الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 39/تاريخ الأمم والملوك

مجلة المقتبس/العدد 39/تاريخ الأمم والملوك

بتاريخ: 1 - 4 - 1909


هو أوسع تاريخ عربي أبقته الأيام لصاحبه أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفي سنة عشر وثلاثمائة قال ابن خلكان في ترجمته هو صاحب التفسير الكبير والتاريخ الشهير كان إماماً في فنون كثيرة منها التفسير والحديث والفقه والتاريخ وغير ذلك وله مصنفات مليحة في فنون عديدة تدل على سعة علمه وغزارة فضله وكان من الأئمة المجتهدين لم يقلد أحداً. . . وكان ثقة في نقله وتاريخه أصح التواريخ وأثبتها.

هذه خلاصة حال هذا العلامة الكبير وقد أصابه ما أصاب كبار العلماء في الإسلام من الحط من شأنه وإيذائه قال ابن الأثير وفي هذه السنة (310) توفي محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ ببغداد ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين ودفن ليلاً بداره لأن العامة اجتمعت ومنعت من دفنه نهاراً وادعوا عليه الرفض ثم ادعوا عليه الإلحاد وكان علي بن عيسى يقول والله لو سئل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه هكذا ذكره ابن مسكويه صاحب تجارب الأمم وحاشا ذكر الإمام عن مثل هذه الأشياء وأما ما ذكره من تعصب العامة فليس الأمر كذلك وإنما بعض الحنابلة تعصبوا عليه ووقعوا فيه فتبعهم غيرهم ولذلك سبب وهو أن الطبري جمع كتاباً ذكر فيه اختلاف الفقهاء لم يصنف مثله ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل فقيل له في ذلك فقال لم يكن فقهياً وإنما كان محدثاً فاشتد ذلك على الحنابلة وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد فشغبوا عليه وقالوا ما أرادوا:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالناس أعداءٌ له وخصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغضاً أنه لدميم

وقال الإمام أبو بكر الخطيب كان الطبري أحد أئمة العلماء يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره فكان حافظاً لكتاب الله عارفاً بالقرآات بصيراً بالمعاني فقيهاً في أحكام القرآن عالماً بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها ناسخها ومنسوخها عارفاً بأقاويل الصحابة والتابعين ومن بعدهم في الأحكام ومسائل الحلال والحرام خبيراً بأيام الناس وأخبارهم وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك والكتاب الذي في التفسير لم يصنف مثله وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة وأخبار من أقاويل الفقهاء وتفرد بمسائل حفظت عنه.

وقال ابن خزيمة حين طالع كتاب التفسير للطبري ما أعلم على أديم الأرض أعلم من أب جعفر ولقد ظلمته الحنابلة وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد الفرغاني بعد أن ذكر تصانيفه وكان أبو جعفر ممن لا تأخذه في الله لومة لائم ولا يعدل في علمه وتبيانه عن حق يلزمه لربه وللمسلمين إلى باطل لرغبة ولا رهبة مع عظيم ما كان يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل وحاسد وملحد وأما أهل الدين والورع نغير منكرين علمه وفضله وزهده وتركه الدنيا مع إقبالها عليه وقناعته بما كان يرد عليه من قرية خلفها له أبوه بطبرستان يسيرة.

يعد هذا التاريخ من المطولات بل هو أطول وأجمع تاريخ للقرون الأولى الثلاثة وقد كان مؤلفه يريد أن يتوسع فيه أكثر مما توسع حتى عرض على تلاميذه قبل الشروع في تأليفه أن يريد أن يملي عليهم تاريخاً فقالوا له كم يكون حجمه فقال ثلاثون ألف ورقة فقالوا تفنى الأعمار ولا يستوفي مطالعة فقال حسبي الله ماتت الهمم وأملاه في ثلاثة آلاف ورقة كما انتهى إلينا.

فجاء تاريخ ابن جرير مأخذاً للمؤرخين وطالبي التوسع في الوقوف على أخبار القرون الراقية في الأمة وقد كبر حجمه بالأسانيد والروايات على طريقة المحدثين إلا أن الحوادث بادية من خلال سطوره تنال بأدنى نظر. مثال ذلك ما رواه في الجزء الأول من الكلام على خلق العالم نقلاً عن الإسرائيليات فإنه بعد أن نقل الموضوعات كلها قال ابن صح ما روي عن رسول الله (ص) بحيث يتوهم المطالع قبل أن يصل إلى هذا الكلام أن ما أورده وعني به هو الحقيقة التي شائبة فيها.

وتاريخ ابن جرير مرتب على السنين مثل تاريخ الكامل لابن الأثير وتاريخ أبي الفداء والمسعودي وغيرهم ومن تطويله في سرد الكوائن يستفيد المطالع أشياء كثيرة فينتفع الكاتب من حسن العبارة وجودة سبكها ويقف على تعابير فصيحة قد لا يعرفها وليست مألوفة لهذا العهد والشاعر يتعلم ضروباً من الشعر والمقاطيع على اختلاف العصور خصوصاً والشعر كله مشكول كما شكلت الآيات القرآنية والكلمات التي ربما تلتبس بل يستفيد الجندي كيفية تعبئة الجيوش في تلك الأعصر ويتعلم المكايد والباحث في الاجتماع يقع على فوائد مهمة.

وفي هذا الكتاب قصائد نظمت على البديهة لشعراء مشهورين وغيرهم ومقاطيع قيلت في المناسبة وأنشدت بدواع خاصة وفيه رسائل الخلفاء لعمالهم ورسائل العمال لخلفائهم ومعظمها في الغاية إيجازاً وبياناً بنسج متعلم البيان والخطابة والشعر على منوالها وفيه من الحوادث كمقتل الحسين وشيعته مثلاً ما لوجود لكان قصصاً تاريخية حماسية فمن ذلك كلام لحيان بن ظبيان أحد زعماء الخوارج قاله لأصحابه: إنه والله ما يبقى على الدهر باق وما تلبث الليالي والأيام والسنون والشهور على ابن آدم حتى تذيقه الموت فيفارق الإخوان الصالحين ويدع الدنيا التي لا يبكي عليها إلا العجزة ولم تزل ضارة لمن كانت له هماً وشجناً فانصرفوا بنا رحمكم الله إلى مصرنا فلنأت إخواننا فلندعهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى جهاد الأحزاب فإنه لا عذذر لنا في القعود وولاتنا ظلمة وسنة الهدى متروكة وثأرنا الذين قتلوا إخواننا في المجالس آمنون فإن يظفرنا الله بهم نعمد بعد إلى التي هي أهدى وأرضى وأقوم ويشفي الله بذلك صدور قوم مؤمنون وإن نقتل فإن في مفارقة الظالمين راحة لنا ولنا بأسلافنا أسوة.

وقال زياد لما استعمله معاوية على البصرة وخراسان وسجستان والهند والبحرين وعمان فقدم البصرة سنة 65 والفسق بالبصرة ظاهر فاش فخطب خطبة بتراء لم يحمد الله فيها وقيل بل حمد الله فقال: الحمد لله على أفضاله وإحسانه ونسأله المزيد من نعمه اللهم كما رزقتنا نعماً فألهمنا شكراً على نعمتك علينا أما بعد فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والفجر الموقد لأهله النار الباقي عليهم سعيرها ما يأتي سفهاؤكم ويشتمل عليه حكماؤكم من الأمور العظام ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى منها الكبير كأن لم تسمعوا بآي الله ولم تقرؤا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات واختار الفانية على الباقية ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا به من ترككم هذه المواخير المنصوبة والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر والعدد غير قليل ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار قربتم القرابة وباعدتم الدين تعتذرون بغير العذر وتغطون على المختلس كل امريء منكم يذب عن سفيهه صنيع من لا يخاف عقاباً ولا يرجو معاداً ما أنتم بالحكماء ولقد أتبعتم السفهاء ولم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرقوا وراءكم كنوساً في مكانس الريب حرم عليَّ الطعام والشراب أُسويها بأرض هدماً وإحراقاً إني رأيت آخر هذه الأمر لا يصلح إلا بما صلح أوله لين في غير ضعف وشدة في غير جبرية وعنف وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالولي والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والصحيح منكم بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم لي قناتكم أن كذبة المنبر تبقى مشهورة فإذا تعلقتم عليَّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي من بيت منكم فأنا ضامن لما ذهب له إياي ودلج الليل فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليَّ وإياي ودعوى الجاهلية فإني لا أجد أحداً دعا بها إلا قطعت لسانه وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة فمن غرق قوماً غرقته ومن حرق على قوم حرقناه ومن نقب بيتاً نقبت عن قلبه ومن نبش قبراً دفنته حياً فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف يدي وأذاي لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه وقد كانت بيني وبين أقوام أحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي فمن كان منكم محسناً فليزدد إحساناً ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً ولم أهتك له ستراًَ حتى يبدي لي صفحته فإذا فعل لم أناظره فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم فرب مبتئس بقدومنا سيسر ومسرور بقدومنا سيبتئس. أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا ولكم علينا العدل فيما ولينا فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم واعلموا أني مهما قصرت عنه فإني لا أقصر عن ثلث لست محتجباً عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارق بليل ولا حابساً رزقاً ولا عطاءً عن أبانه ولا مجمراً لكم بعثاً فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون لكم وكهفكم الذي إليه تأوون ومتى تصلحوا يصلحوا ولا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك غيظكم ويطول له حزنكم ولا تدركوا حاجتكم مع أنه لو استجيب لكم كان شراً لكم أسأل الله أن يعين كلاً على كل وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فانفذوه علي أذلاله وأيم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كل امريء منكم أن يكون من صرعاي اهـ.

نقلت هذه الخطبة على طولها لأنها مرآة ذاك الزمان وعلامة على استحكام أزمة الأحكام في رقاب الأمة ولأن فيها من الشدة واللين والتفتن في أساليب التأثير ما لا يتسنى قو مثله اليوم إلا لأناس من رجال الغرب ممن مرنوا على الخطابة ودربوا عليها فكانت ملكة البيان فيهم طبيعية هذا فضلاً عما حوت من البلاغة والفصاحة. وزياد هو الذي وطد الملك لمعاوية ويزيد وقتل الحسين واشتد في استئصال شأقته وكان يقول لو ضاع حبل بيني وبين خراسان علمت من أخذه وكتب خمسمائة من مشيخة أهل البصرة في صحابته فرزقهم ما بين الثلثمائة إلى الخمسمائة فقال فيه حارثة بن بدر الغدّاني:

ألا من مبلغٌ عني زياداً ... فنعم أخو الخليفة والأميرُ

فأنت إمام معدلة وقصد ... وحزم حين يحضرك الأمور

أخوك هليفة الله بن حربٍ ... وأنت وزيره نعم الوزير

تصيب علي الهوى منه ويأتي ... محبك ما يجن لنا الضمير

بأمر الله منصورٌ معانٌ ... إذا جار الرعية لا تجور

يدرُّ على يديك لما أرادوا ... من الدنيا لهم حلب غزيرُ

وتقسم بالسواء فلا غنيٌّ ... لضيم يشتكيك ولام فقير

وكنت حياً وجئت على زمان ... خبيث ظاهر فيه شرور

تقاسمت الرجال به هواها ... فما تخفي ضغائنها الصدور

وخاف الحاضرون وكل بادٍ ... يقيم على المخافة أو يسير

فلما قام سيفُ الله فيهم ... زياد قام أبلج مستنير

قويٌ لا من الحدثان غزٌّ ... ولا جزع ولا فان كبير

ومما ورد فيه من الشعر وهو ما نورد مثالاً ما قالته هند ابنة زيد بن مخرمة الأنصارية وكانت تشيع ترثي حجر بن عدي من زعماء الشيعة وقد قتله معاوية بواسطة عامله زياد.

ترفع أيها القمر المنير ... تبصر هل ترى حجراً يسير

يسير معاوية بن حرب ... ليقتله كما زعم الأمير

تجبرت الجباير بعد حجرٍ ... وطاب لها الخورنق والسدير

وأصبحت البلاد لها محولاً ... كأن لم يحيها مزنٌ مطير

ألا يا حجر حجر بني عدي ... تلقتك السلامة والسرور

أخاف عليك ما أردى عدياً ... وشيخاً له في دمشق له زئير

يرى قتل الخيار عليه حقاً ... له من شر أمته وزير إلا يا ليت حجراً مات موتاً ... ولم ينحر كما نحر البعير

فإن يهلك بكل زعيم قوم ... من الدنيا إلى هلك يصير

ومن خطب الحسين خطبة خطبها بأصحابه لما أحيط به وقام أصحابه يدعونه للمطالبة بحقه قال: أيها الناس إن رسول الله (ص) قال من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله (ص) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فسلم يعير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله وأنا أحق من عير وقد أتتني كتبكم وقدمت عليَّ رسلكم ببعثكم أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني فإن تممتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم فأنا الحسين ابن علي وابن فاطمة بنت رسول الله (ص) نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهلكم فلكم فيَّ أسوة وإن لم تفعلوا أو نقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنكر لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم والمغرور من اغتر بكم فحظكم أخطأتم ونصيبكم منعتم ومن نكث فإنما ينكث على نفسه وسيغني الله عنكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ومن جملة فوائده ما ذكره في حوادث سنة 71 أن عبد الملك بن مروان لما قتل مصعباً ودخل الكوفة أمر بطعام كثير فصنع وأمر به إلى الخورنق وأذن إذناً عاماً فدخل الناس فأخذوا مجالسهم فدخل عمرو ابن حريث المخزومي فقال إليَّ وعلى سريري فأجلسه معه ثم قال أيّ الطعام أكلت أحبُّ إليك وأشهى عندك قال عناق حمراء قد أجيد تمليحها وأحكم نضجها قال: ما صنعت شيئاً فأين أنت من عمروس راضع قد أجيد سمطه وأحكم نضجه اختلجت إليك فأتبعتها يده غذي بشر يجبن من لبن وسمن ثم جاءت الموائد فأكلوا فقال عبد الملك بن مروان ما ألذ عيشنا لو أن شيئاً يدوم ولكنا كما قال الأول:

وكل جديد يا أميم إلى بلىً ... وكل امريء يوماً يصير إلى كان

فلما فرغ من الطعام طاف عبد الملك في القصر يقول لعمرو بن حريث لمن هذا البيت ومن بنى هذا البيت وعمرو يخبره فقال عبد الملك:

وكل جديد يا أميم إلى بلى ... وكل امريءٍ يوماً يصير إلى كان

ثم أتى فاستلقى وقال: إعمل على مهل فإنك ميتٌ ... واكدح لنفسك أيها الإنسان

فكان ما قد كان لم يك إذ مضى ... وكأن ما هو كائنٌ قد كان

ومن فوائده سأل المهدي يوماً كاتبه أبا عبيد الله بن زياد بن أبي ليلى عن أشعار العرب فصنفها له فقال أحكمها قول طرفة بن العبد:

أرى قبر نحام بخيل بماله ... كقبرٍ غوي في البطالة مفسدِ

ترى جثوتين من تراب عليهما ... صفائح صم من صفيح مصمد

أرى الموت بعنام الكرام ويصطفي ... عقيلة مآلِ الفاحش المتشدد

أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة ... وما تنقص الأيام والدهر ينفد

لعمرك أن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه باليد

وقوله:

وقد أرانا همَّ صاحبه ... لو أن شيئاً إذا ما فإما رجعا

وكان شيءٌ إلى شيءٍ نفرقه ... دهر يكر على تفريق ما جمعا

وقول لبيب:

ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... إنحب فيقضي أم ضلال وباطل

ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل ... ومل نعيم لا محالة زائل

أرى الناس لا يدرون قدر أمرهم ... بل كلُّ ذي رأي إلى الله واصل

وكقول النابغة الجعدي:

وقد طال عهدي بالشباب وأهله ... ولاقيتُ رَوعاتٍ تشيب النواصيا

فلم أجد الإخوان إلا صحابة ... ولم أجدالأهلين إلا مثاويا

ألم تعلمي أن قدرُزِئت محارباً ... فما لكِ منه اليوم شيئاً ولا ليا

وكقول هدبة بن خشرم:

ولست بمفراح إذا الدهر سرَّني ... ولا جازع من صرفه المتقلب

ولا أبتغي الشر والشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب

وما يعرف الأقوام للدهر حقه ... وما الدهر مما يكرهرن بمعتب

وللدهر في أهل الفتى وتلاده ... نصيب كحز الجازر المتشعب وكقول زيادة بن زيد وتمثل عبد الملك بن مروان:

تذكر عن شحط أميمة فأرعوى ... لها بعد إكثار وطول نحيب

وإن امرأً قد جرب الدهر لم يخف ... تقلب عصريه لغير لبيب

هل الدهر والأيام إلا كما ترى ... رزيئة آل أو فراق حبيب

وكلُّ الذي يأتي فأنت نسيبه ... ولست لشيءٍ ذاهب بنسيب

وليس بعيدٌ ما يجيء كمقبلٍ ... ولا ما مضى من مفرح بقريب

وكقول ابن مقبل:

رأت بدل الشباب بكت له ... والشيب أرذلُ هذه الأبدال

والناس همهم الحياة ولا أرى ... طول الحيوة يزيد غير خبال

وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال

كتب سفيان بن أبي العالية أحد قواد الحجاج وكان بعث به لقتال بعض أعدائه: أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني اتبعت هذه المارقة حتى لحقتهم بخانقين فقتلتهم فضرب الله وجوههم ونصرنا عليهم فتبينا نحن كذلك إذا أتاهم قوم كانوا غيباً عنهم فحملوا على الناس فهزموهم فنزلت في رجال من أهل الدين والصبر فقاتلتهم حتى ضررت بين القتلى فحملت مرتثاً فأتي بي بأول مهروذ فها أنا بها والجند الذين وجههم إليَّ الأمير وافوا إلا سورة بن أبجر فإنه لم يأتني ولم يشهد معي حتى إذا ما نزلت بابل مهروذ أتاني يقول ما لا أعرف ويعتذر بغير العذر والسلام. فلما قرأَ الحجاج الكتاب قال من صنع كما صنع هذا وأبلى كما أبلى فقد أحسن ثم كتب إليه: أما بعد فقد أحسنت البلاد وقضيت الذي عليك فإذا خف عنك الوجع فأقبل مأجوراً إلى أهلك والسلام. وكتب إلى سورة بن أبجر: أما بعد فيا ابن أم سورة ما كنت خليقاً أن تجتريء عليّ ترك عهدي وخذلان جندي فإذا أتاك كتابي فابعث رجلاً ممن معك صليباً إلى الخيل التي بالمدائن فلينتخب منهم خمس مائة رجل ثم يقدم بهم عليك ثم سر بهم حتى تلقى هذه المارقة واحزم في أمرك وكد عدوك فإن أفضل أمر الحرب حسن المكيدة والسلام.

ومع أن الحجاج معروف بالشدة فاقرأ ما يلي تعرف أنه للشدة تارة وللين أخرى: كتب إليه شبيب أحد قواده: أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني خرجت فيمن قبلي من الجند الذي وجهني فيه إلى عدوه وقد كنت حفظت عهد الأمير إليَّ ورأيه فيهم فكنت أخرج إليهم إذ رأيت الفرصة وأحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة فلم أزل كذلك ولقد أرادني العدو بكل إرادة فلم يصب مني غرةً حتى قدم عليَّ سعيد بن مجالد رحمة الله عليه ولقد أمرته بالتوءدة ونهيته عن العجلة وأمرته أن لا يقاتلهم إلا في جماعة الناس عامة فعصاني وتعجل إليهم في الخيل فأشدت عليه أهل المصرين أني بريء من رأيه الذي رأى وأني لا أهوى ما صنع فمضى فأصيب تجاوز الله عنه ودفع الناس إليَّ فنزلت ودعوتهم إليَّ ورفعت لهم رايتي وقاتلت حتى صرعت فحملني أصحابي من بين القتلى فما أفقت إلا وأنا على أيديهم على رأس ميل من المعركة فأنا اليوم بالمدائن في جراحة قد يموت الرجل من دونها ويعافى من مثلها فليسئل الأمير أصلحه الله عن نصيحتي له ولجنده وعن مكايدتي عدوه وعن موقفي يوم البأس فإنه يستبين له عن ذلك أني قد صدقته ونصحت له والسلام. فكتب إليه الحجاج أما بعد فقد أتاني كتابك وقرأته وفهمت كل ما ذكرت فيه من أمر سعيد وعجلته إلى عدوه فقد رضيت عجلته وتوءدتك فأما عجلته فإنها فضت به إلى الجنة وأما توءدتك فإنها لم تدع الفرصة إذ أمكنت وترك الفرصة إذا لم تمكن حزمٌ وقد أصبت وأحسنت البلاء وأجرت وأنت عندي من أهل السمع والطاعة والنصيحة وقد شخصت إليك حيان بن أبجر ليداويك ويعالج جراحتك وبعثت إليك بألفي درهم فأنفقها في حاجتك وما ينوبك والسلام.

هذه نموذجات من فوائد الكتاب الممتع ولو اتسع المقام لأفضنا فيه أكثر مما أفضنا فإن استيعاب الكلام على اثني عشر مجلداً لا يتأتى في بضع صفحات.