مجلة المقتبس/العدد 32/مثال الأمة الراقية
→ المنازل الرخيصة في الغرب | مجلة المقتبس - العدد 32 مثال الأمة الراقية [[مؤلف:|]] |
سير العلم والاجتماع ← |
بتاريخ: 1 - 9 - 1908 |
جرت العادة أن تقتدي الأمم بعضها ببعض ولا سيما فيما فيه إعلاء كلمتها وتمام سعادتها فتطرس الأمم النازلة على آثار الأمم الناهضة. قال هنري ليشتنبرجه أحد أساتذة كلية باريز في خاتمة كتابه ألمانيا الحديثة ونشوئها ما تعريبه:
لم يكن لألمانيا في أوائل القرن التاسع عشر كيان يدل على أنها دولة عظمى بل كانت أشبه ببناء يتداعى والناس من حوله لا يعبؤن بما يجري له. فلم يكن هناك دولة يضخ أن تسمى ألمانيا بلا كان أمراء من الألمان منشقين على أنفسهم يتحاسدون وقلما يحرصون إلا على مطامعهم السافلة في الحكومة وهم أهل لكل تسفل لا يتحامون ارتكاب الخيانات على ضروبها للاحتفاظ بسلطتهم الثمينة وتقوية أمرهم وليس لهم من الكفاءة ما يستطيعون معه توجيه مطامعهم المنبعثة عن أناينتهم المجسمة نحو ما فيه نفع الأمة بل كانوا يؤهلون بالغريب ويحالفونه لقضاء مآربهم يعلنون الحرب على أبناء وطنهم إذا سما له أمل بحلب بعض النفع من غدرهم وخيانتهم. وبين ظهراني مثل هذه الأمة المنقسمة الضعيفة لا يرجى أن تقوم قائمة للحياة السياسية وأنى يكون لها ذلك ونظام الحكومة المطلقة فيها ضارب بجرانه وكثيراً ما يستحيل إلى استبداد يبيد الخضراء والغضراء والناس مع هذا خاضعون وخانعون حتى كادوا يقربون حد الرق والعبودية.
ابتعد الفلاحون وسكان المدن وأرباب الصنائع وأهل الطبقة الوسطى عن الاشتراك في الشؤون العامة واستسلموا لظلم الحكومة وطبقة الأشراف على ما فيه من النكد وهم ضعاف الحول والقوة لا قبل لهم برد عاديتهم عنهم ولم يعودوا يبالون بتة بالحياة الوطنية بل تنحوا إلى دائرة أشغالهم الخصوصية.
كل هذا الحياة الاقتصادية في الأمة ضيقة النطاق حقيرة الشأن والشعب مشتت مبعثر والبلاد فقيرة والمال قليل والصناعة تكاد تكون عدماً. فلم يبق للخروج من مأزق هذا الشقاء إلا مخرج واحد وهو تنمية العقل والصناعة فنزلت طبقة الخاصة المتعلمة إلى هذا الميدان وهبت هبة حماسية صالحة.
وفي تلك البلاد الألمانية المشتتة المغلوبة على أمرها التي كاد بوم الخراب ينعق فيها بما تواتر عليها من الحروب والغارات أزهر التهذيب الأدبي والفلسفي الذي ربما كان أجم سطور بحد الذي تفاخر به هذه الأمة. ودخلت ألمانيا من ذاك العهد في ميدان العمل وتخلت عن عالم الخيال والأحلام. وإذ كانت إنكلترا استولت على البحر وفرنسا على البر لم يبق لألمانيا كما جاء في بعض أقوالهم المعروفة إلا أن تؤسس لها ملكاً في الهواء فأنشئت مملكة لا نظير لجلالها ولا قرين لعظمتها.
ولم تلبث هذه الأمة المتقهقرة الساقطة من حيث إدراك الحقائق الأرضية المولعة على ما يظهر بالخيالات والترهات أن نشأت فيها فكرة الإقدام على الأعمال وظهر للحال بأن الشعب الألماني ربما كان الوحيد بين شعوب أوروبا في استعداده للتقدم في الجهاد الاقتصادي. فهو لم يقتصر في نهضته الغريبة على اللحاق بالأمم اللاتينية التي سبقته زمناً إلى طريق الارتقاء المادي بل تقدم عليها حتى جعلها وراءه. وكاد يهدد اليوم إنكلترا أيضاً فيما كانت لها المكانة المكينة فيه منذ القديم في الأمور الصناعية والتجارية.
فبدا هذا الشعب البطيء الثقيل بعض الشيء القوي في ذاته السالم في نفسه أنه مستعد لترقية المدنية وأن بلاده صالحة لغرس بذورها. وهو لا يعشق مثلها البطالة والفراغ ولا يرغب في العيش في التغزل بالجمال وحسن العشرة بل أنه يميل من فطرته إلى الجد وهو قوي الشكيمة عامل لا يعرف الملل سليم الطوية.
سار منذ القديم على نظام دقيق في الأخلاق. وخضع منذ أزمان لقانون قاس في التدريب على الجندية. وفي مثل من كانت هذه طيبته خالية من الزهو والظرف ولكن فيها المتانة وطول الأناة كبرت إرادة قوية صبورة منظمة لها من الكفاءة ما تستطيع معها أن تأخذ سبيلها الذي سلكته والغاية التي قصدت إليها من دون أن يلهيها الهوى والشهوة وبغير أن يثنيها ثان من صعوبة أو تحول دون أمانيها عقبة.
تطمح ألمانيا إلى بسطة سلطانها مدفوعة إلى ذلك لا بعامل الرغبة في أن تكون في مقدمة الأمم وأن تظهر شأنها وأمرها ولا من أجل المنافع المادية التي تحاول نيلها بل أنها تريد رفعة الشأن لذاتها لأنه مقياس حقيقي لما يساويه رجل أو جماعة أو حزب أو أمة.
ألمانيا مسوقة إلى المشاريع التجارية بنابل من ناموسها الاقتصادي تضطرها إليه ضرورة ملازمة لها ملازمة محتمة. الألماني كثير النسل للغاية. فقد ازداد سكان ألمانيا من نحو 25 مليوناً سنة 1846 إلى زهاء 36 مليوناً سنة 1855 إلى 60 مليوناً سنة 1905 وأنت أعلم بأن هذه الزيادة تزيد في عدد الأسر والبيوت.
وهذا النمو من الأمور التي ساعدت على نماء الثروة بينهم لأن الزائد كل سنة من أبناء الأمة ينشأ منهم لألمانيا جيش من العاملين الذين تحتاج إليهم الصناعة في ترقية شؤونها وقد انتشر فكر الإقدام على الأعمال في الطبقة الغنية من الأمة انتشاراً كثيراً. وإنك لترى رب الأسرة منهم غير طامع أن يترك لأبنائه كما هو الحال عند الفرنسيس مقاماً كريماً يعده لهم ودخلاً مضموناً يتمتعون به بعده بل أنه يربيهم تربية متينة ويجهزهم لجهاد الحياة بأقوى جهاز ثم يتركهم وشأنهم يجدون في الأرض مرتزقاً.
فيروح الشاب يتعب ويفرغ الجهد مخافة أن يسقط عن المكانة التي بلغها أهله. وهكذا كانت كثرة النسل في هذه الأمة مهمازاً قوياً يحث ألمانيا على النهوض إلى طلب الثروة والشوكة. وهذا الجهاد في سبيل العظمة يكبر ويضخم في عامة شؤون الحياة الألمانية وفي جميع فروع الجهاد البشري. فتراه متجلياً في الأفراد وفي الأحزاب السياسية وفي الطوائف الاجتماعية وفي الحكومات المتحدة وثابتاً بمجموع الأمة الألمانية بأسرها فيما تظهر فيه من مظاهر بسط السلطة وما حازته من الاشتراك في سياسة العالم. هذا الجهاد يرمي إلى رفعة شأن الجندية والبحرية والنفوذ السياسي والقوة الاقتصادية والصناعية والتجارية والتقدم العلمي. لأن العلم أيضاً صورة من صور السلطة البشرية ولا شك أن ألمانيا حازت قسطاً كبيراً من نجاحها بواسطة علمها.
صحت العزائم على التدريج وقويت إرادة السيادة وأُشربتها روح الألماني فمال إلى التهذيب بكليته. ولم يكن ميل الألمانيين إلى الفنون ميلهم إلى القوة لأن الفنون كالدواء المتمم لدواء أفعل منه فهي لا تقصد من ثم لذاتها. على أنه مما يجب أن يعرف أن رغبتهم في القوة لم تكن رغبة في القوة الوحشية الظالمة ذات الأهواء والأحكام العرفية التي تظلم عن تغفل وهوى وهي منافية للحق والعدل بل أن رغبتهم كانت مصروفة إلى القوة الذكية المفكر فيها التي تقبل لأنها مشروعة بفضيلتها الذاتية لا لأنها نافعة عاقلة. ومن العادة أن تقوى القوة على الضعف وأن تخضع الطبقة النازلة للطبقة العالية. الألمان احترموا القوة التي هي حق أيضاً ولأنها تعبر عن تقدم حقيقي يقضي العدل بأن يعترف به ويحترم.
جهاد الألمانيين لبسط سلطانهم يجري على ترتيب وتنسيق ما أمكن فإن نظام حرية المنافسة وهي عبارة عن محاربة الفرد للمجموع وتحريك الأنانية الشخصية يحتوي في مطاويه ولا شك مبدأً فوضوياً أقرب إلى الانحلال منه إلى التماسك. فيتأتى له أن يكون كما كان سابقاً في إيطاليا على عهد النهضة مثاراً للشخصيات الساخطة التي تنازع غيرها للتفوق عليه واليأس آخذ مأخذه ويهلك بعضها بعضاً بلا شفقة. بيد أنه من الثابت أن ارتقاء مبدأ حرية العمل في ألمانيا لم يؤدي إلى نتائج من هذا القبيل. فإن المنافسة بين الأفراد وبين المجموع على كثر ما تكون من الشدة ولكن لا يستحيل أبداً إلى فتن لا نظام فيها.
طال جهاد ألمانيا في سبيل الوحدة السياسية واستعر النزاع بين حكوماتها في أمره فانتهت حالة بحرب. ولما أصدر المحكمون من النائبين عن الأهلين حكمهم في هذا الشأن سكنت الكراهية وزالت الأحقاد ورضيت الأمة في الحال بما وضع لها من نظام جديد وبدلاً من أن تضيع الوقت في شحناء لا فائدة منها وتنهك قوتها في الانتقاض العبث راحت تجمع قواها لدفع غارة الحروب السياسية التي يشتد بينها الخصام ويدوم ولكنه لا ينتهي في الغالب بفتن شعواء. وربما كان بين الطبقات المختلفة عندهم أشد مما هو عند غيرهم ولكنك لا تجد فيه ما يستشم منه ريح الثورة حتى أن الفكر الإصلاحي يقوى شيئاً فشيئاً بين الحكومات التي ترى التوسع في جمع رؤوس الأموال وبين الاشتراكيين الألمان ممن آلوا على أنفسهم ألا أن ينافروا الحكومات فتراهم يقضون بدون تقية على كل ما من شأنه أن يدعو إلى القسوة ويتحامون الوقوع فيما يؤدي إلى اتخاذ سلاح القوة ولو كان فيه تحقيق أمانيهم وإبلاغهم غاياتهم وهم يصرحون جهاراً بكرههم لمقاومة روح الجندية وللاعتصاب العام.
ترى المنافسة الصناعية والتجارية مشتد \ ة كل الاشتداد وهمم الأفراد بالغة أقصى الشدة والجرأة ولكن ألمانيا وهي مهد الشركات العظمى المؤلفة من أرباب المعامل أو العملة هي على التحقيق من البلاد التي بذل فيها الجهد لتنظيم أسباب الإنتاج ووضع المراقبة على أسواق المقايضات ليكون من ثم للمنافسة حد محدود ويقلل من معاودة الأزمات وإضعاف شدتها إذا حدثت.
وعلى الجملة الجهاد الشخصي على أشده في ألمانيا ولكن لا يؤدي فيها إلى فوضى الأفراد وربما كان ذلك من الصفات التي اختص بها هذا العنصر.
اللماني يقلى شعوره بالنسبة لغيره من الأمم الأخرى في الحاجة إلى ترقية شخصيته ترقية تامة فيختار برضاه أن يحشر نفسه في بعض أعمال خاصة ينصرف إليها بجملته. ويؤثر عن طيب خاطر أن يفادي بجزء من شخصيته وذاتيته ويكتفي كما يقول التعبير الألماني بأن يكون منه جزء من إنسان بل أن يكون منه أخصائي يقوم أحسن قيام بعمل اختص به كل الاختصاص دون أن يعني بما يخرج عن الدائرة التي وضع نفسه فيها وآلى أن لا يتعداها. ومن أجل هذا السبب يختار أن يشرك غيره معه وأن يكون تبعاً له ولا يرى حرجاً في الانضمام إلى الجماعات التي تكثر في ألمانيا.
يؤثر الألماني أن يجعل نفسه جزءاً متمماً لبناء متسع تتألف منه آلة تختلف الحاجة إليها والاستغناء عنها. وهو يسعد بأن يفادي بحظ نفسه من أجل منفعة تأتي ببعض الأعمال الكبرى ويخلص في سبيل نجاحها. وبالجملة إن في الألمان غريزة التهذيب بنظام واحد فيحسن الألماني الطاعة كما يحسن الأمر ويعرف كيف ينفذ الأوامر الصادرة إليه على غاية التدقيق كما يعرف بذل الهمة في الدائرة المختصة به.
الشعب الألماني يخرج الأعضاء النافعة الرائعة من بنيه ممن هم عمد أبنية المجتمع الضخمة اللازمة للقيام بالأعمال المهمة من جيوش وطنية وإدارات كبرى ومشاريع متسعة من مالية وصناعية وتجارية ونقابات.
الألماني لا ينفك عن الانضمام والتآلف حتى في الفنون التي من شأنها الانفراد وإنك لتراه حتى في الموسيقى يجري على نغمة واحدة. وهذا الذوق في الاشتراك والخضوع طبيعي فيه فهو لا يكره على الخشوع للنظام صاغراً بل يقوم به والسرور ملء جوانحه. هو أخصائي يلذه ما هو فيه ولا يأسف على ما يبقى خارج أفقه على الدوام. نعم هو يقتنع بالوقوف دون حدود كفاءته والسرور يبدو عليه ممزوجاً بالزهد وربما ظهر عليه شيء من الاحتقار والاستهزاء بالذي يعرف القشور ويحشر نفسه فيما لا يعلم ويدعي أنه يناقش بل يحل المسائل السياسية والدينية والفنون والأخلاق. صاحب الجد في الألمان يحتقر بفطرته المرتجلين والمقتنصين الذين يخبطون ويخلطون ومعلوماتهم ناقصة وسطحية ممن يعانون كل موضوع ويتسلقون عليه وليس لهم سلاح ماض من الكفاءة ومن خلق اللماني أن لا يلقي بنفسه خارج المحيط الذي يعرفه وإن شئت فقل أنه يقل فيه الفضول ويرى ن غاية العالم هو ما اختص به وتفرد بعلمه.
كان من نتائج هذه الغريزة في الألمان من الخضوع للنظام وترتيب طبقات المجتمع عندهم أعظم حافظ للأمة. الفكر الشخصي في ألمانيا ثاقب للغاية ولا يتلكأ أمام مشكلة مهما كانت ويبحث فيها كلها مستقلاً كل الاستقلال. على أنه يكره التطرف في حلها. فليست ألمانيا من حيث الأمور الدينية مثلا جاحدة ولا كهنوتية ولا تنبذ اكتشافاً من مكتشفات من ينكرون الوحي من طريق العلم بل ترى أبداً إبداء شيء من الاحترام للحكمة الغريزية الظاهرة في الشعور الديني في الإنسانية وهي تحاول أن توفق ما أمكن بين العلم والإيمان والحقيقة العقلية الحقيقة التقليدية كما أنها في الشؤون السياسية تقصد إلى أن تمتع رعاياها بمبدأ السلطة ومبدأ الديمقراطية فلا تقبل أصلاً السلطة الاستبدادية المطلقة بل ترى احترام الحكومة المطلقة لما فيها من ترتيب الطبقات. فالديمقراطية الألمانية لا تطلب أن بيدها وحدها سعادة الأمة بل ترى عن رضا أن يشترك في السلطة معها زعيم عالي المقام لا توجده هي بل يكون مما أوجدته التقاليد.
وبعد فنه يتجلة أن ألمانيا بفضل معنى النظام والترتيب المغروس في أبنائها آخذة في الترقي لإدراك معنى التكافل في الحياة الذي هو على التدريج مهذب بل متمم لمذهب حرية المنافسة ومن هذا على ما أرى كان ارتقاءها موضوع إعجابنا في الأكثر. فإن انتشار الأحزاب السياسية والعصابات الاجتماعية ونقابات أرباب الأعمال والمعامل والعملة واتساع دائرة أعمال الضمانات الاجتماعية كلها تدل على ما تم لفكر التكافل من النجاح النامي. فحل بالتدريج الشعور بضرورة الجهاد في التكافل لإحراز القوة محل هيجان المنافسة العامة والحرب التي يثيرها الفرد على المجموع. فألمانيا تتوقع وترجو أن يكون لها بعد دور الانقلابات العظيمة والتقلقل وقلة الأمن الناشئين من ارتقاء مذهب حرية العمل ما تدخل معه في دور النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي يكون إلى السلامة مرتباً على قانون ثابت وإيمان وخلق أقل تردداً. فهي تطمح بذاك الجهاد العظيم في سبيل الوحدة السياسية والثروة المادية أن تنهض نهضة الشمير نحو الكمال في التهذيب والتكمل في التفنن. ولا شك ن هذا مما تقرأ في صفحته جمال المستقبل. ويكفي في هذه الآمال على ما يتسرب إليها من الريب أنها لا تبدو غير ممكنة التحقيق في عيون الألمان فينظرون الطريق التي قطعوها بما يحق لهم من الإعجاب ويرون المستقبل الذي إليه يسيرون بشيء من حسن الظن فيه.
بقي علينا الآن أن نثبت أن الشعور التكافلي لم يبرح وطنياً صرفاً عند الألمان فالألماني يشعر بأن مسئوليته في التكافل مع ابن جنسه لا تزال في زيادة أما مع سائر الأمم فإنه لا يرى بأساً من الانطلاق في حريته ومنافستها.