الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 39/إسبانيا والعمران العربي

مجلة المقتبس/العدد 39/إسبانيا والعمران العربي

مجلة المقتبس - العدد 39
إسبانيا والعمران العربي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 4 - 1909


نشر المسيو كاباتون ن علماء المشرقيات بحثاً إضافياً في مجلة العالم الإسلامي الباريزية جاء فيه ما تعريبه: كتب لإسبانيا من دون ساتر بلاد أوربا أن تكون مبعث أشعة التمدن الإسلامي وكهف اللغة العربية على حين ليست هذه الشبه الجزيرة متصلة من حيث موقعها الجغرافي بالشرق الإسلامي مباشرة كما هي حال الممالك البلقانية واليونان مثلاً. وأقرب البلاد بها مساساً وأقربها منها حمى بلاد أفريقية التي كانت منذ قرون ثانوية في النشوء الإسلامي فشغلت إسبانيا مكانة عظمى في تاريخ الإسلام أكثر مما جاور آسيا الصغرى من بلاد الطونة واليونان التي لم تشهد من الإسلام إلا العهد الموغل في التوحش الكثير الفتن القليل المنافع ونعني به عهد الأتراك على حين ذاقت إسبانيا أجمل عهود الإسلام وأخصبها وأعني به عهد العرب فتأصلت مدنيتهم في إسبانيا وأزهرت فيها أي إزهار.

فتح طارق بن زياد وموسى بن نصير إسبانيا من سنة 711 إلى 714 وكانت مستعدة لهذا الفتح لأن الفوضى كانت رافعة عليها أعلامها فاستولى العرب على عرش تلك البلاد من ملكها رودريك الذي هلك في المعركة وأظهر الأشراف ورجال الدين من الإسبانيين من الجبن والنذالة شيئاً كثيراً فهربوا من إشبيلية وقرطبة عندما سقطتا في أيدي العرب ولم يفكروا في الدفاع عنها وبلغ بهم الخوف في طليطلة أن بعضهم هرب إلى غاليسيا ومن رجال الدين من لم يقفوا إلا في رومية لأنهم كانوا يخشون على حياتهم وأموالهم على أن حكومة إسبانيا إذ ذاك كانت مكروهة من العبيد واليهود لأن هؤلاء كانوا مضطهدين. خدم العبيد باديء بدء الدولة الإسبانية قبل دخول العرب ثم قلَّ إخلاصهم لها حتى أن قرطبة سلمها للعرب راهب من العبيد وتمت على أيديهم خيانات أخرى. وكان اليهود أكثر ضرراً على حكومة إسبانيا الغربية ولا يتأتى تقدير عددهم بالتدقيق بل هم فيما يظهر عنصر مهم للغاية انتشروا في قرطبة وإشبيلية والبيرة وغرناطة وطليطلة وغيرها من المدن ولا سيما لوسنا.

وكان اليهود في الأندلس على جانب عظيم من الغنى وحسن معرفة بالتجارة وأرقى علماً من جيرانهم واستحكمت بينهم الصلات حتى أصبحوا حكومة وسط حكومة فخاف الملك ورجال الدين الكاثوليكي من امتداد سلطانهم وأخذوا يضطهدونهم بتحامل شديد فربي الخوف والاضطهاد في نفوسهم البغضاء وحب الانتقام. وفي سنة 694 قبل مجيء طارق والعرب بسبع عشرة سنة دبر الإسرائيليون مكيدة بمعاونة قبائل البربر اليهود من أهل إفريقية وكادوا يستولون على زمام المملكة الإسبانية. فاكتشفت المكيدة التي دبروها وأخذ المسيحيون يعاملون الإسرائيليين معاملة العبيد الأرقاء وكاد يقضى على العنصر اليهودي عندما بدت طلائع الفاتحين من العرب. اعتبر اليهود العرب مخلصين لهم فاطمأن المسلمون إليهم وأخذوا يعاملونهم معاملة حلفاء لهم وكلما كان يفتح العرب مدينة يجعلون نصف حاميتها من اليهود والنصف الآخر من المسلمين ولم يستثن من ذلك إلا مدينة مالقة حيث قصراليهود فلم يتداخلوا في أمرها.

وكان لليهود شأن وأي شأن مع العرب فكان من يناله اضطهاد المسيحيين على أوائل الفتح العربي يدخل في الإسلام ويتحرر من قيود العبودية فمن ثم أصبح اليهود حلفاء المسلمين يتمتعون بأراضيهم وأموالهم وحريتهم في عبادتهم وغدت لهم مكانة في تنظيم شؤون إسبانيا ولاسيما في غرناطة التي ازدهرت بمساعيهم وغدت تسمى في أواخر القرن العاشر مدينة اليهود ثم حدثت م1بحة سنة 1066 فقتل فيها من الإسرائيليين أربعة آلاف رجل في غرناطة وحدها.

ولم يكن المسيحيون الأحرار في الأندلس مثل العبيد واليهود من أعوان الفتح العربي بل كانوا خصومه ومع هذا كنت تراهم على حالة حسنة مع الفاتحين ممتعين بحريتهم المذهبية ومحتفظين بالقسم الأعظم من كنائسهم وكثير منهم دانوا بالإسلام سياسة أو اعتقاداً لاسيما وقد رأوا المسلمين نالوا النصر المؤزر الباهر. والسبب في تسامح العرب مع نصارى إسبانيا أن مركز العرب كان إلى التقلقل وكلمتهم مختلفة وذلك لأن العرب والبربر يكره بعضهم بعضاً. ثم إن العرب بطبيعتهم مفطورون على التسامح الديني وكان النصارى وحدهم يدفعون الجزية حتى إذا أخذوا يدينون بالإسلام فرغت خزائن الحكومة العربية لقلة الجزية الواردة إليها ثم إن المسلمين أخذوا يتزوجون من الإسبانيات اللائي كن بجمالهن أعظم صلة للامتزاج بين الفاتحين وخصومهم.

وكانت تجري على سادات الإسبانيول أحكام الإسلام فيختلطون بأشراف العرب ومن ظل محتفظاً بدينه منهم نسي مبادئه فصار يحجب نساءه كالمسلمين ويقتدي بأزيائهم وألبستهم وعاداتهم في مآدبهم ورفاهيتهم وخلاعتهم ويزهد في اللغة اللاتينية ويجتهد في تعلم اللغة العربية وآدابها ويسعى في نيل وظيفة في الجيش الإسلامي أو التعلق بخدمة الخليفة أو أحد رجاله.

ولقد كان القشتاليون والليونيون والنافاريون من سكان إسبانيا المسيحيين يأتون بكثرة للانخراط في خدمة الخليفة المنصور وكان هذا مؤقتاً بأن حب الكسب هو الذي يحمل هؤلاء على الإخلاص له أكثر من أشراف العرب الطائشين فيجري عليهم لذلك الأرزاق والجرايات الوافرة ويشملهم برعايته. وإذا شجر اختلاف بين مسيحي ومسلم من جنده يعطي الحق غالباً للمسيحي. وكانت أيام الآحاد أيام عطلة بدل الجمع. ولما انقسمت بلاد الأندلس بين الطوائف أمسى ملوك المسيحيين يتزوجون من بنات الأمراء المسلمين فقد تزوج ألفونس السادس بزايدة ابنة أمير إشبيلية. وإن إسبانيا على ما كان بين العنصرين المسيحي والإسلامي في الأندلس من الاختلاف الذي لا مناص منه قد أصبحت مدة قرنين ونصف أي منذ الفتح العربي إلى زوال الخلافة الأموية (774 ـ 1031) تحت السلطة العربية والمدنية العربية برضاها لا بالرغم منها وقد مزجت تلك المدنية بالمدنية الإسبانية اللاتينية واليهودية التي كانت هناك قبل الفتح الإسلامي وكان ذلك بفضل العقل العربي.

من الظلم أن يقال أن إسبانيا كانت قبل إغارة العرب عليها في حالة الهمجية فقد كانت المدنية اللاتينية زاهرة فيها بفضل رجال الدين فأصبحت إشبيلية بواسطة أسقفها القديس إيزيدورس مركزاً علمياً قوي الدعائم لم يقو الفتح العربي على زعزعته وأنقذت مدرسة إشبيلية التقاليد اللاتينية من الحركة الشرقية فأصبحت البيع والأديار محال الاعتقادات والمعارف ولاسيما طليطلة وقرطبة وإشبيلية فكان يدرس فيها علم العروض والآداب اللاتينية مع علم اللاهوت. وعلى الرغم من سعي الأساقفة انتشرت المدنية العربية بسرعة وكادت تقضي على الوطنية الإسبانية وانحلت تلك المدنية الأصلية حتى ظلت معاهدها من القرن العاشر إلى القرن الثاني عشر مباءة الانحلال والتنبت.

دان كثير من الإسبانيين بالإسلام فأخذوا يتناسون أصولهم ويستعربون بحضارتهم وأخلاقهم وأنشؤا يتكلمون بالعربية بفصاحة لا غبار عليها وتمكنوا من آداب العرب حتى صار الخلفاء يختارونهم فيما بعد عمالاً لإداراتهم وأمناءَ لمشورتهم وأسرارهم أي في جميع الوظائف التي تقتضي أن يكون لصاحبها معرفة واسعة باللغة العربية ومتى قبل أحدهم مدنية الفاتحين لا يلبث أن يعترف بأنها أرقى من غيرها.

كانت مدنية العرب في إسبانيا محسوسة في الأمور المادية وذلك بما استعملوه من الوسائط الزراعية لإخصاب الأراضي البور في إسبانيا بالأساليب العلمية التي اتخذوها لريها وهي أساليب إن لم تكن اختراع العرب فهم الذين أكملوا نواقصها وأحسنوا استخدامها كما أنهم أسسوا معامل للحرير والجلود والبلور وغزل الصوف والقطن والكتان والقصب وأقاموا ما لا يحصى من البنايات العمومية من مثل الجوامع والحمامات ومنها ما يستدعي إعجاب الأمم بأسرها حتى بعد ثمانية قرون من تأسيسه مثل جامع قرطبة وقصر الحمراء في غرناطة. ثم خدموا العمران بتخطيط المدن الآهلة بالسكان الغنية الرباع التي لم تسترجع بعد الرعب ما كان لها في أيامهم من الحضارة وما برحت أنقاضها وما فيها من جمال رائع وصناعة محكمة ولاسيما في قرطبة وغرناطة شاهدة أبد الدهر بتلك المدنية باعثة على التأسف لزوالها.

نعم إن العرب فاقوا في تقدمهم في شبه جزيرة الأندلس بعلوم الطب والنبات والفلك والطبيعيات سواء كان بالعمليات أو بالنظريات فكيف لا يبتزون في علم البلاغة والفلسفة والشعر وهي العلوم التي كان لهم القدح المعلى فيها. وقد اجتذب حب هذه الحضارة حتى المسيحيين ومنهم من تناسى الأحقاد والمبادئ وما انقضت ثلاثون سنة على الفتح حتى أصبح الناس ينسخون الكتب اللاتينية بحروف عربية كما كان يفعل اليهود بمخطوطاتهم العبرية وما مضي نصف قرن إلا وقد دعت الحال إلى ترجمة التوراة والقوانين الكنائسية إلى اللغة العربية ليتمكن رجال الدين أنفسهم من فهمها.

ولقد اتخذ المسيحيون اللغة العربية ترجماناً لعواطفهم وقلوبهم حتى شكاالفار والقرطبي صديق الشهيد ألوج كما قال دوزي في كتابه تاريخ المسلمين في إسبانيا من أن المسيحيين في الأندلس قد أفرطوا في حبهم للعربية حتى صاروا يحبون تلاوة قصائد العرب وقصصهم ويدرسون كتب علماء الإسلام وفلاسفتهم لا ليردوا عليها بل ليحلوا بها منطقهم. قال وكيف السبيل إلى إيجاد رجل من العامة يقرأ التفاسير اللاتينية على الكتب المقدسة ومن منهم يتدارس الأناجيل والأنبياء والرسل ومن الأسف أن جميع صغار المسيحيين الذين اشتهروا بقرائحهم لا يعرفون غير العربية وآدابها فهم يقرؤن الأسفار العربية ويتدارسونها بنشاط لا مزيد عليه ويقتنونها بالأثمان الغالية يؤلفون بها خزائن نفيسة ويذكرون في كل مكان أن آداب العربية مما يعجب به وإذا حدثتهم بالكتب المسيحية يجيبونك بازدراء أن هذه الكتب غير حرية بالتفاتهم. وأي ألم أعظم من أن ينسى المسيحيون حتى لغتهم ولا تجد في ألف واحد منهم من يستطيع أن يكتب كتاباً مناسباً باللغة اللاتينية إلى صديق له وأنت إذا كلفت أحدهم أن يكتب بالعربية تجد جمهوراً يعبرون عن أفكارهم بهذه اللغة على صورة بديعة وقد ينظمون من الشعر العربي ما يفوق بما فيه من الصناعة شعر العرب أنفسهم.

واللوم في قصور الإسبانيين عن شأو العرب أن الحضارة الإسبانية اللاتينية قد نضب معينها وذهبت نضارتها على حين كانت الحضارة العربية على أشد نضرتها على عهد خلفاء بني أمية في الأندلس ولاسيما زمن عبد الرحمن الثالث وابنه الحكم الثاني وفي أيامهما كان الأمويون في إبان عزهم.

فكان في قرطبة وسكانها نصف مليون نسمة ثلثمائة مسجد جامع وأحواض ماء وحدائق وفيها الآكام المزروعة المعروسة والحدائق الأنيقة وعلى نحو فرسخ من قرطبة قصر الملك الزهراء ودائرة الحريم منها تسع ثمانية آلاف امرأة فكانت قرطبة تنازع بغداد الأولية ببهجتها ونضارتها.

وقد عرف عبد الرحمن الثالث أذكى ملوك عهده جناناً وأكثرهم استدارة وأغناهم وكان في خزانته عشرون مليون ذهب (كذا) ـ بسخائه المتناهي في اجتلاب الشعراء وأرباب الموسيقي ومشاهير العلماء يقتدي في ذلك بأسلافه عامة. وإن المتوسطين من هؤلاء الخلفاء ليدرون النفقات الطائلة على أناس لهم في الإسكندرية والقاهرة ودمشق وبغداد وكل إليهم أن يوقفوه على الحركة العقلية فيبعثون إليه بأهم المصنفات وأجمل الآثار. مثال ذلك أن إمبراطور القسطنطينية لم ير أحسن من أن يهدي مصنفاً بديعاً من ديوز كوريد مكتوباً بالذهب وقد حمله مع راهب عهد إليه بتعريبه للملك استجلاباً لرضاه.

فاق الحكم الثاني أباه بولعه بالآداب والكتب النادرة فكان يغص قصره بالنساخ والمجلدين والنقاشين وبلغت فهرست كتبه بحسب رواية معاصريه أربعة وأربعين جزءاً وكل جزءٍ عشرون صفحة وقال آخرون أن في كل جزء خمسين صفحة. ولم يكن فيها غير اسم الكتاب ووصفه. وقد قرأ الحكم هذه المصنفات وشرحها وحشاها وعلق عليها تعليقات تدل على طول باعه في تاريخ الأدب العربي. وبذل لأبي الفرج الأصفهاني من علماء العراق خمسة آلاف دينار ليخص الأندلس بتأليفه وهو عبارة عن دائرة معارف حوت أخبار الشعراء والمغنين. وكان العلماء من إسبانيا وغيرها ينهالون على قصره فيحسن فيه لقاءهم ويفرق عليهم الإحسان واشتهرت كلية قرطبة في العالم بأسره وإن لم تكن معروفة بأنها معهد رسمي للخلفاء أكثر من جميع الكليات العربية. وكان عبد الرحمن الثالث والحكم الثاني يحميان العلماء فيها من تعصب المتنطعين في العبادة. فيأتي الجامع الأعظم ألوف من الأندلسيين والأجانب من كل البلاد لاشتهاره بأنه معهد علمي وذلك من مدينة الأستانة إلى جرمانيا حيث كان هروفستا بقرطبة وهو فيديره. وفي ذاك الجامع كان أبو بكر بن معاوية القرشي يقريءُ الحديث النبوي وأبو علي القالي البغدادي يملي أماليه المشهورة الغنية بالنكات اللغوية والشعرية المأثورة عن العرب القدماء وابن قوطية أعلم نحوي في عصره يدرس النحو.

ورأى الحكم قبيل وفاته أن من الصعب على من بعده نشر المعارف بين الفقراء فأنشأ فيقرطبة سبعة وعشرين مدرسة ينفق على مدرسيها من ماله. ولئن كانت هذه المدارس الصغرى كالكليات لا تنطبق على ما نريده منها اليوم فكانت المدارس الابتدائية لتعليم القراءة وتفسير بعض آيات من القرآن ومع هذا كانت تشهد بما فطر عليه رعاياه من حب المعارف والتعليم.

وإن ذهاب الخلافة من الأندلس سنة 1031 وتقاسمها بين ملوك الطوائف سواء كانوا من أشراف الأسر العربية أو حذاق البربر لم يقف عثرة في سبيل هذه الحمية بل كان شأن عامة ملوك الطوائف شأن أولئك الأمراء في إيطاليا على زمن النهضة يحاولون أن يبرروا مظالمهم بحمايتهم للعلماء ولاسيما للشعراء الذين كانت أماديحهم وأهاجيهم عند العرب ذات شأن كبير حتى كان أعظم الخلفاء في بغداد ودمشق يحاول أن يسالمهم ليسالموه ويحسن إليهم ليمدحوه.

وتقدمت إشبيلية في تلك القصور الخالعة المتحضرة فكان المعتضد ابن عباد ابن القاضي أبي القاسم محمد مؤسس الدولة العبادية من الأمراء الظالمين المتهتكين يزرع الورد في جماجم أعدائه الكثار ويسرح طرفه بالنظر إلى هذه الحديقة ويدمن الخمر ولكنه ينظم الغزل الرقيق ويمنح الأدباء وظل ابنه المعتمد المحبوب الذي هلك في غارة المرابطين أحد المشاهير بنظم الأغاني في الأدب الإسباني العربي وقد أعطى من أجل بيتين فذين لعبد الجلال ألف دينار. وكان ابن عمار رفيق صباه وحاجبه زمناً شاعراً أيضاً ويساوي مولاه برقة الشعر ورشاقته وكانت رومابيكا السلطانة المحبوبة التي استولت طول حياتها على عقل المعتمد وقلبه مشهورة ببديهتها وهكذا كانت غاية هؤلاء المفتونين الظرفاء من الحياة أن ينصموا ويترفهوا ولو لم يضيفوا إليه محبة الآداب والصنائع الفكرية لكانت حقيرة ومريرة.

ولقد نافست مملكة المرية على صغرها مملكة إشبيلية وكان ابن عباس الوزير الجبار لزهير (1028 ـ 1038) يفاخر ببيانه المبرأ من العيوب وما اقتناه في خزانة كتبه التي تبلغ أربعمائة ألف مجلد أكثر من مفاخرته بغناء العظيم بالنسبة لعصره. ذكر المعتصم الذي طرده المرابطون كما طردوا المعتمد بأنه أحسن الملوك العلماء وأعدلهم في بلاد الأندلس فكان سخاؤه على الشعراء متناهياً حتى وهب ابن شرف قرية برمتها لبيت من الشعر قاله. وكانت قطعة من الشعر أو قصيدة من المدح الرقيق تمطر على ناظمها العطايا. وهو يرغب في سماع الأهاجي ولاسيما إذا دلت على صناعة وخلت من رميه بالبخل ولذا كان الأدباء يهرعون إلى قصره ويخدعونه ويبرمونه بمطالبهم التي لا تطاق فخف إليه في المرية طائفة من الشعراء يتبعهم أناس هاجروا إليه من البلاد الأخرى ومن جملتهم أبو الوليد النحلي الذي أغدق عليه المعتصم عطاياه فضحك منه ولكن المعتصم عفا عنه لا بالحط من قدره بل أنه أتبع العفو بالإحسان والإنعام. ومثله ابن شرف وابن أخت غانم من مالقة وهو ابن أخت اللغوي المشهور وغانم غرناطة وابن الحداد من قادش الذي اشتهر بأنه أعظم شاعر أندلسي.

وكان في الأندلس مثل أبي عبيد البكري ابن أحد ملوك الطوائف وهو أعظم جغرافي عربي في إسبانيا وكان له أيضاً حظ وافر من الشعر وله صداقة أكيدة مع المعتصم وكان هذا أو جميع أسرته يتعاطون الشعر ولاسيما ما كان منه في الغزليات والخمريات ومازال غزل أبيه وابنته أم الكرام معروفاً إلى اليوم عند كل من اطلعوا على الآداب العربية.

رسخت قواعد الحضارة العربية منذ القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر وبهرت العقول على ما كان من الفوضى السياسية في جميع إسبانيا الجنوبية بحيث تؤثر تأثيراً شديداً حتى على أعدائها الألداء أي الأمراء النصارى في شمالي إسبانيا. فانتشر هنا استعمال اللغة العربية بكثرة حركة فرسان ليون وأراغون الذين كانوا يذهبون للغزو مع المسلمين. وما كان يراه ملوك نافار وغاليسيا وليون وأراغون من ضرورة الاتحاد مع جيرانهم في الجنوب (العرب) فكانوا يؤدون إليهم الجزية على عهد خلفاء الأندلس وغدا العرب على عهد ألفونس السادس ملك غاليسيا وقشتالة وليون ونافار بعض إقطاعاته فكان في قصر ألفونس السادس ملك أهل الدينين كما كانوا يسمونه أناس من المدققين في اللغة المطلعين كل الاطلاع على دقائق اللسان العربي بحيث تسهل عليهم مكاتبة أمراء الطوائف من المسلمين فقد كان السيد كمبادور يجيد التكلم بالعربية لا فرق بينه وفي العقل والأخلاق وبين مسلمي بلنسية. ولما دخل ألفونس السادس إلى طليطلة سنة 1085 وكانت هذه المدينة عاصمة ألوزغوت القديمة قوي نفوذه من وراء الغاية باستيلائه عليها ولم يأت عملاً يصر بشهرتها بالعلوم الإسلامية وفاءً بعهد تعهده في هذا الشأن وكان نقض العهد من المألوفات في عصره لأن المسيحيين في الشمال ما زالوا متوحشين ينتفعون من الاحتكاك بالعنصر العربي المحط في أخلاقه الراقي بعقله وسار خلفاؤه على قدمه. ناول مدرسة أنشئت في طليطلة أوائل القرن الحادي عشر هي عربية اشتهر أمرها على عهد ملوك قشتالة أي زمن أبي عبد الله محمد بن عيسى المغامي وأحمد بن عبد الرحمن بن المطهر الأنصاري وغيرهما من الأساتذة ومن هذه المدرسة نشأت تربية الإسبانيين على مناحي العرب. وفي سنة 1130 أنشأ ريمون رئيس أساقفة طليطلة في هذه المدينة مدرسة للتراجمة وبها رسخت اللغة العربية والأفكار العربية في إسبانيا المسيحية (للبحث صلة).