غليظة وأدواء خبيثة، والخبز الخشكار أكثر حرارة وأسرع هضماً لحرارة نخالته.

والحواري أبطأ انهضاماً وإذا انهضم كان أكثر غذاءً وأفضل جوهراً وبالجملة فكل ما فاته النضج فالآفة فيه على البدن عظيمة جداً ولا يتناول منه الحار لوقته فإنه بمثابة مالم يدرك ولا اليابس فإنه بمثابة القديد وكلاهما إذا أصابه الماء في المعدة انتفخ وربا كما يصيبهما إذا صب عليهما الماء خارجاً عنه، بل ما كان مخبوزاً ليومه أو غده ثم اللحم ومن التدبير فيه إنضاجه ويتجاوز ذلك فيمن ضعفت معدته إلا أن يهرا له تهريةً، فأما من قوي هضمه كرجال الحرب فالصواب أن يتناولوا من الخبز الفطير ومن اللحم المشوي ما لم ينته نضجه ليتولد لهم اللحم الصلب الكثير المحتمل للألم فإن اختمار العجين وتهرية اللحم يقلل قوتهما، وما كان من الحيوان رطباً كالسمك والحملان الرضع شوي ليقلل رطوبته وما كان مسناً طبخ ليقلل رطوبة الطبخ يبوسته، والشواء يؤبس الطبع والطبخ يحله، وما عمل بالكانون أخف مما عمل بالتنور، لأن التنور يغمه فيرجع إليه البخار فيكسبه ثقلاً ووخامة وأغباب شواء التنور أصلح ويستعمل بعد شوق إليه، وشهوة له تعين على هضمه ويطيب الطبيخ بلباب البصل والحمص ومآئهما دون قشورهما وجملة جرمهما وبالجملة فاللب من كل شيء أكثر نفعاً وأقل ضراً من القشور، ويجتنب الأشياء الحريفة كالخردل والثوم فربما لذعت الآت الغذاء وقرحتها كما تفعل في ظاهر البدن قلت وهذا الحنين فيه قول يدل على أنها تقرح الظاهر وتعفن الباطن وإذا انهضمت الأشياء اللذاعة أحدثت في الكيموسات كيفية حادة حريفة مضرة جداً لأن الذي تفعله استحالة كيفية الدم أضر مما تفعله كميته ويجب أن يجتنب التي منها حتماً وأصلح الأطعمة ما لم يغلب عليه طعم فإن الطعم الغالب يدل على الكيفية الغالبة وأشد الطعوم ومشاكله للدم الحلاوة، ولذلك تشتد شهوة الصبيان لها لأنهم في سلطان الدم والحلو الأصلي كالتمر والعسل أشد تسخيناً للدم وإحراقاً له من الحلو الدسم كالفالوذج ونحوه وهذه المركبة أقل غائلة في تنوير الحرارة لأن الدسومة تقاوم تلك السورة إلا أنها أثقل على المعدة لمكان الدسومة وشرب الماء على الحلو الأصلي أنفع من شربه على المركب لأن الماء يمازج الأصلي فيكثر حلاوته ويعدله ولا يمازج الدسم فيعقب لذلك تخماً، والأصلح في تناول الحلو استعماله عباً وبعد الشوق الشديد ثم الإقلال وقصد اللطيف كالمعمول من السكر الطبرزد واللوز والحامض يفتق الشهوة إلا أنه أقل غذاءً من الحلو وهو مضر بالعصب، ويعق! ب الهزال والنحافة، وأصلح الحموضات الخل فإن فيه تحليلاً وتلطيفاً، والمالح معين على الهضم ويعتبر ذلك من تأثيره في الأشياء التي يطيب بها فيدفع العفونة والفساد عنها وهو ينوب عن الأفاوية الحارة مع سلامته وقلة غائلته، ويجتنب أكل الطبيخ الحار الذي في بقية عليانه ولم تفارقه الأجزاء النارية فإنه كالشيء الذي لم يدرك، والغاب والفاسد رديء لا خير فيه. . . .

أوقات الأكل

أصلح أوقاته وقت الحاجة إليه وتجتنب استعماله بالعادة في وقت يعينه في كل يوم أو بالمساعدة أو بالشهوة الكاذبة فإنه يحدث حينئذ أمراضاً خبيثة والغداء والعشاء يصلحان للعامة ويجب أن يخفف الغداء لئلا يثقل البدن عن التصرف في المعاش ويستوفوا العشاء لأن النوم يتبعه فيعين على هضمه فلليل خاصية في تجويد الهضم ليست لنوم النهار إلا أن العشاء ربما أضر بالرأس والعين لأن قوة الهضم تحدث أبخرة كثيرة، فأما الملوط فصدر نهارهم مشغول بمهماتهم وهم يستكثرون مع ذلك من الألوان فلا يبقى فيهم فضلة لأكلة أخرى، بل الواجب أن يستقبلوا الليل بعد النوم الذي يعين على هضم الغذاء وهم في نهاية الجمام والنشاط للسهر والمؤانسة وإن دعت أحدهم نفسه إلى أكلة ثانية وليس ذلك بصواب له فليحذر اللحم والدسم ويقتصر على الخبز لا يكاد يعرض منه تخمة ولا يثقل إلا أن يفرط في الإكثار منه ويجعل أدمه في هذه الحال من الحموضات والملوحات وليحذر كل الحذر ويتوقى كل التوقي أكله بين شرايين فإنه مجرب الضرر ولا يكاد مستعمله يسلم منه.

تقدير الطعام

الحمية أصل الطب. وقلة الأكل أفضل العلاج، وحد ذلك أن يمسك عن الأكل وقد بقيت من الشهوة بقية تدعوه إلى الازدياد، فإن الطعام يربو وينتفخ في المعدة بعد أكله فإذا أمليت به ولم يترك فيها فضاء لرتوه أحدث الكظة وأوجب التخمة وتولدت عنه الأمراض الرديئة، ومن ضعف هضمه، جعل أكله دفعات وخففه واقتدى فيه بتدبير الطبيعة في تفريقها غذاء الأطفال وبتقليله في كل مرة، وينبغي ان تكون الجرأة على الأكل في الشتاء أكثر لانهزام الحرارة إلى غور البدن ويستعمل في الصيف ضد ذلك ويقصد في زمان الصيف اللطيف من الأغذية كالبوارد.

ترتيب ألوان الطعام

يجعل الأخف قبل الأثقل ولا يبتدئ بالدسومة فتفقر الشهوة وتلطخ المعدة بل يقدم الحامض بالخل فإنه يحلل أجزاء ما لاقاه فيفتق الشهوة ويمكن لما سواه ولا يقدم الشيء الحلو فإن الطبيعة لميلها إليه تستولي عليه فينقطع به عما سواه ولا يبتديء بالشواء فإن القوة الهاضمة إذا تعلقت به قهرها فاقتصرت عليه فلم يمكن الاستكثار من شيء بعده ومن كانت معدته باردة فيجب أن يستعمل الفاكهة بعد الطعام بساعة جيدة ليلحق خفته الثقيل المنهضم قبله.

صفات الأكل

يجتنب تعظيم اللقم وسرعة الأكل. وإن لا يخلط في الأطعمة فإن في هذا الأدب فوائد ولها أنه أبلغ فيالاستيفاء من الطعام وأهون على الهضم الجيد وأبعد من الكظة لأن الذي يصل إلى معدته الشيء بعد الشيء من الطعام تستولي عليه القوة الهاضمة وتتمكن في الهضم، واللقم المتتابعة تقبر هذه القوة وتغص المعدة فيتولد عنها الفواق والجشاء المؤذي المستقبح وكذلك حال الماء في امتصاصه والعدول عن عبه وتأني الأكل أبعد من مشابهة الحيوانات التي تتناول أغذيتها بالنهم والشره وأحرى أن لا يستقذر الإنسان وتعاف الأنفس مؤاكلته ثم إن كانت عنده دعوة أو جماعة كان تأنيه أمكن لهم في تناول حاجتهم فمن رزق هذه العادة وإلأا فليرض نفسه عليها، ويجتنب الأكل على حال انزعاج من النفس وما ينسيه ثم يتناول الغذاء بعده ويسر نفسه بمحادثة المواصلين، ومؤانسة المنادمين فإن ذلك معين على نجوع الغداء ولذلك كانت الملوك لا تنام ولا تشرب ولا تأكل إلا على سماع ملذا أو حديث ممتع وإن لم يتمكن من النوم بعد الأكل فلابد من اضطجاعة أو تكأة فإن الانتصاب والقعود تعب والتعب يمنع من تمام الهضم.

الباقي للآتي