الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 32/المنازل الرخيصة في الغرب

مجلة المقتبس/العدد 32/المنازل الرخيصة في الغرب

مجلة المقتبس - العدد 32
المنازل الرخيصة في الغرب
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 9 - 1908


قال اللورد روزبري: إن من يبعمل لما فيه إنهاض تلك الجماعات من الناس الذي قضي عليهم أن تصفر وجوههم وتذل نفوسهم وتنحط مداركهم في المساكن القذرة التي ينزلونها هو بلا شك عامل على ما فيه نفع الجنس البشري عامة.

ولقد نشأت الفكرة الأولى لإنشاء بيوت العملة حوالي سنة 1810 وزادت حركتها سنة 1835 على يد شركات المناجم بني الحدود الفرنسوية البلجيكية واحتذى أحد أرباب المعامل الألمانية سنة 1835 حذو الشركات الفرنسوية فأنشأ في مولهوس إحدى مدن ألمانيا مسكناً كبيراً في حديقة تشمل على 36 منزلاً فتم عمله على أحسن الأساليب واقتدى به كثير من أهل المقاطعات في الشرق والشمال في فرنسا.

وفي سنة 1851 توسع أحد الفرنسيس في هذا الفكر وأنشأ شركة عمرت لألف ومائتي أسرة ألفاً ومائتي مسكن منفرد بعضها عن بعض ولكل منها حديقة يصبح ساكنها مالكاً لها وللمنزل بعد مدة يدفع ثمنها على نجوم مقررة.

وبدأت إنكلترا في سنتي 1841 و1848 بالاقتداء بالفرنسيس والألمان في هذا السبيل وأنشأت إحدى شركات فرنسا مساكن طيبة للعملة كل منها مؤلف من حديقة وطبقة أرضية ومطبخ وغرفتين وفي الطبقة الثانية ثلاث غرف وبيت مؤونة وقبو ولم يكلف المسكن أكثر من 293 جنيهاً يضاف إلى ذلك ثمن الأرض التي لم يكلف مترها أكثر من خمسة إلى ستة فرنكات وجعلت إيجارها الحقيقي كل سنة 230 فرنكاً أي أقل من فرنك كل يوم عن مسكن يؤوي عائلة مؤلفة من خمسة إلى ستة أشخاص وإذا أراد الساكن أن يملك المسكن في خمس وعشرين سنة يجب عليه أن يؤدي زيادة عن الأجرة 169 فرنكاً فإذا كان الساكن من العملة الذين يربحون في الساعة 60 إلى 80 سنتيماً أي لا أقل من ستة فرنكات في اليوم يتأتى له أن يسكن في مثل هذه الدار ويملكها بعد ذلك إن أراد بتوفير شيء قليل من نفقاته.

وكانت هذه البيوت في ضاحية باريز ولما ارتفعت أسعار الأراضي هناك أحبت الشركات أن تبتعد عن العاصمة أكثر فأصبحت تبني بيوتاً لا يكلف الواحد منها أكثر من خمسة آلاف فرنك. كما أنشأت أيضاً بيوتاً لم تكلفها أكثر من 3200 فرنك وبيوتاً لم تكلفها أكثر من 2800 جعلت إيجار الأخيرة منها 140 فرنكاً في السنة وفيها معظم ما يحتاج إليه من الغرف والمطبخ والأنبار وحديقة لطيفة.

وأنشأ الإنكليز بيوتاً رخيصة في جنوبي لندن كما أنشئوا منذ سنة 1867 في شمالي إنكلترا في بعض المدن الصناعية بيوتاً يقل ثمن الواحد منها عن ستة آلاف فرنك جعلوها درجات فالدرجة الأولى لا تتجاوز أجرتها في اليوم فرنكين وهكذا في الدرجة الخامسة. وسكان هذه البيوت أو مستأجروها لا يقبضون في يومهم أكثر من عشرة فرنكات ولا أقل من سبعة. وأقيم في وسط تلك الحدائق التي أنشئت البيوت عليها منتزه عام تكون فيه الاجتماعات وتقام فيه الشعائر الدينية وخصص محل منه للسماع والمراقص والمجامع وفي جانب ذلك خزانة كتب عامة وغرفة كبرى للمطالعة وغرف للعب البلياردو وحذا حذو هذه الشركات كثير غيرها في جميع الأقطار الإنكليزية وبعضها يدفع نحو خمسة في المائة فائدة الأموال التي يستخدمها في هذا السبيل. قال اللورد بيكنسفيلد سنة 1874 عندما رأى حياً من تلك الأحياء التي أنشأتها إحدى الشركات ليقيم فيها العملة: إنني لم أشعر في حياتي بدهشة أشد من دهشة عرتني عندما زرت هذه المدينة الصغرى (شهافتسوبورغ بارك) وقد تجلى لناظري نجاح ساكنيها الذي هو ولا شك ضمان لارتقاء الأمة. ولطالما جال في خاطري أن لا شيء يحمي حمى المدينة مثل البيت فهو مدرسة جماع الفضائل الأهلية وبدون مسكن لطيف الباطن يتعذر عليها في الحقيقة الوصول إلى هذه الفضائل.

وكان يقتصر في أمثال تلك المساكن سابقاً على الضروري من الحجرات ويعني بأسباب الراحة فقط أما الآن فقط ارتقت الحال في تلك الشركات شأن كل حي في الوجود فصارت لا تقتصر في بنائها على الضروري بعض الشيء بل رأت التأنق والزخرف لازم لحياة الساكنين أيضاً.

جرت عادة بعض السكك الحديدية أو التراموايات في أوروبا أن تسقط كثيراً من أجورها لمن يشترك بها من العملة لأن الدور الرخيصة التي بنيت لهم تكون في الغالب بعيدة عن المدن الكبرى وحالتهم المالية لا تساعدهم على اداء أجورها كسائر الناس فكان من شركات تلك البيوت أن عقدت مع إدارات السكك الحديدية مقاولات لمراعاة الساكنين في بيوتها مراعاة لا تكاد تصدق.

ومن لم تساعدهم حالهم من العملة والفقراء في الغرب للابتعاد عن المدن كثيراً فقد جعلوا لهم مساكن متلاصقة بعضها ببعض. وكل ساكن حر في منزله وفيه يجد ما يلزم للبيوت فيتيسر بذلك للساكن أن يجيء نصف النهار إلى بيته ليتناول الطعام مع أهله وفي ذلك من الاقتصاد ما فيه إذ يمتنع رب الأسرة عن الذهاب على المطاعم أو الحانات وكلها مما تضر بصحته وكيسه معاً وبذلك لا يصعب عليه أن يدفع أجرة أغلى من الأجرة التي يدفعها البعيد عن مسكنه. وقد أسست شركات عظمى غنية في لندن منذ سنة 1845 وكثرت في المدن البريطانية ورأس مال كل شركة من هذه الشركات لا يقل عن مليوني جنيه وتدعى أمثال هذه الدور دور الثكن (القشلاقات) وهي أبنية عظمى ذات خمس طبقات كل طبقة منفردة عن بعض يفصل بينها فناء متسع يلعب فيه الأولاد وقد فتحت فرج في الأدراج وجعلت في بعضها ممرات ومنافذ يدخل إليها النور والهواء وليس فيها دهاليز مظلمة وهي على غاية النظافة على أنواعها مستوفاة شروط الصحة كل الاستيفاء.

ومعدل أجرة مسكن ذي ثلاث غرف من مثل هذه المساكن هو 400 فرنك وأجرة الغرفة الواحدة نحو 137 فرنكاً ومعدل أجحرة من يسكنون في أمثال هذه المنازل ستة فرنكات في النهار يدفعون أجورها صباح كل إثنين من كل أسبوع. وتسأل الشركة عن سلوك من يريد السكنى في بيوتها وعن مسكنه وذمته في أداء الحقوق وهي تؤثر الأسرة التي لها أولاد على غيرها على حين أن أكثر المؤجرين لا يرضون أن يكروا بيوتهم لمن كثر أولادهم فكان ذلك في فرنسا من جملة الأسباب في قلة النسل فيها.

وقد أوصى المستر بابودي الأميركي سنة 1862 باثني عشر مليون فرنك لإنشاء دور من هذا النوع في وسط مدينة لندن ينفق ريعها كل سنة لإنشاء بيوت جديدة وقال في وصيته أنه بعد انقضاء قرن يكون الريع السنوي الناتج من الإيجارات قد بلغ مبلغاً عظيماً فلا يكون في لندن عامل فقير واحد لا يحصل على مسكن صحي موافق له ولأسرته بأجرة تناسب ما يقبضه.

ولو لم ينزل كما قال الخبيرون معدل الفائدة بعد مرور مائة سنة على موت هذا الكريم لجاوز ما جاد به مليارين وأسكن 350 ألف أسرة. وقد ظهر بالإحصاء أن الوفيات ولاسيما وفيات الأطفال تقل في بيوت المحسن بابودي أكثر من غيرها وأن المواليد فيها أكثر وأن مساكنه كان لها تأثير حسن في الصحة.

والغالب أن هذه المساكن ناجحة في إنكلترا أكثر من غيرها في البلاد الأخرى وفي مثل هذه البيوت بقليل من الذكاء والعمل يمكن للأمم التي تقول عن نفسها أنها متمدنة وأنها تتقي ذاك الجذام الخبيث من المساكن الضيقة التي تموت فيها الصحة وتفنى القوى بما ينبعث من روائحها الخبيثة وما يتزاحم فيها من الأقدام والأنفاس وما يتجلى عليها من الوحشة والبشاعة وما تكون سبباً له من الأمراض والاختلاط الضار والانحطاط الطبيعي والأدبي.

ولم تكتف إحدى الشركات في لندن بإنشاء بيوت رخيصة بل أنشأت مطاعم رخيصة للعملة. وأنك لتدخل تلك البيوت والمطاعم فلا تشهد أثراً للفاقة والفقر. وقد نظرت بعض تلك الشركات إلى مصلحتها المادية وإلى مصلحة الساكنين ورأت أن أعمالها لا تدوم غلا إذا كان ربحها معتدلاً فكان معظمها يعطي أرباحاً ثلاثة ونصف في المائة وبعضها أكثر من ذلك أي بقدر ما يعطي القنصليد الإنكليزي أو غيره من أوراق بعض الحكومات وفي ذلك من الفائدة للعملة البائسين ما يخفف عنهم شقاء الحياة وفيه خدمة المجتمع بأسره وأي فائدة له أكثر من أن يرى الشقاء يقل فتقل معه الأحقاد والحسد والثورات ويكون أرباب الأموال آمنين على أموالهم من الضياع وهم يتجرون في غرض شريف. وقد أسفرت مشاريع إنشاء هذه الدور عن ربح معتدل لمن قاموا بها ولذلك أقبل عليها هناك من لا يحبون المخاطرة بأموالهم في المضاربات وغيرها.

وما عدا هذه المنازل والدور الخاصة بالأسرات فإن القوم أقاموا غرفاً مفروشة للإيجار يسكنها رجل واحد أو امرأة واحدة أو فتاة أو فتى. فقد أنشأت جمعية الإحسان في باريز نزلاً أو حياً في مثل هذا وأخذت تؤجر الغرفى الكبرى بفرنك في اليوم والغرفة الصغرى بستين سنتيماً وهذا النزل عبارة عن خمس طبقات نظيفة يكثر فيها النور والظرف وغرفة المائدة متصلة بأحد المطاعم بشروط عقدتها معه وتقدم لها الأطعمة الجيدة بثمن بخس ومثل ذلك تجد في شيكاغو بأميركا وغلاسكو في إنكلترا وغيرها في غيرها.

ومما تفننوا بإنشائه من المساكن منازل للعزاب أقامها في لندن اللورد روتون فبلغت اليوم نحو خمسمائة مسكن يسكنها نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة مستأجر ينزلون فيها ما أحبوا ثم يغادرونها. وهذه المساكن أشبه بثكن جميلة آخذة من القوانين الصحية بنصيب وافر وكل مقصورة أو غرفة منها أشبه بمربط الحصان يسكنها الفرد وتكون مفتوحة من أعلاها. والمغاسل وغرف الاجتماع والطعام مشتركة بين الساكنين وهي معرضة للهواء النقي والنور الذي ينعكس عليها من القرميد الأبيض المعمول بالمينا على السطوح وغرف الاجتماعات فيها مزدانة بالصور ومزخرفة أي زخرف ويباع فيها الطعام والثياب بأثمان بخسة وأجرة الغرفة في اليوم ستون سنتيماً. ومع كل هذا الرخص لا تخلو الشركة القائمة بأمر هذه المساكت من ربح تجنيه. وبالسكنى في تلك البيوت يتخلص العامل أو المستخدم من قسوة المؤجرين وطمعهم الأشعبي وينزل غرفة لا أوساخ فيها ولا أقذار بعيدة عن منهكات الصحة.

وأمثال هذهالشركات كثيرة في إنكلترا وتفوق ما هو من نوعها في فرنسا وقد أنشئ معظمها وأدير بيد مشاهير من النبلاء كان لهم البرنس ألبرت والبرنس دي غال أحسن قدوة يقتدون بها وقد حملتهم على الاستكثار منها أسباب كثيرة منها الخوف من ازدياد البؤس هناك وما أحدث في قلوب العقلاء من القلق ولا سيما كثرة السكان في لندن ونمو طبقات العملة.

بلغ رأس المال الموضوع في إنكلترا لإنشاء بيوت رخيصة للعملة ملياري فرنك وفي فرنسا مائة مليون فرنك ومعظم تلك الأموال تدفعها الحكومة كما هو الحال في ألمانيا وتدفع أحياناً من دوائر البلديات كما يجري في ألمانيا وإنكلترا وروسيا. وتقوم بذلك في بعض الأحوال شركات مختلفة النوع والصفة. وما أحلى ما تقوم به ألمانيا وتسلفه لعملتها ومستخدميها المساكين من الأموال لتقيم لهم بيوتاً رخيصة ما أمكن. وما عملها هذا لو دققنا النظر إلا الاشتراكية العملية على ما تتجلى في العادة الاشتراكية في شمال أوروبا الاشتراكية ليس سداها ولحمتها كلاماً ولا خصاماً قلما ينتفع بها إلا نافخو ضرامها ثم خصومهم ثم العدو القريب.

قال جان لاهور وإني وإن رأيت أن تسير الأمور أولاً بمعونة الحكومة وحمايتها ولكني أوثر أن تعمل عزائم الأفراد عملها مستقلة فإن العزائم إذا جمعت عظمت بالاشتراك وإنكلترا أعظم مثال في هذا الباب. نعم إن الإقدام الشخصي والشركات الخاصة أنفع للأمة في هذا الشأن. لأن إلقاء المسئولية على عاتق الحكومة لا يكون منه إلا سوء إدارة وقلة اقتصاد وعمل متوسط وأكلاف مفرطة فيما تتولاه. ثم أن الاعتماد أبداً على الحكومة يورث الأمة عادات ضارة تنزه منها الشعور بالاستقلال الذي هو أحرص ما تحرص عليه نفوس العقلاء ويعبث بالتربية الحرة ولا سيما في بلاد دستورية.

إن معنى مطالبة الحكومة أن تعمل كل شيء أو مطالبتها بمعظم شؤون الأمة هو تعويد الأمة على أن لا تعلم لنفسها بنفسها شيئاً أو أنها تعمل التافه والحقير من الأعمال ولا يجب أن تدخل الحكومة إلا حيث يضعف عمل القوة الفردية ويخفق اتحاد الشركات.

الحكومة إذا نافست الأفراد توشك أن تنزع منهم الهمة وتضعف فيهم الجهاد وإذا تولت إدارة مثل هذه الدور تنتهي بأن تعين لها عمالاً كثيرين من لدنها على أن كثرة الموظفين هي اليوم الضربة القاضية على الأمم كانتشار المشروبات الروحية وربما كانت من مفاسد عصرنا وأمراضه الوبيلة وفيها الخطر كل الخطر علينا. الكحول سم الإرادة والاحترام الشخصي والتوظيف كما هو الآن عندنا لا يقل عنها ضرراً. وما التوظيف في الحكومة لقاء رواتب تدفعها لموظفيها إلا صورة من صور الرق والعبودية القديمة في مظهر جديد يضطر فيه صاحبه أن يطلق حرية روحه وفكره على حين ترى الخدام ممتعين بها. ولقد نرى حكومات في الغرب كحكومة ألمانيا مثلاً فد انتبهت لهذا النقص فما أحبت أن تكثر من جيوش الموظفين كما هو الجاري في فرنسا وأن تنهك ميزانيتها بالملايين للإدرار عليهم بل خصصت ملايين في ميزانيتها لأعمال من مثل هذه مصبوغة بصبغة الديمقراطية والاشتراكية العملية. وأما إنكلترا فلحسن طالعها أن نفوذها في رعاياها قليل والقول الفصل فيها لهمة الأفراد.

وقد قررت دار الندوة الإنكليزية سنة 1890 أن تمنح المجالس البلدية حق نزع ملكية البيوت القذرة وأن تمديد معونتها للشركات وتسلفها أموالاً في مقابلة رهن لإعادة تلك البيوت إلى حالة حسنة تجمع إلى النظافة الرخص ويعود الفقراء فيسكنوها فكان في ذلك من المنافع الصحية العامة ما ظهر أثره في وجوه السكان وصحتهم. ولا معنى لتساهل الحكومة وقلة عنايتها وهي المسيطرة على القانون أن تترك الناس وشأنهم إذا بلغت بهم الحال إلى هذه الدرجة من البؤس على أن هذا البحث كان موضوع المناقشة في المؤتمر الدولي سنة 1900 وانقسمت الآراء فيما إذا كان يجب صرف أموال الضرائب في إقامة بيوت رخيصة كما يجري في لندن وبرمنغهام من بلاد الإنكليز وفي فريبورغ وأولم في ألمانيا وفي غوتسبورغ في السويد على يد المجالس البلدية إلا أن الرأي العام كان مناقضاً لهذه الاشتراكية.

وإنك لتجد الممالك الصغرى في أوروبا من العناية بأمثال هذه المشاريع ما للممالك الكبرى وزيادة. فإذا كنا نسمع بنور المدينة ينبعث من ألمانيا وانكلترا وفرنسا في أوروبا فإن سويسرا والدانيمرك والسويد والبلجيك وهولاندة لا تقل عنها في المشاريع العامة الخيرية إن لم نقل تفوقها في أكثر حسنات المدينة لأن اللقمة الصغيرة يسهل ازدرادها أكثر من الكبيرة كما يقولون ولأن الصغير المدبر يتيسر له ضم أطرافه أكثر من الكبير المتوسع في أملاكه. وخذ مثلاً لذلك البلجيك فإنها بفضل صندوق التوفير العام فيها قد أصبح خمسة عشر ألف عامل فيها يملكون بيوتاً يسكنونها وذلك في مدة عشر سنين أسلف هذا الصندوق في خلالها اثنين وثلاثين مليوناً من الفرنكات للعملة والشركات وبواسطتهم عمرت هذه البيوت الرخيصة على أن مثال فرنسا وألمانيا وغيرهما من الممالك الكبرى مهما عنين بإعانة البائسين وإيواء المساكين فلا يبقين إلا مقصرات فإن شركات ألمانيا وغيرها من الأفراد سلفت العملة ثمانمائة مليون مارك لمثل هذه الأعمال الاجتماعية وكذلك فعلت إنكلترا وأقرضت عملتها. فترى بعض شركات كشركة البناء فيها لا تبين بيوتاً بل تقرض مالاً للعملة يبنون لأنفسهم به فيؤذي العامل كل يوم اثنين عشرة فرنكات مثلاً أي 520 فرنكاً في السنة بحيث يجتمع له بعد ثلاث سنين 1600 فرنك وبذلك يبين بأنه يستطيع أن يقتصد وعند ذلك يعمد إلى شركة من شركات بناء الدور الرخيصة ويطلب إليها أن تقرضه مالاً لإنشاء مسكن فيؤدي إليها أولاً الـ 1600 فرنك التي اقتصدها وثانياً مبلغ 2400 فرنك يدفعها بعد فتكون مكلها أربعة آلاف فرنك ويظل على تأدية عشرة فرنكات كل يوم اثنين من الاستهلاك وقد كثرت أنواع هذه الشركات وكان عددها في إنكلترا 2243 شركة لا يقل رأس مالها عن مليار فرنك حتى أن بعضهم رأى أن بعض تلك الشركات تقبض من العملة المشتركين معها كل يوم اثنين مليون فرنك.

كل هذه الأعمال لا ترى فيها الحكومة إلا أثراً ضئيلاً ما عدا ذلك فالأفراد والشركات سيديرون ما يديرون وكذلك رؤساء المعامل فإن منهم من يهتمون هناك بمصالح من يعملون عندهم اهتمامهم بمصالح أولادهم ولاسيما في البلاد الجبلية التي لا ترى فيها إلا صخوراً أو مضايق وأودية.

وقد استعمل بعضهم البيوت النقالة التي اخترعها الأميركان لتكون عوناً على استعمار بعض الأطراف البائرة والأصقاع المتنائية في الولايات المتحدة وهي مصنوعة من خشب الصنوبر وتختلف فيمتهات بحسب ما فيها من الغرف من 2500 فرنك إلى 9500 فرنك ينقله الإنسان حيث أراد وكذلك البيوت الخشبية التي اصطلح عليها في بلاد النرويج والسويد والروس وكلها من أحسن النموذجات في البيوت الرخيصة.

رأى بعض الاجتماعيين أن تولي رؤساء المعامل من أمر عملتهم ما يتولون في بعض بلاد الغرب فيقتطعون جزءاً من أجورهم لسداد ما عليهم من أثمان مساكنهم التي يكون ملكاً لهم بعد قليل من السنين ـ أن هذا العمل يفقد العملة استقلالهم بعض الشيء فيضطرون أن يعملوا في معامل رؤسائهم ريثما يوفون ما عليهم أو يخرجون منها قبل وفاء ما عليهم فيلقون المشاكل وما عدا هذا المحذور فإن تولي الرئيس أو المعلم أمر عملته والنظر في مستقبلهم وإنشاء بيوت لهم أو حملهم على الاقتصاد هو السداد بعينه.

وفي بعض البلاد لا يتأتى إلا أن يتداخل رؤساء المعامل في أحوال مستخدميهم كبلاد روسيا مثلاً. ولذلك كانت مساكن العملة في أكثر أرجائها بديعة مستوفاة شروط الصحة ولا سيما في الأماكن البعيدة عن السكان والعمران مثل معمل (داغوكردل) لصاحبه البارون إدنجرن ستمبرغ فإنه أنشأ لكل عامل داراً منفصلة عن دار جاره فبلغ عددها 237=داراً فيها عامة مرافق البيوت وحديثة للثمار وأخرى للبقول وغيرها يقتطع من أجرة العامل خمسة وعشرين في المائة فما هو إلا كلا ولا حتى يصبح العامل صاحب دار فسيحة وحديقة أنيقة ويشرب السكان من آبار ارتوازية طاهرة بحيث تكاد لا تجد للحمى التيفوئيدية بينهم أثراً مع أن هذه الحمى يكاد يكون انتشارها عاماً في البلاد الروسية وأعمار من يعيشون في هذه المساكن أطول من أعمار من يسكنون في غيرها. وكم للعملة من بيوت لا يفتحون عيونهم عليها بعد حين إلا وهي ملك لهم يخلفونها لذراريهم جيلاً بعد آخر. وأن أفاضل الروس وأجدادهم لم يفتهم أن يبسطوا أيديهم بالعطاء للمساكين ينشئون لهم به دوراً حسنة يؤويهم فقد أوصى سولودفنكيوف لمدينته باثني عشر مليون روبل لإنشاء بيوت يسكنها البائسون المحاويج.

ومن المعامل التي وسعت على عملتها ونظرت في رفاهيتهم معمل كروب الألماني فإنه مثال المشاريع العظيمة ونموذج من حماية صاحب المعمل لعملته وعدم احتفاله ب المال في سبيل راحة من يقومون بأعمالهم لنفعه ونفعهم. فإن هذا المعمل وإن شئت فقل المعاملة المعروف بمدافعه وعدده الحربية صعب عليه أن يرهق العاملين فيه كما يرهق البشر بمصنوعاته فأنشأ لعملته في ميدنية أسبين الجميلة على نهر الروهن ثماني مدن وخمسة مستعمرات وبيوتاً منفردة يسكنها العاملون آمنين مطمئنين. فهناك زهاء خمسة آلاف مسكن يقطنها زهاء ستة وعشرين ألف نسمة وقد ازدانت بالنباتات المعرشة والزهور البديعة واستوفت من داخلها وخارجها أسباب الظرف والزينة وكل ما يملأ العين قرة والصدر مسرة وأقامت إدارة المعمل بالقرب من تلك البيوت بيوتاً أخرى جميلة فسيحة للعملة العاجزين والأيامى من نساء العملة. ويتصل بالمعمل شركة تبيع المأكولات كما تتصل به مستشفيات تامة العدة وبيوت للنقاهة وقاعات الاجتماع والمطالعة وقد صرفت إدارة المعمل على إنشاء هذه الدور نحو مليون جنيه.

وتفوق دور معامل كروب دور معامل الصابون في بورت سونلخت وقد عرضت إدارة هذا المعمل أنموذجاً من الدور التي تؤجر في الأسبوع من أربعة إلى خمسة فرنكات في معرض باريز سنة 1900 فكانت محل العجب وربما كانت هي المعول عليها في المستقبل لإيواء العملة وراحتهم ففيها جماع مرافق الحياة وفي كل منها حديقة للبقول تؤجر على حدة بأجرة طفيفة جداً. وهذه الحدائق يمكن زرعها على أيسر سبيل بما أنشأته عقيلة من عقيلات الكرم والعقل من شركة تؤدي للعملة ما يلزمهم من الأرض والبذور (التقاوي) والنباتات لغرسها في حدائقهم أو لتزيين بيوتهم بها.

في إنكلترا قرية لا تقل في الغرابة عن معامل كروب ومعامل الصابون المذكورة آنفاً وهي القرية التي أنشئت في تورنفيل على يد طائفة الكواكز البروتستانتية أعني بها معامل الشوكولاتا فإن هذه الشركة رأت أن جمال مناظر المساكن مهما كان نازلوها فقراء مطلوب لذاته فبذل أفراد من هذه الطائفة مالهم لإنشاء هذه المدينة النادرة في شكلها وأقامت لها أندية وألعاباً وخزائن كتب ومحال للسباحة وبيوتاً تحف بها الخضرة والنضرة على طريقة جميلة ليس فيها مظهر من مظاهر الزخرف الكاذب بل فيها جميع ما يلزم الحياة وبعضها مزين مبهرج منقوش ولا يكلف السكنى فيها كل أسبوع أكثر من 8 إلى 11 فرنكاً.

وقد قال مدير المعمل لأحدهم بمناسبة إنشاء هذه الدور أن المذاهب السياسية لا تأثير لها ولو كنا كلنا نقوم بالواجب علينا لبطلت الحروب بين طبقات الناس وليت شعري إذا لا تقوم المجالس البلدية بمثل ما جرأنا نحن على القيام به؟ وإن الشرح ليطول لو عددنا المدن التي أنشأها أرباب المعامل في الولايات المتحدة لعملتهم حتى أن حي العملة في شيكاغو يعد من أهم أحياء تلك المدينة الصناعية العظيمة وأجملها. ولا تنس البيوت التي أقامها بعض أرباب المعامل في فرنسا ولا سيما شركة معادن لانس فإنها أحدثت أربعة آلاف مسكن وأجرة الواحد منها 150 فرنكاً. وبعض المعامل تقرض عملتها الدراهم لابتياع أرض وبناء مسكن فيكونون في الحال مالكين لها ويختارون الهندسة التي يريدونها وبعضهم يؤجر كل بيت في الشهر من فرتك وربع إلى ثمانية فرنكات وربما أعطوه بالمجان في بعض الأحوال وقد استلف عملة منجم كرونري مليوناً وستمائة ألف فرنك لإنشاء بيوت لهم كما اقترض عملة مونسوليمين زهاء مليون.

وفي مدينة سوشار من أعمال نوشاتل في سويسرا في معمل الشكولاتا حي عظيم لعملة المعمل ومستخدميه جاءت بيوته على صور مختلفة منها ما أجرته سبعة عشر فرنكاً ونصف ومنها ما أجرته ثمانية عشر فرنكاً ونصف تدفع الشركة نصف أجرتها من عندها. ومن بيوت العملة التي استحقت الثناء مدينة فيلبرون من أعمال البلجيك في معمل الزجاج وفي مدينة ولفت في هولاندة وغيرها. وكلها بيوت إن أمعنت النظر فيها تقضي بالثناء على الكثير للساعين بها على خدمتهم الحقيقية للإنسانية والوطن والاشتراكية العملية.

وما عدا دور العملة والعناية بأمرهم تجد في أوروبا جمعيات إحسان أخذت على نفسها إنشاء بيوت رخيصة يسكنها كل فقير بدون استثناء. وقد بلغ عددها في فرنسا 67 جمعية وأقدمها جمعية باريز التي أنشئت سنة 1780 فأنشأت بيوتاً مشتركة لا يكلف السكنة فيها كل أسبوع أكثر من ثلاثة فرنكات وربع إلى سبعة وربع في مساكن فيها ثلاث غرف ومطبخ وقد استوفت شروط الراحة من هواء طلق ونور كثير ومحال يسرح فيها النظر وماء كثير طاهر يجري لمن يريد وكان للمنافسة القائمة بين تلك الجمعيات أثر مهم في نجاحها وسعيها كل حين لتحسين حالتها. والمنافسة أساس عظيم من أسس النجاح. وقد بلغ رأس مال بعضها زهاء مليون من الجنيهات ومائة ألف مشترك وبعضها يبيع طعاماً وثياباً بثمن بخس وما تربحه الشركة من ذلك تعود فتبني به بيوتاً. وقد ثبت بالإحصاء في بضع سنين أن عدد الوفيات في الألف من سكان هذه البيوت دون عدد الوفيات في غيرها من المساكن غير الصحية.

ومثل هذه البيوت في نظامها وفائدتها كثير من الممالك الصغرى في أوروبا فتجد في كوبنهاغ شركة بيوت العملة وقد أقامت ألوفاً من المساكن للعملة والشركة مؤلفة من العملة أنفسهم وهي لهم بمثابة صندوق اقتصاد فيدفع كل عامل في الأسبوع قرشين أي نصف فرنك حتى يبلغ ما جمع من ذلك سنة 1900 مقدار 5769930 كورونا (الكورون فرنك وأربعون سنتيماً) فيشغلون هذه الدراهم ويعملون يانصيب فيجتمع من ذلك عشرون كوروناً في ستة أشهر لكل عامل وبعد عشر سنين يعطى إذا أراد ما دفعه مع أرباحه أو يأخذ داراً وإذا مات يأخذ ورثته هذا المبلغ ومما هو حري بالنظر في كوبنهاغ بيوت البحارة ومستخدمي البحرية التي أنشأها الملك كريستيان الرابع.

وشركة تحسين المنازل في سويسرا وميلان ونابولي ونيويورك حرية بالذكر أيضاً وكلها تدور على تحسين مسكن الفقير وبعضها يعنى بالتدفئة أيام الشتاء وبإعطاء الماء الساخن لمن شاء من الساكنين بلا مقابل وإلقاء الحرارة المعتدلة في مساكنهم وقد قامت بعض تلك الشركات بيد النساء فنجحت كما تنجح شركات الرجال. مثل شركة الآنسة كولنس في نيويورك التي أنشأتها على مثال شركة الآنسة أوكتافيا في لندن لتطهير المساكن القذرة من قذارتها وتطهير نفوس ساكنيها من حمأة الرذيلة فنجحت كلتا الشركتين وأتتا بأرباح حسنة. وقد بدأت حكومة البرازيل منذ سنة 1882 تساعد في إنشاء البيوت الرخيصة فأصبح عددها في ريودجانيرو وحدها سنة 1897، 5000 مسكن. ومن تلك الشركات جمعيات أخذت على نفسها نشر الدروس الاجتماعية والدعوة إلى تعلمها فكانت من أنفع ما يكون من الإصلاحات العظيمة التي أدخلت على بيوت الفقراء وجعل بعضها غايته درس الأسباب التي تنشأ الأسرة على أساس طبيعي وهو تمليكها أرضاً تحرثها وداراً تسكنها. تتذرع للوصول إلى هذا الغرض بكل وسيلة ممكنة تمكنها من نشر المطبوعات ودعوة الحكومات أو البلديات أو أرباب الغنى إلى إنشاء صناديق لإيجار بيوت بثمن بخس وتطالب بسن قانون تعفي الحكومة فيه من الضرائب ما يملكه الفقراء من المساكن والأراضي وتتخذ كل سبب ليتيسر للناس اقتناء مثل هذه البيوت أو بقاؤها أو انتقالها ومنها ما يعطى للمحاويج بيوتاً يسكنونها وتحميهم بدون واسطة الحكومة مما يصيبهم من الفاقة أيام عطلتهم ومن الشقاء وموت رب البيت قبل الأوان وهكذا تجد الحركة قائمة في جميع البلاد الفرنجية لتعميم هذه المبادئ وتحسين حال البائس الفقير وهي كل يوم في انتشار وكثرة بحيث ينسلخ هذا القرن العشرون في أوروبا إلا وقد انحلت فيها المسألة المعروفة بالمسألة الاجتماعية وإن شئت فقل أهمها إذ يكون جميع العملة ممتعين ببيوت يسكنونها والشركات والجمعيات تحميهم من الفقر المدقع بعض الحماية وتقل بذلك الأمراض كما يرى الباحثين في أحوال تلك المجتمعات إذ استدلوا على ذلك بأن المساكن الطاهرة الصحية قد قلت فيها الوفيات عن المساكن القذرة والأكواخ الحقيرة التي هي في الحقيقة منبعث السل وغيره من الأدواء المنهكة لجسم المجتمع وقد قال الدكتور روم أن المسكن والطعام والمعمل هي السبب في كثرة الوفيات بين العملة فالواجب الإسراع في إصلاحها وبغيرها لا إصلاح ولا فلاح وكل ذلك متوقف على الإرادة إذا صحت والأفراد إذا أقدمت وتكاتفت.

ولم تكتف الجمعيات في أوروبا وأميركا بإنشاء المساكن للفراء ونقشها والاستكثار لها من مرافق الراحة وأسباب الصحة بل أحبت تنجيدها وتزييبها والتأنق في داخلها وخارجها لأنهم رأوا السكنى في بيوت رخيصة لا تغني الغناء المطلوب وحده.

أرادت من الدور أن تكون معرضة للهواء محببة إلى القلوب وأن لا يكون أثاثها وفرشها كئيباً قذراً بل أن تكون مائلة إلى البساطة تجمع إليها حسن الذوق والظرف لأن عصر البيوت القذرة الضارة قد انقضى كما ينبغي القضاء على المساكن البشعة من داخلها الكئيبة التي تهزل الساكنين فيها من البائسين وهم لا يشكون كالدود الذي يعيش في القاذورات.

أرادت تلك الشركات أن تستعيض عن الأثاث البشع السيئ الصنع بأثاث يكون بسعره أو أقل ولكن على صورة حسنة وتزيين ضروري وأن لا يفرشوا بيوتهم فرشاً رديئاً كما هو الحال في بيوت الفقراء في أكثر بلاد الشرق. وذلك لأن النظر إلى هذه البشاعة مما تضيق به الصدور ويجرح القلوب كما تتأذى به العيون وتتقزز منه النفوس ولأن لتحسين الذوق دخلاً كبيراً في نهضة الأمة.

ترى في البلاد الديمقراطية أن الفقراء من الرجال والنساء يحاولون أن يكونوا في ملابسهم كأهل الطبقة الوسطى على أن الألبسة التي كانوا يألفونها فيما مضى لها من الرونق ما ليس لما يلبسونه اليوم على تكلفهم التقليد. وقد رأت بعض الجمعيات إنشاء ألبسة لأهل الطبقة الدنيا خاصة يشاركها في لبسها أهل الطبقة الوسطى وتكون رخيصة الثمن نافعة في صحة الأجسام وصحة الأكياس وأن يكون لمنزل أهل الطبقات النازلة ما لأهل منازل الطبقات الوسطى حتى لا ينكسر خاطر الفقير ولا ينقصه شيء من راحة الأجسام ولذلك كان أول عمل يعملونه إيجاد طريقة لتنجيد البيوت الفقيرة وتزيينها كما تنجد بيوت الأغنياء وتزين.

خذ مثلاً لذلك الجدران فإنهم رأوا أن تزين أو يوضع عليها ما يزينها من البسط. وقانون الصحة يقضي أن يتيسر غسل الجدران وقد رأوا أن الورق الذي يجعل على الحيطان ويغسل لا ينفع الفقراء لأنه غالي الثمن وأن الأحسن أن تنقش بالزيت وربما كان هذا النقش غالياً ولكنه أثبت وأفرح للنظر ولا يصعب تطهيره كل مدة ويجعل الساكن عليها صوراً ورسوماً ومصورات وأصونة للثياب وغيرها مما لا يتعذر في أوروبا اقتناؤه لرخصه وهو يزيد المكان رونقاً وبهجة.

ورأوا أن النوافذ ينبغي أن تكون ستائرها من قماش يمكن أن ينفض أو يغسل بسهولة فيكون من البفتة لا من الحرير والأطلس أو الشاش المزين بأنواع النقش والزينة أما النوافذ التي في أعلى المنازل فتترك بلا ستائر والأولى أن تكون الستائر متناسبة مع نقش الغرفة وتعلق بسيخ وحلقة.

أما سرر النوم فيجب أن تكون بحسب رأي بعض أهل الصحة مكشوفة بدون كلة (ناموسية) من أعلاها لأنه ثبت أن هذا القماش الموضوع يحبس نفس النائم ويحفظ الجراثيم الضارة بل يساعدها على النمو والتعشيش وينبغي أن تناط من عند رأس السرير قطعة من القماش تنزل وترفع بحيث تمنع مجرى الهواء عن رأس النائم فقط ولا تكون هذه القطعة طويلة وتكون من ناحيتين بحيث أن النائم حيثما انقلب لا تؤذيه أشعه النور إذا اتجهت نحوه. وينبغي التقليل من الفرش ما أمكن بحيث يسهل نفضه أو غسله. كل هذا ويراعي في الأثاث الاقتصاد والجودة فيكون متناسباً مع نقش المنزل. وتخبر الأشياء المنطبقة على الذوق لا يكلف إلا بعض عناية وبذلك تعود بعض العادات في بساطة البيوت التي كانت مألوفة. وليس الجمال في الأثاث والرياش المتكلف في صنعه والمزين من وراء الغاية بل الجمال في الفرش البسيط الاقتصادي النافع المناسب. وإنا لنرى أحسن زينة في البيوت بإنكلترا هي ما كان منها من أصل ريفي مألوفاً في القرى والدساكر إلا أنه يجمع إلى البساطة نظافة وحسن ذوق.

وقد حسب ما ينبغي لفرش بيت الفقير على هذه الصورة وهو أن تفرش غرفة المائدة وغرفة الاستقبال صغيرة وثلاثة غرف للنوم فرشاً بسيطاً كما يكون البناء رخيصاً بألف وخمسمائة فرنك إما أن يدفعها الساكن دفعة واحدة وإما أن يستلفها من الجمعيات والشركات التي أخذت على نفسها في أوروبا تقديم أحسن الفرش للبيوت بأثمان متهاودة فيدفع عن هذا المبلغ فائدة طفيفة وهي خمسة بالمائة. وإذا استأجر العامل أو الفقير داراً من مثل هذه فلا تتجاوز أجرتها وهي مفروشة أحسن فرش صحي فرنكاً وثلاثين سنتيماً.

وبهذا رأيت أن لفرش البيوت في أوروبا جمعيات كما أن فيها شركات وجمعيات لتقديم الطعام الرخيص والألبسة الرخيصة والمساكن الرخيصة بحيث آلى بعض أرباب العقول في أكثر الممالك الإفرنجية أن لا يتركوا بيتاً قذراً ولا بشعاً وأن تكون بيوت الفقراء كبيوت الأغنياء لطيفة الداخل والخارج فمتى يا ترى ينسج الشرق على مثال الغرب في مثل هذه الأعمال النافعة والحضارة الرافعة.