الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 31/تهذيب الكلام

مجلة المقتبس/العدد 31/تهذيب الكلام

بتاريخ: 1 - 8 - 1908


قال زكي الدين عبد العظيم بن عبد الواحد المشهور بابن أبي الإصبع المتوفى سنة 654 في كتابه تحرير التحبير الذي فرغ من تعليقه بمصر في مستهل سنة أربعين وستمائة وهو من أجمل كتب البديع ومن أهم مخطوطات دار الكتب المصرية في باب التهذيب والتأديب: التهذيب عبارة عن ترداد النظر في الكلام بعد عمله لينقح ويتنبه منه لما مر على الناثر أو الشاعر حين يكون مستغرق الفكر في العمل فيغير منه ما يجب تغييره ويحذف ما ينبغيب حذفه ويصلح ما يتعين إصلاحه ويكشف عما يشكل عليه من غريبه وإعرابه ويحرر ما لم يتحرر من معانيه وألفاظه حتى تتكامل صحته وتروق بهجته.

فإن رزق من ارباب البلاغة وأصحاب الفصاحة جودة ذهن وغوص فكر وكمال عقل واعتدل مزاج وحسن اختيار ووقف على أقوال النقاد في حقيقة لابلاغة وكنه الفصاحة وما عُدَّ من محاسن الكلام وعيوبه ووقي شح نفسه بحيث يطرح ما لا يقدر على تغييره من كلامه فإن كلامه موصوفاً بالمهذب منعوتاً بالمنقح وإن قلَّ ابتكاره للمعاني. وقد كان زهيراً معروف بالتنقيح فإنه يروى أنه كان يعمل الفصيدة في شهر وينقحها في أحد عشر شهراً حتى سمي شعره الحولي المحلى ولا جرم أنه قلما سقط منه شيء ولهذا أشار أبو تمام بقوله:

خذها ابنه الفكر المهذًَّب في الدجى ... والليل أسود رقعة الجلباب

فإنه إنما خص بتهذيب الفكر في الدجى لون الليل أنه تهدأ فيه الأصوات وتسكن الحركات فيكون الفكر فيه مجتمعاً والخاطر خالياً ولاسيما في وسط الليل عندما تأخذ النفس حظها من راحة وتنال قسطها من النوم ويخف عليها ثل الغذاء فحينئذ يكون الذهن صحيحاً والصدر منشرحاً والقلب منبسطاً. واختياره وسط الليل دون السحر مع ما فيه من رقة الهواء وخفة الغذاء وأخذ النفس سهماً من الراحة لما يكون في السحر من انتباه أكثر الحيوان الناطق والبهيم وارتفاع معظم الأصوات وجرس الحركات وتقشع الظلماء بطلائع الضوء وببعض ذلك يتقسم الفكر ويتذبذب الخاطر ويشتغل القلب ويتفرق مجتمع الهم ووسط الليل خال عما ذكرناه ولهذا خص أبو تمام تهذب الفكر بالدجى عادلاً عن الطرفين لما فيهما من الشواغل.

قال وكنت قد اطلعت على وصية وصى بها أبو تمام أبا عبادة البحتري في عمل الشعر. كان أبو تمام ارتجلها فجاءت محتاجة إلى تحرير بعض معانيها وإيضاح ما أشكل من وزيادات يفتقر إليها فحررت منها ما يجب تحريره وأضفت غليها ما يتعين إضافته وذكرتها في كتابي المنعوت بالميزان في الترجيح بين كلام قدامة وخصومه. وعلمت أن هذا الباب من هذا الكتاب أحوج غليها من ذلك فأثبتها ها هنا بعد أن رأيت تقديم مقدمة يحتاج إليها ويجب الاعتماد عليها وهي أن الذي يجب على كل من كان له ميل إلى عمل الشعر وإنشاء النثر أن يعتبر أولاً نفسه ويمتحنها بالنظر في المعاني وتدقيق الفكر في استنبطا المخترعات إذا وجد لها فطرة سليمة وجبلة موزونة وذكاءاً وقاداً سمحاً وفكراً ثاقباً وفهماً سريعاًً وبصيرة مبصرة وألمعية مهذبة وقوة حافظة وقدرة حاكية وهمة عالية ولهجة فصيحة وفطنة صحيحة.

ولو كانت بعض هذه الأوصاف غير لازمة لرب الإنشاء ولا يضطر إليها أكثر الشعراء لكنها إذا أكملت الشاعر والكاتب كان موصوفاً في هذه الصناعة بكمال الأوصاف النفسية التي إذا أضيفت لها الصفات الدرسية تكمل وتجمل من حفظ اللغات العربية وتوابعها من العلوم الأدبية كالنحو والتصريف والعروض والقوافي وما سومح به الشعراء من الضرورات التي يلجيء إليها ضيق الوزن والتزام التقفية ليعلم بما يجوز له استعماله وما يجب عليه إهماله ولينعم النظر في كتب البلاغة ليعرف محاسن اللفظ مفرداً وتركيباً ومعانيه ويحيط بما يتفرع من أصول النقد في البديع الذي هو رقوم الكلام ونتائج مقدمات الإفهام.

وليجعل عمدته على كتاب الله العزيز وليميز إعجازه وأدق تمييز فإنه البحر الذي لا تفنى عجائبه ولا يظمأ فيه راكبه. منها استخرجت درر المحاسن واستنبطت عيون المعاني وعرف كنه البلاغة وتحقق سر الفصاحة وكذلك سنة الرسول عليه السلام. . وليحفظ أشعار العرب وأمثالها وأنسابها وأيامها وسائر أخبارها ومحاسن آثارها ومقاتل فرسانها الأنجاد ونوادر سمحائها الأجواد ولا غنى به عن معرفة النجوم والأنواء وعلم هيئة السماء وتعقل الآثار العلوية والحوادث الرضية والمشاركة في الطب والطبائع والحساب وما يحتاج إليه الكتاب من الفقه والحديث ونقل التاريخ الصحيح. ويكون ذلك المكتسب من وراء أشياء لا تكتسب ولا تحصل بالطلب بل هي مما يجبل عليه الإنسان من مواهب الرحمن من عقل راجح وذهن صاف ورأي سديد ينتج ذلك مزاج معتدل فيحسن اختياره ويجود انتخابه فيتخير الألفاظ الرقيقة والمعاني الرشيقة ويتقن تأليف الكلام وتركيب الألفاظ وما بإيراد أبيات قلتهن في هذا المعنى من بأس وهي:

انتخب للقريض لفظاً رقيقاً ... كنسيم الرياض في الأسحار

فإذا اللفظ رق شفَّ عن ال ... معنى فأبداه مثل ضوء النهار

مثل ما شفت الزجاجة جسيماً ... فاختفى لونها بلون العقار

هذا إن أراد أن يُنعت فاضلاً أو يسمى أديباً كاملاً فتعلو بين العلماء درجته وتطير بين الفضلاء سمعته ويقل فتوره في لفظ الكلام ومعناه. وليحذر من أن يقف خاطره بسبب معاندة الزمان وتواتر ضروب الحدثان وتعذر المكسب وعز المطلب وتقدم الجهال واختصاص الأرزال بالأموال فيكون ذلك داعياً له إلى ترك الاشتغال وسبباً في فتور عزمه عن تحصيل العلوم وذريعة لقعوده عن رياضة نفسه واستعمال خاطره فيلحق بالأخسرين أعمالاً والمخطئين أفعالاً وأقوالاً. بل يكون اجتهاده في ذلك اجتهاد راغب في الأعمال شديد الأنفة من مساواة الجهال عاشق في تزكية نفسه مايل للتقدم بنفس العلم على أبناء جنسه وما أحسن قول القائل:

تعلم فليس المرء يولد عالماً ... وليس علم كمن هو جاهل

وإن كبير العلم لا علم عنده ... صغير إذا التفت عليه المحافل

ولا بد للمجتهد من يوم يحمد فيه عاقبة اجتهاده ويحصل فيه على مراده وإن كان قصير الهمة مهين النفس قد أوتي طبعاً في العمل سليماً وذهناً مستقيماً فظن أنه يستغني بذلك عن الاشتغال ويبعد عن مماثلة الجهال إدلالاً بطبعه واتكالاً على حذقه واتكالاً على حذقه كأكثر شعراء زماننا وكتابه المنتظمين في سلك آدابه حاشا من احتفل بالأدب احتفالاً أوجب لذوي الآداب الانتفاع بهذا الكتاب فلا يأنف من عرض ما يسمح به خاطره على من يحسن الظن بمعرفته ويتحقق أن مرتبته في العلم فوق مرتبته ولا يهمل ذلك فإن خطره عظيم وفوق كل ذي علم عليم. وإن كنت في ذلك كمن يصف الدواء ولا يستعمله ويأمر بالمعروف ولا يمتثله غير أني أنهج الطريق وأحض على التوفيق لتحصل لي مثوبة الدلالة وأكسب أجر الهداية فإن الدال على الخير كفاعله والمحرض على العمل كعامله.

ويعتمد الراغب في نظم الشعر وإنشاء النثر في وقت العمل على وصية الإمام أبي تمام الذي وعدت سلفاً بنشرها وهذا أوان ذكرها وهي ما أخبر به الثقة عن أبي عبادة البحتري الشاعر أنه قال: كنت في حداثتي أروم الشعر وكنت أرجع فيه على طبع سليم ولم أكن وقفت على تسهيل مأخذه ووجوه اقتضابه حتى قصدت أبا تمام وانقطعت إليه واتكلت على تعريفه عليه فكان أول ما قال لي يا أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان تأليف شيء أو حفظه أن يختار وقت السحر وذلك أن النفس تكون قد أخذت حصتها من الراحة وقسطها من النوم وخف عنها ثقل الغذاء وصفا من أكثر الأبخرة والأدخنة جسم الهواء وسلبت الغماغم ورقت النسائم وتغنت الحمائم وتغن بالشعر فإن الغناء مضماره الذي يحسن فيه.

اجتهد في الإيضاح فإن أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقاً والمعنى رشيقاً وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة وقلق الأشواق ولوعة الفراق والتعلل باستنشاق النسائم وغناء الحمائم والبروق اللامعة والنجوم الطالعة والتبرم بالعذال والعواذل والوقوف على الطلل الماحل. وإذا أخذت في مدح سي ذي أياد

فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه وأبن معالمه وشرف مقاومه وأرهف من عزائمه ورغب في مكارمه وتقاض المعاني واحذر المجهول منها. وإياك أن تشوب شعرك بالعبارة الزرية والألفاظ الوحشية وناسب بين الألفاظ والمعاني في تأليف الكلام وكن كأنك خياط تقدر الثياب على مقادير الأجسام. وإذا عارضك الضجر فأرح خاطرك ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب. واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه فإن الشهوة نعم المعين. وجملة الحال أن تعتبر لشعرك بما سلف من أشعار الماضين فما استحسنه العلماء فاقصده وما استقبحوه فاجتنبه ترشد إن شاء الله تعالى.

وكنت قد جمعت فصولاً يحتاج إليها العاقل في البلاغتين والراضع في الصناعتين من عدة كتب من كتب البلاغة وصرفت منها ما لا يحتاج إليه ونقحتها وحررتها وها هي:

ينبغي لك أيها الراغب في العمل السائر فيه من أوضح السبل بأن تحصل المعنى عند الشروع في تحبير الشعر وتحرير النثر قبل اللفظ والقوافي قبل الأبيات ولا تكره الخاطر على وزن مخصوص وروي مقصود وتوخ الكلام الجزل دون الرذل والسهل دون الصعب والعذب دون المستكره والمستحسن دون المستهجن. ولا تعمل نظماً ولا نثراً عند الملل ولا تؤلف كلاماً وقت الضجر فإن الكثير معه قليل والنفيس معه خسيس. والخواطر ينابيع إذا رفق بها جمت وإذا عُنف عليها نزحت. واكتب كل معنى يسنح وقيد كل فائدة تعرض فإن نتائج الأفكار تعرض كلمعة البرق ولمعة الطرف إن لم تقيد شردت وندّت وإن لم تستعطف بالتكرار عليها صدت والترنم بالشعر مما يعين عليه قال الشاعر:

تغنَّ بالشعر أما كنت قائله ... إن الغناء لقول الشعر مضمار

وقد يكلُّ الشاعر حيناً ويستعصي عليه الشعر زماناً كما روي عن الفرزدق أنه قال: لقد يمر عليَّ الزمن وإن قلع ضرس من أضراسي لأهون علي من أن أقول بيتاً واحداً فإن كان كذلك فأتركه حتى يجيئك عفواً وينقاد إليك طوعاً. وإياك وتعقيد المعاني وتقعير الألفاظ واعمل في أحب الأغراض إليك وفيما وافق طبعك والنفوس تعطي على الرغبة ما لا تعطي على الرهبة. واعمل الأبيات متفرقة بحسب ما يجود بها الخاطر ثم انظمها في الآخر واحترس عند جمعها من عدم الترتيب. وتوخ حسن النسق عند التهذيب ليكون كلامك آخذاً بعضه بأعناق بعض فهو أكمل لجنسه وأمتن لرصفه. واجعل المبدأ والمخلص والمقطع فإن ذلك أصعب ما في القصيد. واجتهد في تجويد هذه المواضع وتجنب معاريض أرباب الخواطر وتعاودهم عليها وميز في فكرك محط الرسالة ومصب القصيدة قبل العمل فإن ذلك سهل عليك واستعدها أولاً ونقحها ثانياً وكرر التنقيح وعاود التهذيب ولا تخرجها عنك إلا بعد تدقيق النقد وإنعام النظر.

فقد كان الحطيئة يعمل القصيدة في شهرين وينقحها في شهرين اقتداء بزهير فإنه كان راويته. وقد كان زهير يعمل القصيدة في شهر واحد وينقحها في حول كامل حتى قيل لشعره المنقح الحولي أو الحولي المحلى. واحذر إذا كاتبت من الإسراف في الشكر فإنه إبرام يوجب للكلام ثقلاً ولا تطل الدعاء فإنه يورث مللاً. ولا تجعل كلامك مبنياً على السجع كله فتظهر عليه الكلفة ويبين فيه أثر المشقة وتكلف لأجل السجع ارتكاب المعنى الساقط واللفظ النازل بل اصرف كل النظر إلى تجويد الألفاظ وصحة المعاني واجتهد في تقويم المباني فإن جاء الكلام مسجوعاً عفواً من غير قصد وتشابهت مقاطعه من غير كسب كان وإن عسر ذلك فاتركه وإن اختلفت أسجاعه وتباينت في التقفية مقاطعه فقد كان المتقدمون لا يحفلون بالسجع جملة ولا يقصدونه بتة إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام واتفق من غير قصد ولا اكتساب وإن كانت كلماتهم متوازنة وألفاظهم متناسبة ومعانيهم ناصعة وعباراتهم رائقة وفصولهم متقابلة وجمل كلامهم متماثلة. وتلك طريقة الإمام علي عليه السلام ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام كابن المقفع وسهل بن هارون وأبي عثمان الجاحظ وغير هؤلاء من الفصحاء والبلغاء.

ولا تجعل كل الكلام عالياً شريفاً ولا وضيعاً نازلاً بل فصله تفصيل العقود فإن العقد إذا كان كله نفيساً لا يظهر حسن فرائده ولا يبين كمال واسطته. وانظر إلى نظم القرآن العزيز كيف جمع صفات البلاغة الثلاث ليظهر فضل كل طبقة في بابها ويبين محكم أسبابها ويعلم أن أدناها بالنسبة إليها تعلو على أعلى الطبقات من كلام البلغاء ويربي عليها فإن الكلام إذا كان منوعاً افتتنا الأسماع فيه ولم يلحق النفوس ملل من ألفاظه ومعانيه.

واعلم أن الألفاظ أجساد والمعاني أرواح. فإذا قويت الألفاظ فق المعاني وإذا أضعفتها فأضعفها لتتوازن قوى الكلام وتتناسب في الإفهام. واقصد القوافي السهلة المستحسنة دون المستصعبة المستهجنة والأوزان المستعملة الحلوة دون المهجورة الكزة فإن الشعر كالجواد والقوافي حوافره والألفاظ صورته والمعاني سرعته والأوزان جملته.

واجعل كلامك كله كالتوقيعات وعليك بالمقطعات فإنها في القلوب أحلى وأكمل وفي المحاسن أرشق وأجول وبالأسماع أعلق وبالأفواه أعبق. وإذا نثرت منظوماً فغير قوافي شعره إلى قوافي سجعه وإذا أخذت معنى بيت من بيت فتجنب الألفاظ جملتها ما استطعت أو معظمها وغير القافية والوزن وزد في معناه وانقص من لفظه واحترس مما طعن عليه به لتكون أملك له من قائله وإذا تقربت الديار تقاربت الأفكار. ولهذا قيل الشعر محجة يقع فيها الخاطر على الخاطر.

واعلم أن من الناس في شعره في البديهة أبدع منه في الروية ومن هو مجيد في رويته وليست له بديهة وقلما يتساويان. ومنهم من إذا خاطب أبدع وإذا كاتب قصر. ومنهم ن بضد ذلك. ومن قوي نظمه ضعف نثره ومن قوي نثره ضعف نظمه وقلما يتساويان. وقد يبرز الشاعر في معنى من معاني مقاصد الشعر دون غيره ولهذا قيل أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب وزهير إذا رغب والنابغة إذا رهب وعنترة إذا كلب والأعشى إذا طرب.

وإياك وتعقيد المعاني بسوء التركيب واستعمال اللفظ الوحشي فإن خير الكلام ما سبق معناه القلب قبل وصول جلته إلى السمع. وليكن كلامك سليماً من التكلف بريئاً من التعسف. وليحظ لفظك بمعناك وتشتمل عبارتك على مغزاك. واحذر الإطالة إلا فيما تحمد فيه فإن البلاغة لمحة دالة. وقيل سرعة جواب في صواب. وقيل أن تقول فلا تبطئ وأن تصيب فلا تخطئ. والصحيح من حدها أنها إيضاح المعنى بأقرب الطرق وأسهلها. والعي إكثار من مهذار وأخطء بعد إبطاء كما جاء في في المثل سكت ألفاً ونطق خلفاً وقدر اللفظ على قدر المعنى لا زائداً عليه ولا ناقصاً عنه كما قيل في مدح بعض البلغاء: كانت ألفاظه قوالب لمعانية. وقيل في آخر: كان إن أخذ شبراً كفاه وإن أخذ طوماراً أملاه. واستعمل التطويل في مكانه والتقصير في مكانه فقد قيل: إذا كان الإيجاز كافياً كان التطويل عياً وإذا كان التطويل واجباً كان التقصير عجزاً. وإياك أن تفرط فإن فرطت قصرت أو تفرط فإن أفرطت كثرت وإلا فانظر إلى قصص الكتاب العزيز كيف أتت وجيزة ومرة بسيطة كما قلت في وصفه في القصيدة التي مدحت رسول الله ﷺ:

به قصص تأتيك طوراً بسيطة ... ليفهمها من بسطها المتبلد

وطوراً بإيجاز تبث لذي حجى ... له زند فهم ثاقب ليس يصلد

وفي الجملة مهما كان الإيجاز كافياً والمعنى به واضحاً فالإحاطة إن لم تكن عياً كانت عبأ ولم يزل إجلاء المتقدمين يحمدون ذلك ويذمون ما سواه ويدل على اختيار هذا المذهب ما يحكى عن أحمد بن يوسف الكاتب فإنه قال: دخلت يوماً على المأمون وفي يده كتاب وهو يعاود قراءته تارة بعد أخرى. ويصعد فيه نظره ويصوبه وقال: فلما مرت على ذلك مدة التفت إلي وقال: يا أحمد أراك مفكراً فيما تراه مني فقلت: نعم وقى الله أمير المؤمنين المكاره وأعاذه من المخاوف فقال: إنه لا مكروه في الكتاب ولكن قرأت فيه كلاماً وجدته نظير ما سمعت الرشيد رحمه الله بقوله في البلاغة فإني سمعته يقول: البلاغة التباعد من الإطالة والقرب من البغية والدلالة بالقليل من اللفظ على المعنى. وما كنت أتوهم أن أحداً يقدر على هذا المعنى حتى قرأت هذا الكتاب ورمى به إليّ وقال: هذا كتاب عمرو بن مسعدة إلينا قال: فقرأته فإذا فيه: كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من قواده وسائر أجناده في الانقياد والطاعة على أحسن ما يكون عليه طاعة جند حُزنت أرزاقهم وانقياد كافة تراخت أعطياتهم فاختلت لذلك أحوالهم والتأثت معه أمورهم. قال: فلما قرأه قال لي: يا أحمد إن استحسان هذا الكلام بعثني على أن أمرت للجند قبله بعطياتهم لسبعة أشهر وأنا على مجازاة الكاتب بما يستحقه محله في صناعته.

وروي أيضاً عن المأمون أنه أمر عمرو بن مسعدة الكاتب هذا أن يكتب لرجل يُعنى به إلى بعض العمال بالوصية عليه وأن يختصر كتابه ما أمكنه حتى يكون ما يكتب به في سطر واحد فكتب عمرو بن مسعدة: كتابي إليك كتاب واثق بمن كتب إليه معني بما كتب به ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله إن شاء الله تعالى.

وقد كان جعفر بن يحيى مع تقدمه في هذه الصناعة يقول لكتابه: إن استطعتم أن يكون كلامكم كله مثل التوقيعات فافعلوا. وأما قول قيس بن خارجة لما قيل له ما عندك من حمالات داحس فقال عندي قرى كل نازل ورضى كل ساخط وخطبة من له من طلوع الشمس إلى ا، تغرب آمر فيها بالتواصل وأنهى عن التقاطع فإن ذلك لم يخرجه مخرج المدح للإطالة المذمومة لأن الإطالة المذمومة هي إطالة العبارة عن المعنى الواحد بالألفاظ الكثيرة. وإنما أراد قيس الإكثار من المعاني فإذا كثرت المعاني احتاج المتكلم إلى كثرة الألفاظ للعبارة عنها ولإيضاحها وليوفي بمقصوده فيها. ومتى أطال الكلام لذلك كانت إطالته بلاغة لا عياً فإن حقيقة البلاغة إيجاز من غير إخلال وإطناب من غير إملال لاسيما خطب الإملاكات والسجلات التي تقرأ على رؤوس الجماعات. أهـ.