مجلة المقتبس/العدد 31/المسلمون والذميون والمعاهدون
→ غرائب القصاص | مجلة المقتبس - العدد 31 المسلمون والذميون والمعاهدون [[مؤلف:|]] |
تهذيب الكلام ← |
بتاريخ: 1 - 8 - 1908 |
الإحساس دليل الحياة
التضامن رائد العمران
يا ابن أمي! ويا ابن عمي!
نحن صنوان ضمنا عاطف القر ... بى جميعاً في مصر ضم النطاق
فوق هام الأهرام منك ومني ... غرّة طكوكبية الإشراق
فتقدم يا أخي وصافح أخاً ير ... جو صفاء العيش في رضا واتفاق
إنما النجح في اتحاد قلوبٍ ... بولاءٍ ونبذ كل شقاق
عرفكم الله حلاوة الانضمام بعد طول الانقسام وأنعم عليكم ببركة الائتلاف والوئام بقدر ما عرَّفتموني لذة الكلام في هذا المقام وبقدر ما أنعمتم عليّ بالتشجيع والاستحسان!
فلقد رأيت من التفافكم حولي لاستماع قولي ورأيت من قومي حينما أبلغتكم الصحف كلمي أن نغمتي صادفت منك هوىً في الفؤاد وإن صداها قد تردد في جوانب هذه البلاد حينما جهرت بدعوة أهل الشرق على طريق الحق وناديت على رؤوس الأشهاد بتوثيق علائق الارتباط بين المسلمين والأقباط.
نعم نعم! فلقد اهتزت الأمة دانيها وقاصيها وردّدت هذه الكلمة بملء فيها وأصبح شعار كل حي في كل حي: إننا مصريون قبل كل شيء.
لم أكن وحقك! َ أنتظر هذا الإقبال من ابن أمي وهذا القبول من ابن عمي ولم يكن يحدثني به وهني حتى ولا في حلمي أثناء نومي. ولكن كان من حظي أن هذه الكلمة تجسدت وقد تنبهت الأمة بعد استسلمت للجمود وأخلدت للخلود في الخمود بحيث كان الناظر لأبنائها وهم في همود يحسبهم أيقاظاً وهم رقود فحيا الله هذا الشعور! الذي جاء آية على استئناف البعث والنشور. وحبذا هذا اليوم الذي سيبقى غرة في جبين الزمان! فلقد علمنا فيه أن الإحساس دليل الحياة وأن التضامن رائد العمران!
يقول العرب في أشعارهم: إن المهم لمقدم ويقول الفرنساويون في أمثالهم: الأمير أولى بالتصدير.
وأي شيء أولى بالتصدير والتقديم من كلام القديم والتقديم كمن كلام القدير القديم؟ ق تعالى في كتابه العزيز: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً} فجعل الوفاء بالقنطار والغدر بالدينار إشارة إلى أن الوفاء أمكثر شيوعاً في أخلاق أهل الكتاب. وحسبهم ذلك مدحاً وفخاراً. وليس لي أن أتوسع في التفسير وإنما أستشهد على صدق هذه الآية بحادثتين وقعتا في بغداد وفي مصر:
فمصداق الشطر الأول: أن ابن الفرات وزير العباسيين المشهور كان يودع أمواله عند كثيرين من صنائعه المخلصين له استعداداً للطوارئ واستظهاراً من غدر الأيام. أخبر في إحدى نكباته بأن له عند يوسف بن فيجاس (أو بنجاس) وهرون بن عمران الجهبذين اليهوديين سبعمائة ألف دينار فأقرا في الحال بالمال ودفعاه وقدره 420 ألف جنيه مصري.
ومصداق الشطر الثاني: أن زوجة الأخشيد كانت قد أودعت عند رجل من اليهود جرة من النحاس وضعت فيها ثوباً منسوجاً بالذهب وبدائره من الجوهر شيء كثير. فلما زالت دولة الإخشيديين واستولى الفاطميون على مصر ذهبت المرأة بعد زوال عزها إلى ذلك الذي جعلته موضع ثقتها واستأمنته على ذخيرتها فأنكر. فقالت: خذ بعض الثوب فلم يفعل. فالتمست أن ينعم عليهم بكم واحد ويأخذ الباقي حلالاً فلم يقبل وكان في الثوب تسع وعشرون درة من الدرر الغوالي فأتت إلى قصر المعز تتعثر في أطمارها وهي أقرب إلى اليأس منها إلى الرجاء ولسان حالها ينشد بيت بنت ملك العرب التي أخنى عليها الدهر مثلها وهي حُرقة بنت النعمان بن المنذر:
فبينا نسوس الناس والأمر مرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
فأفٍ لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف
حتى إذا أتت قصر المعز وهي ذليلة بعد ذلك العز. عرضت عليه قصتها. فأحضر الرجل فأنكر. فبعث إلى داره من خرَّب عض حيطانها. فظهرت الجرة في أحد الجدران ورأى المعز الثوب وتعجب من الجوهر واللؤلؤ الذي فيه. ووجدوا أن اليهودي أخذ من صدره درتين فاعترف أنه باعهما بألف وستمائة دينار فسلم الخليفة الثوب إلى صاحبته فحمدت الله الذي أظهر صدقها واجتهدت في أن يأخذه ويعطيها مهما أراد فلم يفعل. فقالت: يا سيدي هذا الثوب كان يصلح لي وأنا زوجة صاحب مصر فأما الآن فلا حاجة لي به وهو لا يليق بي فأبى أن يأخذه واستلمته صاحبته. وبهذا التقدير يكون ثمن ما فيه من اللؤلؤ فقط نحواً من ثلاثين ألف جنيه مصري.
ومن المعلوم أن العلم من أجلّ الأمانات بين الناس وقد وقف بنا المقال في الجلسة الماضية عند نظرية جديرة بالاعتبار: وهي أن العلم مشاع وأنه ليس له وكن ولا دين بل هو مورد سائغ لكل الأفراد ولجميع الأمم. وقد أطرفتكم بشيء يسير مما وقع في تلك العصور وعصور الحكمة والنور إذ كان المسلمون يأخذون النصارى وغيرهم من أهل الديانات الأخرى وهؤلاء يأخذون عنهم ويتلقون عليهم ما يكسبون به أجراً وفخراً.
رأينا علماء النصارى واليهود يأخذون شرائع دياناتهم عن رجلين من فقهاء المسلمين ورأينا أفاضل المسلمين يسعون في طلب الحكمة والفلسفة والطب من نوابغ الذميين. وننتقل الآن على الفقهاء من الطوائف الثلاث الذين استبدلوا علوم الأبدان بعلوم الأديان كما سبق أعشى همدان إلى استبدال الشعر بالفقه فمنهم الإمام العالم الشيخ موفق الدين عبد العزيز بن عبد الجبار بن أبي محمد السلمي المتوفى سنة 604 فقد كان أول أمره فقيهاً في المدرسة الأمينية بدمشق عند الجامع الأموي ثم بدا له الاشتغال بالطب فأعاد نفسه دارساً بعد أن كان مدرساً ورجع تلميذاً بعد أن كان أستاذاً. واشتغل على الياس بن المطران بصناعة الطب حتى أتقن معرفتها وحصل علمها وعملها وصار من المتخرجين السابقين بين أربابها والمشايخ الذين يقتدى بهم فيها وأصبح هذا الفقيه سابقاً وله بعد تلك المجالس الفقهية مجلس عام للطب يحضره المشتغلون عليه بهذه الصناعة من المسلمين والنصارى واليهود.
وقد اشتهر رجل من فقهاء صقلية (من أعمال إيطاليا اليوم) بالطب بقدر ما اشتهر بالفقه حتى كان الناس يفزعون إليه بالفتيا في الطب كما كانوا يفزعون إليه بالفتيا في الفقه. هذا هو الإمام أبو عبد الله محمد بن علي التميميم المازري نسبة إلى مدينة مازر (بفتح الزاي والراء) من مدن جزيرة صقلية وقد اشتهر باسم الإمام. لأنه كان متقناً للعلوم مقدماً في علم المنطوق والمفهوم. وكان آخر المشتغلين بإفريقية (تونس) بتحقيق العلم ورتبة الاجتهاد ودقة النظر. توفي سنة 536 وقد نيف على الثمانين. يحكى أن سبب اشتغاله بالطب أنه مرض فكان يطبه يهودي فقال له: يا سيدي أمثلي يطب مثلك فاشتغل الشيخ حينئذ بالطب وبرع فيه براعة لا يدانيه فيها أحد. فأين الآن هذه الأيام؟ وهل لنا بمثل أولئك الرجال الذين يفتخر بهم الإسلام.
ولما كان أنشئ بالشيء يذكر فلا أرى بأساً من أن أذكر لكم بمناسبة هذا المسلم المسمى بموفق الدين رجلين يسمى كلاهما بالشيخ موفق الدين أحدهما إسرائيلي والثاني نصراني.
فأما الأول: فهو الشيخ الموفق شمس الرئاسة أبو العشائر هبة الله بن زين بن حسن ابن إفرائيم بن جميع الإسرائيلي المصري. نشأ بفسطاط مصر وانقطع لإتقان العلوم وتفرغ لصناعة الطب وألف فيها كتباً نفيسة مفيدة. كان جالساً يوماً في دكانه بالفسطاط وقد مرت عليه جنازة. فلما نظر إليها صاح بأهل الميت وذكر لهم أن صاحبهم لم يمت وأنهم إن دفنوه فإنما يدفنونه حياً. فبهت القوم من قوله وتعجبوا من أمره ولم يصدقوه في خبره ثم أن بعضهم قال لبعض: هذا الذي يقوله ما يضرنا أننا نمتحنه؟ فإن كان حقاً فهذا الذي نريده. وإن لم يكن حقاً فهو الذي يريده الورثة فأمرهم بالمسير إلى البيت وحمله إلى الحمام بعد نزع الأكفان ثم سكب عليه الماء الحار وأحمى بدنه ونطله بنطولات (أي رش عليه سوائل وكمده بالمكمدات) فعطس الميت فرأوا فيه أدنى حس وتحرك حركة خفيفة فقال ابن جميع: أبشروا بعافيته. ثم تمم علاجه إلى أن أفاق وصلح. ثم أنه سئل بعد ذلك عن هذه الكرامة: من أين علمت أن الروح لا تزال فيه وهو محمول وعليه الأكفان. فقال إني نظرت إلى قدميه فوجدتهما قائمتين وأقدام الموتى تكون منبسطة فحدست أنه حي وكان حدسي صائباً. ومن ذلك الوقت اشتهر بجودة الصناعة والعلم فأقبل عليه الناس للتحصيل فكان له مثل ذلك الموفق المسلم مجلس عام يحضره المشتغلون بهذه الصناعة من المسلمين والنصارى واليهود. وكان في مجلسه هذا لا يفارقه كتاب الصحاح فلا تمر كلمة لا يعرفها حق المعروفة إلا ويكشفها منه ويعتمد على ما أورده الجوهري. فبرع حتى صار من الأطباء المشهورين والعلماء المذكورين والأكابر الذين يشار إليهم بالبنان. وأقبلت عليه الدنيا بهذين السببين حتى تقدم في خدمة الملك الناصر صلاح الدين وحظي في أيامه وكان رفيع المنزلة عنده جليل القدر نافذ الأمر عالي الهمة. ولما كان الشعراء هم الغاوين قد دبت عقارب الحسد إلى شاعر اسمه ابن المنجم المصري. وكان مشهوراً خبيث اللسان فانبرى يهجوه بكل قبيح فمن ذلك قوله فيه:
لابن جميع في طبه حمق ... يسب طب المسيح من سببه وليس يدري ما في الزجاجة من ... بول المريض ولو تمضمض به
وأعجب الأمر أخذه ابداً ... أجرة قتل المريض من عصبه
دعوا ابن جميع وبهتانه ... ودعواه في الطب والهندسه
فما هو إلا رقيع أتى ... وإن حل في بلد أنحسه
وقد جعل الشرب من شأنه ... ولكن كما تشرب النرجسه
وقال:
كذبت وصحفت فيما ادعيت ... وقلت أبوك جميع اليهودي
وليس جميع اليهودي أباك ... ولكن أبوك جميع اليهود
ولما كانت العدواة في الأهل وفي أرباب الحرفة الواحدة فقد هجاه يهودي تجمعه وابن جميع رابطة الفضل والعلم والدين وهو موفق الدين ابن سوعة الإسرائيلي المصري قال:
يا أيها المدعي طباً وهندسة ... أوضحت يا ابن الجميع واضح الزور
إن كنت بالطب ذا علم فلم عجزت ... قواك عن طب داءٍ فيك مستور
وبقية الأبيات لا أستطيع إيرادها في هذا المقام ولا في غيره. ولكن هذه الخبائث الشعرية لم تمنع أفاضل المسلمين من مدح ابن جميع والاعتراف بحقه والتنويه بذكره حتى أنه لما مات رثاه الشيخ يوسف بن هبة الله بن مسلم بقصيدة غراء في ستة وثلاثين بيت أولها:
أعيني بما تحوي من الدمع فاسجمي ... وإن نفدت منك الدموع فبالدم
فحق بمن تذري على فقد سيد ... فقد نابه فضل العلا والتكرم
ومنها:
وأنجد من يممته لملمة ... وأنجد من أملته لتألم
ولو كان يفدى من حمام فديته ... بنفسٍ متى تقدم على الموت تقرم
ومنها:
فقل معلناً الشامتين بموته ... ذروا الجهل إن الجهل منكم بمأتم
ومنها
أما عجب إذ غاله الحتف رامياً ... وقد كان أرمى الخطوب بأسهم
فويح المنايا ما درت كنه حادث ... رمت سيداً يحيا به كل منعم أما الثاني: فهو الحكيم الإمام العلامة الفاضل الشيخ موفق الدين أبو بصر أسعد ابن أبي الفتح الياس بن جرجس المطران المتوفى سنة 587 فقد كان سيد الحكماء وأوحد العلماء سافر إلى بلاد الروم لإتقان الأصول التي يعتمد عليها في علم النصارى ومذاهبهم. ثم ذهب إلى العراق متشبهاً بموفق الدين المسلم وترك علوم الدين المسيحي واشتغل بعلم الطب على أمين الدولة ابن التلميذ (الذي سنورد شيئاً من أخباره فيما بعد) ثم رجع إلى دمشق وخدم بصناعة الطب السلطان صلاح الدين يوسف الأيوبي فقربه وأدناه وكان عنده رفيع المنزلة عظيم الجاه بحيث كان يقضي حوائج الناس ولا يفارق السلطان في سفر ولا في حضر ولذلك كان الطبيب يدل بمكانته لديه ويتكبر حتى على ملوك المسلمين بل على نفس صلاح الدين وكان صلاح الدين قد عرفها عنه ورضيها منه.
ومن أغرب ما تضمنته بطون الدفاتر في هذا الموضوع أن السلطان صلاح الدين بينا كان يحارب الإفرنج ويرد غوائلهم عن سواحل الإسلام كان يستعين بأهل الذمة في مدافعتهم ويستخدمهم في تطبيب جنوده وتقويتهم على رد أعدائه وأعدائهم. وقد فهم أهل الوطن الواحد في عصره المجيد أنهم لا بقاء لهم ولا جاه إلا بالتفاف حول راية واحدة هي راية الوطن. ومما يتعلق بعجب موفق الدين وإدلاله على صلاح الدين أنه كان معه في بعض غزواته وكانت عادة صلاح الدين في وقت حروبه أن ينصب له خيمة حمراء وكذلك دهليزها وشقتها ليتميز عن سائر العسكر وهذا من أبلغ ما يكون من الشهامة في الحروب فاتفق أنه ركب ذات يوم ليتفقد الجيش فإذا بخيمة تشابه خيمته كل الشبه فبقي متأملاً لها وسأل لمن هي؟ فأخبر أنها لابن المطران الطبيب فقال السلطان: والله لقد عرفت هذا من حماقة ابن المطران. وضحك. ثم قال: فلو جاء رسول من الإفرنج ومر بهذه الخيمة أفلا يخطئ ويظنها لي. بل لو جاء باطني للفتك بي أفلا يجوز أن يتخطاني إلى طبيبي. فإذا كان ولا بد فلا أقل من تغيير مستراحها. ثم أمر به فأزيل. فلما رأى موفق الذين صعب عليه الأمر وامتنع عن خدمة السلطان أياماً حتى استرضاه السلطان ووهب له مالاً. وكان في خدمة السلطان طبيب نصراني آخر يقال له أبو الفرج فاحتاج إلى تزويج بناته وتجهيزهن فطلب من صلاح الدين أن يطلق له ما يستعين به على ذلك، ولما كان السلطان فقيراً لا يملك شيئاً من حطام الدنيا حتى أنه عند موته لم يترك في خزانته (بشهادة المؤرخ أبي الفرج العبري النصراني) غير دينار واحد وأربعين درهماً. فلذلك أمر أبا الفرج أن يكتب كشفاً ببيان جميع ما يحتاج إليه في تجهيز بناته النصرانيات فكتب من الحلي والقماش والآلات وغير ذلك ما بلغت قيمته ثلاثين ألف درهم. فدفع السلطان هذا الكشف إلى الخزنة دار وأمره بأن يشتري من بيت مال المسلمين جميع ما طلبه أبو الفرج ولا يخل بشيء منه فما هو إلا أن بلغ صاحبنا موفق الدين حتى أخذته الغيرة من زميله فقصر في ملازمة الخدمة وهجر السلطان هجراً ثقيلاً فلم ير صلاح الدين حيلة لاستصلاح موفق الدين سوى إرضائه أيضاً. فأمر الخزنه دار بأن يصرف له من بيت مال المسلمين يوازي جميع النفقة التي صرفت في تجهيز بنات أبي الفرج مهما بلغت قيمتها. ففعل الخزنه دار ورضي صاحب ذلك الدلال.
ومن عجيب أمر موفق الدين هذا أن العجب والتكبر الذي كان يغلب عليه كان يفارقه حينما يذهب لطلب العلم. فكان في هذه الحالة آية في التواضع والخشوع شأن ذوي العقول الصحيحة والأحلام الرجيحة. كان هذا المختل الفخور متى تفرغ من الخدمة في دار السلطان ركب في موكب حافل تحف به جماعة كثيرة من المماليك الترك وغيرهم وذهب بهذه الأبهة الفائقة وهذه العظمة الشائقة إلى جامع المسلمين. فإذا اقترب من الجامع ترجل وأخذ الكتاب الذي يشتغل به في يده أو تحت إبطه. ولم يترك أحداً من الغلمان يصبحه. لا يزال ماشياً والكتاب معه إلى حلقة الشيخ الذي يقرأ عليه النحو والأدب واللغة وهو الشيخ الإمام تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي. فيقرؤه السلام ويقعد بين الجماعة بأدب واحتشام إلى أن يفرغ من الدرس والتحصيل فيعود إلى ما كان عليه الأبهة والعظمة والشموخ على الكبير قبل الصغير.
وقد كان موفق الدين قدوة في هذا الأمر للملك الناصر داود ابن الملك المعظم ابن الملك العادل ابن أيوب صاحب الكرك. فقد حكى النجيب الراهب المصري الحاسب بدمشق أن هذا الملك كان يتردد إلى شمس الدين الخسروشاهي المتوفى سنة 652 يقرأ عليه كتاب عيون الحكمة لابن سينا. وكان إذا وصل إلى رأس المحلة التي بها منزل الخسروشاهي أومأ إلى من معه من الحشم والمماليك ليقفوا مكانهم. ويترجل ويأخذ كتابه تحت إبطه ملتفاً بمنديل ويجيء إلى باب الحكيم ويقرعه فيفتح له ويدخل ويقرأ ويسأل عما خطر له ثم يقوم ولم يمكن الشيخ من القيام له.
ولله در بني أيوب يرد الله مضاجعهم وطيب ثراهم. فإنهم في هذا الباب خير قدوة لملوك الزمان وخصوصاً ملوك الإسلام. فقد أخذ الحديث برقاب بعضه وجرنا إلى ذكر صاحب مصر وعم الملك المعظم المذكور وأعني به الملك الكامل بن الملك العادل ابن أيوب المتوفى سنة 635. وفد عليه أبو العباس ابن دحية من أكابر علماء المسلمين بالأندلس فاتخذه الملك أستاذاً له في العلم والأدب وجعل له من الإكرام والإجلال غاية ليس وراءها مطلب. وبالغ في تعظيمه وتبجيله حتى كان يسوي له بنفسه مداسه حين يقوم. وهو هو الذي خشي بأسه الصليبيون فتقربوا إليه وهادنوه وخطب وده الإمبراطور فريدريك بعد أن أسر القديس سان لوي وأعاده مكرماً معظماً. وكان هذا الملك يبيت عنده كل ليلة جمعة جماعة من فضلاء المسلمين والنصارى واليهود ويشاركهم في مباحثهم كأنه واحد منهم. ومما يؤثر عنه أنه لما تولى سلطنة مصر خفض من ضرائبها بما يقارب الثلث فأفاد بذلك رعيته المسلمين والأقباط على السواء.
نرجع إلى صاحبنا موفق الدين ونقول أنه أسلم وحسن إسلامه وأن صلاح الدين زوجه إحدى حظايا داره المقربة لدى زوجته خوند خاتون فأعطتها الكثير من حليها وذخائرها ومولتها وخولتها. فرتبت أمور موفق الدين وهذبت أحواله وحسنت زيه وجملت ظاهره وباطنه. . وصار له ذكر سام في الدولة وتنافس الأمراء في الإنعام عليه وتوقت حاله حتى كاد يكون وزيراً ولكنه ما زال يتعهد زملاؤه فكان يقدمهم ويتوسط في إدرار الأرزاق عليهم. وكانت له دار بدمشق على غاية من الحسن في العمارة والتجميل وفيها بركة يبرز منها الماء من أنابيب ذهب على غاية ما يكون من حسن الصنعة وفيها مكتبة تحتوي على نحو عشرة آلاف مجلد عدا ما استنسخه. فقد كانت له عناية بالغة باستنساخ الكتب وتحريرها وكان في خدمته ثلاثة يكتبون له أبداً ولهم منه الجامكية والجراية المتصلة. وقد كتب بخطه كتباً كثيرة في نهاية حسن الخط والصحة والإعراب. وصحح بنفسه أكثر الكتب التي عنده وأتقن تحريرها. وذلك كله غير الكتب التي كان يهبها لتلاميذه فضلاً عن الإحسان إليهم والاعتناء بأمرهم. وكان أجل تلاميذه الشيخ مهذب الدين عبد الرحيم ابن علي المسلم ومن أخص أصدقائه الشيخ موفق الدين بن البوري الكاتب النصراني.
قال الحكمي أوحد الدين عمران الإسرائيلي أنه حضر بيع كتب ابن المطران المذكور فوجدهم قد أخرجوا أجزاء صغيرة من الكتب الصغار أو المقالات المتفرقة في الطب مما استنتسخه أو نسخه ابن المطران بخطه وكان عددها كثيراً جداً بلغ الوفا كثيرة وأن القاضي الفاضل بعث يستعرضها فأرسلوا له بملء خزانة صغيرة منها فنظر فيها ثم ردها. فبلغت في المناداة ثلاثة آلاف درهم واشترى الحكيم عمران أكثرها. وقال أنه حصل الاتفاق مع الورثة أنهم أطلقوا بيعها كل جزء بدرهم. فاشترى الأطباء هذه الأجزاء الصغار على هذا الثمن بالعدد.
وهذا الحكيم عمران الإسرائيلي توفي بعد المطران بسنتين وقد أخذ الطب عن الشيخ رضي الدين الرحبي أستاذ أو أستاذ أساتذة الأطباء جميعاً بالشام وتلميذ ابن جميع الإسرائيلي المصري. وقد جرى الحكيم عمران على مذهب شيخه في عدم خدمة الملوك والسفر معهم. ولكنهم (وخصوصاً بني أيوب) غمروه بالإحسان السني والعطايا الجزيلة. حتى حاز من الأموال الجسيمة والنعم ما يفوق الوصف. ولقد حرص الملك العادل أبو بكر بن أيوب أن يستخدمه في الصحبة فما فعل. واجتهد الملك الناصر داود الذي ذكرناه قبل هذا بأن يجعل له في كل شهر ألفاً وخمسمائة درهم وقدم له مرتب سنة ونصف مقدماً فلم يقبل فوهبه مالاً كثيراً وتركه على حريته. وكان السلطان الملك العادل لم يزل يصله بالأنعام الكثير وله منه الجامكية الوافرة والجراية وبقي مرتبه محفوظاً له بعد موت الملك العادل في سلطنة المعظم وليس عليه سوى أن يتردد على الدور السلطانية بالقلعة وإلى البيمارستان الكبير لمقابلة المرضى.
وقد بلغ من إكرام اليوبيين لأهل الفضل أن الحكيم موفق الدين أبا شاكر النصراني حظي عند الملك العادل حظوة عظيمة وتمكن منه ومن دولته تمكناً كثيراً فأنعم عليه بضياع كثيرة وغيرها ولم يزل يفتقده بالهبات الوافرة والصلات المتواترة. وجرى الملك الكامل معه على سنة أبيه وزاد فإنه أباح له الدخول راكباً في جميع قلاعه مثل قلعة الكرك وجعبر والرها ودمشق والقاهرة وكان ذلك منتهى التشريف في تلك الأيام خصوصاً لمن كان متمتعاً بالصحة والعافية مثل ذلك الموفق. ولقد بلغ من أمره أن العادل حينما ترك دار الوزارة التي كانت مقراً لبني أيوب بعد ذهاب دولة الفاطميين واستقر بقصر القاهرة في القلعة أنه أسكن موفق الدين هذا معه في قصره. ركب السلطان مرة بغلة النوبة وخرج إلى بين القصرين (بالجهة التي بها المشهد الحسيني الآن) فركب فرساً آخر وأرسل البغلة التي كان راكباً عليها إلى دار الحكيم بالقصر وأمر بركوبه عليها وخروجه من القصر راكباً،. ولم يزل واقفاً بين القصرين إلى أن وصل إليه فأخذ بيده وسايره يتحدث معه وسائر الأمراء يمشون بين يدي الملك الكامل. والشيء من معدنه لا يستغرب. فقد كان الكامل كاملاً بأكمل معاني الكلمة لا يفرق بين مسلم وذمي ممن تحلى بالفضيلة والكمال.
ذكرت لكم قصة اليهودي الذي أحيا الميت. وبما أنيي في معرض التوفيق بين العناصر المختلفة التي تجمعها راية واحدة هي راية الوطن فأخشى أن يكون المسلمون والنصارى قد نقموا على هذا العاجز أن لا يذكر منهم رجالاً أحيوا الموتى. فاسمحوا لي إذن بذكر حادثتين.؟ وأبدأ بالمسلم لتقدمه في الزمن ليس إلا وأثني بالمثلث وإن كان دينه جاء أولاً.
جلس هارون الرشيد في بعض الأيام وقدمت بين يديه الموائد وجبرائيل بن يختيشوع غائب فامتنع أمير المؤمنين عن الأكل حتى يحضر جليسه وسميره. وأمر بطلبه ليحضر الأكل مع صحابته على عادته. فبحثوا عنه في جميع منازل الحرم والأمراء ولم يقع القوم له على أثر. فتكدر الرشيد وطفق يلعنه ويقذفه وإذا بجبرائيل داخل عليه وقد سمع سبه بأذنه فلم يهلع ولم يتروع بل قال: لو اشتغل أمير المؤمنين بالبكاء على ابن عمه إبراهيم بن صالح وترك ما هو فيه من تناولي بالسب كان أشبه فاستفهم الخليفة عن الواقع فأعلمه أنه خلفه وبه رمق ينقضي آخره وقت صلاة العتمة فاشتد جزع الرشيد وأمر برفع الموائد وأقبل على البكاء حتى رحمه جميع من حضر. فقال جعفر البرمكي: يا أمير المؤمنين إن طب جبرائيل رومي وعندنا صالح بن بهلة وهو في العلم بطريقة أهل الهند مثل جبرائيل في العلم بمقالات الروم. فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بإحضاره وتوجهه إلى إبراهيم بن صالح لنفهم ما يقول مثل ما فهمنا عن جبرائيل. فأمر الرشيد ورجع صالح الهندي المسلم بعد هنيهة وسأله جعفر وشدد في معرفة الخبر فأبى صالح بن بهلة وأصر على القول بأنه لا يكاشف بما ره غير أمير المؤمنين فلما أدخل عليه قال: يا أمير المؤمنين أنت الإمام وعاقد ولاية القضاء للحكام ومهما حكمت به لم يجز لحاكم فسخه. وأنا أشهدك يا أمير المؤمنين وأشهد على نفسي من حضرك أن إبراهيم بن صالح إن توفي في هذه الليلة أو في هذه العلة إن كل مملوك لصالح بن بهلة حر لوجه الله وكل دابة له فحبس في سبيل الله. وكل مال له فصدقة على المساكين. وكل امرأة فطالق ثلاثاً بتاتاً فقال الرشيد: حلفت ويحك يا صالح على غيب والغيب لا يعلمه إلا الله. فقال صالح: كلا يا أمير المؤمنين. إنما الغيب ما لا علم لأحد به ولا عليه دليل له. ولم أقل ما قلت إلا بعلم واضح ودلائل بينة. فسري عن الرشيد ما يجحد وأكل وشرب وطرب. ولما كان وقت صلاة العتمة ورد كتاب صاحب البريد بمدينة السلام يخبر بوفاة إبراهيم بن صالح. فاسترجع الخليفة بالبكاء والعويل وأقبل على جعفر باللوم على إرشاده إلى صالح بن بهلة وأقبل يلعن الهند وطبهم ويقول: واسوأتاه من الله! أن يكون ابن عمي يتجرع غصص الموت وأنا أتحين فرص اللهو والقصف. ثم دعا بمقيءٍ فقذف به ما في جوفه من طعام وشراب وبكر إلى دار إبراهيم بكور الغراب ولم يرض الجلوس على النمارق والمساند بل وقف متكئاً على سيفه. وقال للفراشين: لا يحسن الجلوس في المصيبة بالأحبة على أكثر من البسط. وأمر برفع الفرش والنمارق وجلس بعد ذلك على البساط. فصارت سنة في المآتم لبني العباس ولا يزال أثرها باقياً على اليوم في مصر وغيرها من بلاد الشرق خصوصاً في دور الحريم. وبقي القوم في سكوت وسكون كأنما على رؤوسهم الطير حتى إذا سطعت روائح المجامر صاح صالح ورفع عقيرته وهو يقول كالمجنون: الله الله يا أمير المؤمنين أن تحكم بطلاق زوجتي وهي حلال لي وحرام على غيري. الله الله أن تخرجني من نعمتي ولم يلزمني حنث. الله الله أن تدفن ابن عمك حياً فوالله يا أمير المؤمنين ما مات. فأطلق لي الدخول عليه والنظر إليه. وهتف بهذا القول مرات أزعجت الخليفة والحاضرين. فأمر بالإنعام عليه بما يريد. فدخل وحده ولبث الحاضرون يسمعون ضرب بدن بكف ثم كف. وإذا بتكبيرة ارتجت لها جوانب الدار وخرج صالح يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثم قال: قم يا أمير المؤمنين حتى أريك العجب الأكبر. فدخل الرشيد وخواصه فأخرج صالح إبرة كانت معه فأدخلها بين ظفر إبهام يد الميت ولحمه فجذب الميت يده وردها إلى بدنه. فقال صالح: يا أمير المؤمنين هل يحس الميت بالوجع؟ فقال الرشيد: لا. فقال له صالح: لو شئت أن يكلم أمير المؤمنين الساعة لكلمه. فقال له الرشيد: فأنا أسألك أن تفعل ذلك. فقال: يا أمير المؤمنين أخاف إن عالجته وأفاق وهو في كفن فيه رائحة الحنوط أن ينصدع قلبه فيموت. ويكون الموت حقيقياً ولا تكون لي حيلة في إحيائه. ولكن يا أمير المؤمنين تأمر بتجريده من الكفن ورده إلى المغسل وإعادة الغسل عليه حتى يزول رائحة الحنوط عنه ثم يلبس مثل ثيابه التي كان يلبسها في حال صحته ويطيب بمثل ذلك الطيب ويحول إلى فراش من فرشه كالتي كان يجلس وينام عليها حتى أعالجه بحضرة أمير المؤمنين فإنه يكلمه من ساعته فأمر الرشيد بامتثال أمر الطبيب ثم دخل على ابن عمه فدعا صالح بكندس (وهو جذر نبات يشبه الخرشوف) ومنفخة ونفخ في الكندس في أنفه فمكث الميت مقدار سدس ساعة (10 دقائق) ثم اضطرب بدنه وعطس وجس قدام الخليفة وقبل يده. فسأله الرشيد عن قصته فذكر أنه كان نائماً نوماً لا يذكر أنه نام مثله قط طيباً إلا أنه رأى في منامه كلباً قد أهوى إليه فتوقاه بيده فعض إبهام يده اليسرى عضة لا يزال يحس بوجعها. وأراه إبهامه التي كان صالح أدخل فيها الإبرة. وعاش إبراهيم بعد ذلك دهراً وتزوج العباسة بنت المهدي وولي مصر وفلسطين وتوفي بمصر وقبره بها لأنه لم يدفن ببغداد حياً.
ومن كانت منيته بأرضٍ ... فليس يموت في أرض سواها
أما الحكيم النصراني الذي أحيا الموتى فهو رشيد الدين أبو الوحش بن الفارس أبي الخبر ابن أبي سليمان داود بن أبي المنى بن أبي فإنه الذي اشتهر فيما بعد باسم أبي حليقة. كان أبوه الفارس أبو الخير من رؤساء الجيش العاملين فكان يلبس ولده لباس الجندية مثل لباسه ويرشحه للخدمة في العسكرية مع المسلمين في محاربة الصليبيين كما جرت عادة الآباء في الشرق من جعل أبنائهم على حرفتهم. وذلك مصداق لما قاله الإمام النووي في التحفة وللإمام أو نائبه الاستعانة بأهل الذمة والاستئمان على العدو بشرط أن تؤمن خيانتهم بأن يعرف حسن رأيهم فينا. ويشترط في جواز الاستعانة بهم الاحتياج إليهم ولو بنحو خدمة أو قتال لقلتنا. ونفعل بالمستعان بهم الأصلح في إفرادهم أو تفريقهم في الجيش وكانت دار الفارس أبي الخير ملاصقة لدار السلطان العادل بمدينة الرها فاتفق أن الملك الكامل الأيوبي وهو ولي العهد دخل فيها الحمام فأعطى الفارس لولده رشيد الدين فاكهة وماء ورد وأمره بحمله إلى الملك الكامل. فلما خرج من الحمام وقدم الغلام بين تلك الألطاف أخذه معه وفرغ الأطباق من الفاكهة وملأها شققاً سنية وسيرها لوالده. ثم أخذ الكامل بيد الغلام النصراني وعمره يومئذ ثماني سنين ودخل به على السلطان الملك العادل ولم يكن رآه من قبل فلما أبصره قال للملك الكامل: يا محمد هذا ابن الفارس لأنه أخذه بالشبه فقال: نعم.
قال: هاته فحمله الملك الكامل ووضعه بين يدي السلطان فلاعبه ولاطفه وتحدث معه حديثاً طويلاً ثم التفت إلى والده وقد كان قائماً في خدمته مع جملة القيام وقال له: ولدك هذا ولد ذكي لا تعلمه الجندية فالأجناد عندنا كثير وأنتم بيت مبارك وقد استبركنا بطبكم أرسله إلى الحكيم أبي سعيد (أي عمه مهذب الدين الذي ذكرناه في غير هذا الموضع) ليقرأ عليه الطب بدمشق فامتثل والده فتخرج بها ثم جاء إلى القاهرة وكانت كعبة العلوم فأكمل دروسه بها وبرع حتى صار يشار إليه بالبنان هذا مع مواظبته على العبادة وتفقهه في دينه المسيحي وقرض المرقص المطرب من الشعر الرقيق المعجب ثم تولى السلطنة الملك الكامل واستقر بمصر فقرب رشيد الدين أبا الوحش وكان كثير الاحترام له فحظي عنده كثيراً حتى نال منه الإحسان الكثير والأنعام المتصل وأقطعه على سبيل الجراية نصف بلد عامرة بالشرقية تعرف بالعزيزية والخربة (وتعرف الآن بالعزيزية بمركز مينا القمح وهي منسوبة للعزيز الفاطمي) ولم يزل في خدمة الكامل حتى مات فخدم ولده الملك الصالح ثم ولده الملك المعظم تورانشاه حتى قتل وجاءت دولة المماليك واستولوا على البلاد واحتووا على الممالك الأيوبية فأجروه على ما كان باسمه ثم خدم الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي وبقي في خدمته على عادته المستمرة وقاعدته المستقرة وله منه الاحترام التام وجزيل الأنعام والإكرام حتى وفاه الحمام.
كانت له اليد الطولى في الطب فقد أمره الملك الكامل بعمل الترياق الفاروقي المشهور فسهر عليه الليالي حتى حتق مفرداته بشهادة أئمة الصناعة أبقراط وجالينوس ولما تعذر عليه حضور أدويته الصحيحة من الآفاق ركب مختصر ترياق توجد أدويته في كل مكان ونوى أن لا يقصد به قرباً من ملك ولا طلب مال ولا جاه في الدنيا ولا يقصد به سوى التقرب من الله بنفع خلقه أجمعين وبذله للمرضى مجاناً فكان يخلص به المفلوجين ويقوم به الأيدي المتقوسة ويسكن وجع القولنج ويفتت الحصى ويزيل ألم الأسنان لوقته وساعته فشاع أمره وتحدث به الخاص والعام حتى سأله السلطان وقال له: يا حكيم إيش هذا الترياق الذي عملته ولم تعلمني به فقال: يا مولانا المملوك لا يعمل شيئاً إلا لمولانا وما تأخرت عن العرض إلا لتجربته أما وقد أصبح هذا لمولانا فصار على ثقة منه فقد حصل المقصود فأمره بإحضاره فلم يكن عنده منه إلا شيء يسير لأن الخلائق كانت قد تهافتت عليه فمضى إلى أصدقائه الذين أهداهم منه حتى جمع من وهناك أحد عشر درهماً وجعله في برنية من الفضة فاحتفظ عليها السلطان وكان يشكو من نزلة في أسنانه فما هو إلا أن وضع جزءاً صغيراً منه حتى زايله الألم وكأنه لم يكن.
أما إحياؤه الميت: فقد مرضت دار من بعض الآدر السلطانية (أعني إحدى حظايا السلطان فإن السر في السكان) وكانت مقيمة بناحية العباسية وكان الملك الكامل لا يشرك مع هذا الطبيب أحداً في مداواته وفي مداواة من يعز عليه من دوره وأولاده فانقطع للعناية بها أياماً. ثم عرض له ما أوجب عليه الرجوع إلى القاهرة لمدة ثمانية عشر يوماً ثم عاد لعيادة مريضته بالعباسية فوجدها قد تولى علاجها جماعة من الأطباء فاشترك معهم فحكموا بأنها تموت والمصلحة تقضي بإعلام السلطان قبل أن يفجأه أمرها بغتة فقال: إنها ليست عندي في مرض الموت فقال أكبرهم سناً (وكان رشيد الدين شاباً): إنني أكبر منك وقد باشرت من المرضى أكثر منك فتوافقني على كتابة هذه الرقعة. فأبى فقرَّ رأي الأطباء على كتابة الرقعة. فقال: لا أضع اسمي على هذه المطالعة. فلما وصل الخبر للسلطان بعث رسولاً ومعه بجار ليعمل لها تابوتاً تحمل فيه جثتها إلى القاهرة. فقال له الحكيم ما هذا النجار؟ قال لعمل التابوت. قال: تضعونها فيه وهي في الحياة؟ قال: بل بعد موته. قال: ارجع بهذا النجار وقل للسلطان عني خاصة أنها في هذه المرضة لا تموت. فلما كان الليل أرسل إليه السلطان بورقة بخطه يقول فيها: ابن الفارس يحضر إلينا (لأنه لم يكن بعد سمي بأبي حليقة) فلما وصل إليه قال له: أنت منعت من عمل التابوت؟ قال نعم. قال بأي دليل ظهر لك من دون الأطباء كلهم. قال: لمعرفتي بمزاجها وبأوقات مرضها على التحرير من دونهم وليس عليها بأس في هذه المرضة. فقال: امض وطبها واجعل بالك لها. فذهب وداواها حتى عوفيت ثم أخرجها للسلطان فزوجها وولدت من زوجها أولاداً كثيرين.
هؤلاء هم الثلاثة الذين أحيوا الموتى على ما وصل إليه علمي. أحدهم مصري وهو يهودي وثانيهم هندي استوطن بغداد وهو مسلم وثالثهم شامي استوطن مصر وهو نصراني. ولعلكم يا بني أمي ويا بني عمي ترشدونني إلى مسلم وقبطي في مصر قاما بهذه الكرامة أو أن يقوم فيكم من يجدد لنا ذكرها والافتخار بها.
لعل الشام ترضى؟ كأني بها تقول: مني خرج المسيح وهو الذي أحيا الموتى! أفلا تذكر لي طبيباً واحداً من هذا القبيل حتى لا أكون بين الفسطاط والزوراء لا في العير ولا في النفير.
كان بها فلاح يرتزق وراء المحراث في قرية يبرود صار اسمه فيما بعد أبا الفرج جرجس اليبرودي. رأى فاصداً قد التوى عليه سد العرق فتوالى الرُّعاف على المفصود. فقال له: يا هذا إني أرى أبي في وقت سقي الكرم إذا نفتح شق في النهر لا يقدر على إمساكه دون أن يفتح فتحاً آخر ينقص به الماء الأول الواصل إلى ذلك الشق ثم يسده بعد ذلك. ففعل الجرائحي بهذه الإشارة وانقطع الرعاف. ثم قال للفلاح: لو أنك تشتغل بالطب لجاء منك طبيب حاذق. فوقرت هذه الكلمة في صدره واقبل على التعلم بدمشق وما كفاه ما حصل عليه حتى أخذ سواراً كان لأمه وذهب إلى بغداد فأنفق ثمنه على استكمال العلم وصار من أكبر النوابغ في هذا الفن. رأى يوماً في سوق جيرون بدمشق إنساناً راهن على أن يأكل أرطالا من لحم فرس مسلوق مما يباع في السوق فوقف ورآه قد أمعن في الأكل بأكثر مما تحتمله قواه ثم شرب بعده فقاعاً كثيراً وماءً بثلج فاضطربت أحواله وتفرس إنه لابد أن يغمى عليه فيصير إلى حالة يكون الموت أقرب إليه أن لم يتلاحق فتبعه إلى منزله واستشرف إلى ماذا يؤول أمره فلم يكن إلا أيسر وقت وأهله يصيحون ويضجون بالبكاء ويزعمون إنه قد مات. فأتى إليهم وقال: أنا أبرئه وما عليه من بأس. ثم أنه أخذه إلى حمام قريب من ذلك الموضع وفتح فكيه كرهاً ثم سكب في حلقه ماءً مغلياً وقد أضاف إليه أدوية مقيئة لطيفة وقيأه برفق ثم عالجه وتلطف في مداواته حتى أفاق وعاد إلى صحته.
ولليبرودي هذا كرامة ثانية من هذا القبيل حكاها الطرطوشي في سراج الملوك:
مر رجل يبيع المشمش على خباز في دمشق فاشترى منه وجعل يأكله بالخبز الحار فلما فرغ سقط مغشياً عليه فنظروا فإذا هو ميت وقضى الأطباء كلهم بموته فغسله أهله وكفنوه وصلوا عليه. ثم خرجوا به إلى الجبانة فاستقبلهم اليبرودي صدفة على باب البلد وسمع الناس يلهجون بقضيته فقال: حطوه ثم أخذ يقلبه وينظر في إمارات الحياة التي يعرفها. ثم فتح فمه وسقاه أو حقنه فاندفع ما هناك فإذا الرجل قد فتح عينيه وتكلم وعاد كما كان إلى حانوته وأظنه تاب عن أكل المشمش ولو في المشمش. ولا شك أنه يصح لنا أن نقول عن اليبرودي أنه فلاح وفلح.
وبما أننا طرقنا باب الحياة بعد الموت فاسمحوا أن أنتقل بكم بطريق المجاز إلى عالم هو خير وأبقى. ثم نعود إلى هذه الدار بغاية التعجيل. فإنما كلامنا من باب المحاضرة والتمثيل ونحن اليوم في دار التمثيل.
كثيراً ما يمتعض النصارى إذا قال جهال المسلمين عن أحدهم أنه هلك أو أنه هالك وكأني بهم أشبه الناس بعلي بك كشكش. إذ رأى صغار العامة أنه يحرن ويحرد إذا قالوا له: كشكش فصاروا كلما رأوه يقولون له: كشكش كشكش كشكش حتى ضرب أحدهم بحجر فأدماه فأخذه الثؤر والثآرير على رأي الأستاذ البرقوقي والجلواز والجلاوزة على رأيي والشرطة على رأيكم والبوليس على رأينا جميعاً وساقوه كلهم إلى الحاكم فأخذ في تقريعه فقال له: لست بملوم يا سعادة الباشا. فقال: كيف ذلك. قال: صلّ على النبي. قال المحافظ: اللهم صل عليه. قال: زد النبي صلاة. قال: عليه الصلاة والسلام. قال: ثم زده صلاة: قال: ﷺ. قال: كرر الصلاة فهي عبادة. فانفعل المحافظ وانتهر علي بك. فقال له: ويحك يا مولاي أنت حزنت من الصلاة على النبي وهي خير ما يتقرب به العبد إلى الرب فكيف بي وكلما مشيت خطوة سمعت كشكش كشكش كشكش.
تعلموا يا بني عمي أن كل حي إلى الممات يصير وأن هذا الانتقال إما أن يكون بفعل فاعل أو بحكم انتهاء الأجل. ففي الحالة الأولى يستعمل اللفظ الموافق لإزهاق الروح مثل قُتل، صلب، شُنق، خوزق، الخ. . أما في حالة الجهاد والاضطهاد عند المسلمين والنصارى فيقال: استشهد وتنيح. وفي الحالة الثانية يقالك مات وقبض وتوفي وهلك وحضرته الوفاة وغير ذلك من التعبيرات التي تتحلى بأنواع الكنايات.
نقطة الخلاف في هلك. ولا أكتمكم أنني مع هذه النقطة مثل بعض علماء النحو مع حتى: أعني أنني أهلك وفي نفسي شيء من هلك بل اللهم شيئان أولهما فلسفي اجتماعي وهو الذي نحن بصدده الآن فإنه أوجب انفراج الخلف وسوء التفاهم بين أبناء الوطن الواحد وثانيهما لغوي إذا أزحنا الريب العالق بسببه تبدد الأول وزال.
يقول أهل اللغة في هلك ويهلك (من باب منع وضرب) ثم تكرموا وسوغوا لنا أن نقول في الملك هلك بكسر اللام بشرط أن يكون المضارع مفتوحاً (يهلك) أي من باب علم. ثم أمرونا أن نقول في المصدر هلكاً (بضم الهاء) وهلاكاً (بفتحها) وتُهلوكاً وهُلوكاً (بضم أولهما) ومهلكة ومهلكاً وتهلكة (بتثليت اللام في الثلاثة) واللغة مثل العلم لا دين لها ولكنها قد تكون أيضاً وسيلة للتنطع والحذلقة والسفسطة.
ما هو معنى هلك بهذه التقعرات المتراكمة؟ قال الفيروز أبادي في القاموس. مات. وقال السيد مرتضى في تاج العروس ما نصه: مات تفسير لقوله هلك ولم يقيده بشيء لأنه الأكثر في استعمالهم. واختصاصه بميتة السوء عرف طارئ لا يعتد به بدليل ما لا يحصى من الآي والحديث أهـ. هذا هو المقر في متون اللغة وبطونها ولا أنكر أن اللغة شيء والاستعمال شيء آخر. فلننظر فيه أيضاً.
فهذا كتابنا يشهد علينا فقد جاء فيه: {كل شيء هالك إلا وجهه} {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك من بعده حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله رسولاً}. والأحاديث كثيرة وليس هذا محل إيرادها.
أما استعمال العرب فأكثر من أن يحصر ولكنني أمكتفي بشاهدين فذين أُعززهما بثالث. قال النابغة الجعدي في ملك العرب المنذر بن النعمان المكنى بأبي قابوس (تعريباً للفظة كيكاوس الفارسية):
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... جميع الناس والبلد الحرام
وقال شاعر الإسلام في قيس بن عاصم وهو من أكابر الصحابة:
فما كان قيس هُلكة هلك واحدٍ ... ولكنه بنيان قوم تهدما
والوزن يساعد على قول موته موت واحد وهذا أحد المرشحين للخلافة من بني أمية يقول عن نفسه والأنانية طبيعة في الإنسان
فإن أهلك أنا وولي عهدي ... فمروان أمير المؤمنينا
وكان له مندوحة إذا قال: فإن أُقبض وهذا أبو نواس يقول عن سائر الناس:
ألا كل حيّ هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق
وكان له مندوحة واسعة أن يستعمل: ميت وميت ومائتين. وبعد فها هي كتب السلف الصالح بين أيدينا جميعاً. نرى المسعودي في مروج الذهب والتنبيه والإشراف يقول هلك (بالهاء واللام والكاف) عن خلفاء المسلمين فضلاً عن كثير من الصحابة والتابعين وأكابر الأمة الإسلامية ومثله ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد.
وها هو ابن قتيبة في كتاب المعارف يقول هلك (بالهاء واللام والكاف أيضاً) عن الحارث بن كلدة طبيب العرب وعن عبد الله بن أبي بكر الصديق وعن بلال مؤذن الرسول عن عبد الله وسالم وواقد وبلال أبناء عمر بن الخطاب وعن عمرو وعبد الله وعبد الملك أبناء عثمان بن عفان وعن محسن بن علي بن أبي طالب وعن طلحة بن الحسن بن علي بن أبي طالب وعن عروة ومصعب ابني الزبير بن العوام وعن معاذ بن جبل وابنيه وعن حذيفة بن اليمان وكلهم من جلة الصحابة وأكابرهم.
وهذا مؤرخ المحدثين ومحدث المؤرخين ابن عساكر يروي في تاريخه عن عمر بن الخطاب (وحسبي ن أقول عمر بن الخطاب) ما قاله العباس أخو عمر بن الخطاب. قال سألت الله حولاً بعد ما هلك عمر أن يريني عمر بن الخطاب وقال ابن عساكر في موضعين آخرين: فلما كان اليوم الذي هلك فيه عمر بن الخطاب وهلك عمر بن الخطاب فهذا اللفظ شائع مستفيض ولكن اصطلاح المتنطعين هو الذي جعل في النفوس حزازات لا أصل لها. فإذا رجعنا إلى اللغة الصريحة والسنة الصحيحة زال ما في القلوب من غل فأصبحنا أخواناً على سرر متقابلين. فما أحرانا يا بني أمي ويا بني عمي بعد هذا البيان أن نقول لمن يؤذيه هذا اللفظ من الأقباط وسائر الذميين: كشكش! وأن نقول للمتنطع باستعماله من المسلمين. صل على النبي! ما يحلو الكلام إلا بالصلاة على النبي.
فإن الشيخ المكين جرجس ابن عميد بن أبي المكارم بن أبي الطيب السرياني النصراني المصري كلما ذكر النبي أعقبه بقوله: ﷺ وبقوله عليه الصلاة والسلام ولما ذكر وفاته قال: انتقل إلى رحمة الله ورضوانه وإذا جاء في سياق الحديث اسم واحد من الصحابة أو الأئمة أو الخلفاء أو شيوخ الإسلام دعا لهم بالرحمة والبركة والرضوان وذلك في كتابه المشهور عند غيرنا المجهول عندنا فقد طبعه أهل أوروبا باللغة العربية مع ترجمته باللاتينية بمدينة ليدن من أعمال هولاندة سنة 1625 ثم نقلوا ترجمته اللاتينية إلى اللغة الفرنساوية في سنة 1675 ولا يزال العرب والمصريون إلى الآن محرومين من ورود مورده الأصلي مع أنه مكتوب بلغتهم وقد جاراه في هذا السبيل ابن العبري في كتاب مختصر الدول الذي طبع مع ترجمته اللاتينية في أكسفورد بإنكلترا أولاً في سنة 1663 ثم ترجموه إلى الألمانية في سنة 1783 وبقي عزيزاً على العرب حتى تفضل بطبعه اليسوعيون في بيروت بالمطبعة الكاثوليكية سنة 1890.
جرنا الكلام بمناسبة أو بغير مناسبة إلى ذكر الشيخ المكين والإشارة إلى تأليفه المفيد الذي سماه تاريخ المسلمين وهو من سوء الحظ عندنا في مصر من أندر النوادر. صدَّر هذا الفاضل كتابه بهذه الديباجة:
بسم الله الرحمن الرحيم وبه توفيقي
الحمد لله المقدس بجميع اللغات الممجد في سمو عرشه من سائر المخلوقات المتميز بوجوب الوجود عن جميع الكائنات المتفرد ببديع السماء وشريف الصفات المتعالي في عز عزه وجلال كبريائه عن الأشباه والنظراء بماله من الجبروت والعظمة والكبرياء أحمده حكم شاكر على ما أولى من النعماء وأجزل من العطاء. والمكين إنما جاء بكتابه متمماً ومكملاً ومصدقاً لكتاب نظم الجوهر الذي ألفه البطريرك القبطي ابن البطريق المتبحر في فنون الطب وفي مقالات النصارى والاختلافات الديانين الكائنة بين فرقهم المتشعبة. وقد رأيت كتابه في دير النطرون أثناء رحلتي إلى ذلك الوادي في سنة 1894 وتركت عند بعضهم دراهم يسيرة لاستنساخه ثم تولاني وتولى صاحبي القبطي نسيان إلى الآن فلست أذكره ولا هو يذكرني ولن أذكره فإنه لم يذكرني. ولا بأس علينا في بقاء هذا الكتاب في تلك الجوالق والأعدال إذ قد سبقنا الإفرنج فطبعوه مع ترجمة اللاتينية بمدينة أكسفورد إحدى عاصمتي العلم بإنكلترا في سنة 1659 وإن كانت مصر وأهلها لا تزال محرومة منه. ألف البطريرك هذا الكتاب لأخيه عيسى وصدَّره بمخاطبته فقال:
بسم الواحد الأحد السرمدي وبه نستعين
ألهمك الله يا أخي من الأمور البهية أحسنها وأوفقها وصرف عنك من المحزنات الردية أعظمها وأوبقها وجللك من الستر أعمه وأدام لك من العز أعظمه وافاء بالدارين سهمك وفي الحالين قسمك وفهمك جميع ما يرضيه ولا أفرزك من حوله بما يستقصيه فهمت ما أمرت برسمه لك أسعدك الله بلبوس الفضيلة وطهرك من التردي بأطمار الرزيلة. . إلى أن قال أول ما نبتدئ بحمد ربنا ويا ربنا وخالقنا ومحيينا جل ثناؤه إذ كان حمده تقدس اسمه مفتاحاً لجميع الكتب والرسائل نسأله عز وجل العون لنا على ذلك بجميل عاداته والمجد لله أهل المجد ووليه الراجي به شكراً من عباده مقدر الأشياء من قبل كونها ومدبرها من بعد حدوثها الذي جعل الرحمة والعدل من سنن الحق وأمر بهما وجعل الفسق والجور من سبيل الباطل ونهى عنهما. فالحمد لله المتفرد بالوحدانية فهو عز وجل بجوهره الأدبي وحكمته القديمة وحياته الأزلية مستحق الحمد والثناء ومستوجب المحبة والثنا الذي لم يجعل في ناموسه شبهة تقتضي شكاً ولا في شريعته ارتياباً يوجب اختلافاً بل جعله واضحاً بيناً للشعوب على اختلافهم بالأسباب والجهات وعلماً ظاهراً لسائر الأمم على تباينهم في الكلام واللغات بما أظهر على يدي أنبيائه ورسله وما بعثه إليهم من المعجزات ومهولات الآيات ودعا إلى دينه ووعد بجميل النظر لمن آمن به وأوعد بسوء المنقلب لمن انحرف عنه وجحده حمداً يمتري من المزيد لإحسانه ويقتضي الزلفى لديه وإياه أسال وإليه أرغب في خلوص نياتنا لقبول ما يرضيه وصرف طوياتنا إلى ما يعود إلى العمل بطاعته.
أفرأيتم هذا الإنشاء البديع وهذا الدبيج الجميل الذي يرتضيه أكابر العلماء والأدباء من المسلمين؟ بل فما بال أخواننا الأقباط هجروا العناية باللغة وأنزلوها إلى ما هو متعارف في الدواوين وجرونا وراءهم في التدلي حتى إذا حاولنا إعادة بهجتها في الرسميات لم يتفاهموها ولم نتفاهمها؟ أفيظنون أنها من الدين؟ كلا وربكم وقد أتيتكم بشاهد مكين من ابن المكين وعززته بشاهد آخر عن طريق ابن البطريق. فهي الآن لغتهم شاؤوا أو لم يشاؤوا وليس لهم عنها من محيد بل شأنها في رقبتهم وفي لسانهم شأن ذلك الرجل القادم على القطار من الصعيد إذا قال لجماعة من الأقباط المتحذلقين: أسقف على قلبكم. وسأسرد لكم شيئاً عن المكين وابن البطريق فيما يتعلق بعلائق الارتباط بين المسلمين والأقباط لتعلموا أنهم كانوا سواء في الشدة والرخاء. وسأذكر لكم عنها أشياء كثيرة في عرض هذه الخطبة الطويلة أبدأ بالفتح الإسلامي فهو مفتاح كلامي ثم أشرق وأغرب وأصوب وأصعد وأنجد وأتهم وبعد ذلك أكر على مصر حتى أصل إلى هذا العصر.
روى ابن البطريق أن أبا عبيدة بن الجراح خرج من القدس إلى حمص ومنها إلى قنسرين فكتب إليه بطريقها يطلب الموادعة على نفسه سنة حتى يلحق الناس بهرقل الملك ومن أقام فيها فهو ذمة وصلح. فأجابه أبو عبيدة إلى ذلك فسأله البطريق وضع عمود بين الروم والمسلمين بحيث لا يجوز لأحد من الفريقين أن يتعداه إلى الآخر. وقد صور الروم في ذلك العمود صورة هرقل جالساً في ملكه. فرضي أوب عبيدة، واتفق أن نفر من المسلمين كانوا يتمرنون على الفروسية إذ مر أحدهم وهو أبو جندل سهل بن عمر على العمود. فوضع زج رمحه في عين تلك الصورة غير متعمد لذلك ففقأ عين التمثال. فأقبل البطريق وقال لأبي عبيدة: غدرتمونا يا معشر المسلمين ونقضتم الصلح وقطعتم الهدنة التي كانت بيننا وبينكم. فقال أبو عبيدة: فمن نقضه؟ قال البطريق: الذي فقأ عين ملكنا. فقال أبو عبيدة: فما تريدون؟ فقال: لا نرضى حتى نفقأ عين ملككم. فقال أبو عبيدة: صوروا بدل صورتكم هذه صورتي ثم اصنعوا بي ما أحببتم وما بدا لكم. فقال لا نرضى إلا بصورة ملككم الأكبر. فأجابهم أبو عبيدة إلى ذلك. فصورة الروم تمثال عمر بن الخطاب في عمود. واقبل رجل ففقأ عين الصورة برمحه. فقال البطريق: قد أنصفتموه وبعد سنة أقاموا على الصلح والذمة وبهذه المثابة استبقى أبو عبيدة بسياسته أهل البلد فلم ينزحوا عنها.
وقرأت في كتاب الدروس الجغرافية لتلامذة المدارس الابتدائية لسيدي وأخي رشاد بك المطبوع في سنة 1889 أن مدينة بلبيس هي ثاني موضع قاتل فيه عمرو بن العاص بأرض مصر نحواً من الشهر ولما فتحها ورأى في جملة سباياها ابنة المقوقس ردها في جميع مالها مكرمة إلى أهلها.
وروى المكين أنه حينما كان عمرو بن العاص محاصراً للإسكندرية اقتحم حصناً منها فجاشت الروم عليهم وأخرجوا العرب منه وفي أثناء ذلك أسروا عمر بن العاص ومسلمة ابن مخلد ووردان مولى عمرو ورجلاً آخر. ولم يعرف الروم من هم فقال لهم البطريق: إنكم قد صرتم أسارى فعرفونا ما الذي تريدون منا؟ فقال لهم عمرو: إما أن تدخلوا في ديننا وإما أن تعطوا الجزية وإما أن نقاتلكم إلى أن نفيء لأمر الله. فقال واحد من الروم للبطريق: أتوهم أن هذا الرجل أمير القوم فاضرب عنقه. ففطن وردان لكلامه وكان يحسن الرومية وعمرو بن العاص لا يعرف شيئاً منها. فجذب عمراً جذبة شديدة ولكمه. وقال له: ما لك ولهذا القول وأنت أدنى من الجماعة وأقل فاترك غيرك يتكلم فقال البطريق في نفسه. لو كان هذا أمير القوم ما كان يفعل به هكذا. وقال مسلمة أن أميرنا قد كان عزم على أن ينصرف عن قتالكم وبهذا كتب إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وأراد أن يوجه إليكم بعشرة قواد من أكابر القوم من يتفق معكم على شيء تتراضون عليه. فإن أحببتم ذلك فأطلقونا حتى نذهب إلى أميرنا ونعلمه بما صنعتم بنا من الجميل ويتفق الأمر بينكم على ما نحب وتحبون وننصرف عنكم. فتوهم البطريق أن هذا الكلام حق فأطلق سبيلهم رجاءً أن يأتي العشرة قواد فيقتلهم ويتمكن حينئذ من العرب. فلما خرجوا قال مسلمة لعمرو يا عمرو لقد خلصتك لكمة وردان.
أقول وشبيه بذلك ما رواه ابن العبري من أن حاتماً ملك الأرمن خرج عن مدينة سيس قاصداً معسكر المغول ليؤدي الطاعة لملكهم. فخرج متنكراً مع رسوله له بزي بعض الغلمان وأخذ على يده جنيباً يجذبه خلف الرسول لأنه كان خائفاً من السلطان صاحب الروم. وكان الرسول كلما مر ببلد من بلاد الروم (آسيا الصغرى) يقول أن الملك حاتم أرسله على ملك التتار ليأخذ له الأمان فإذا أمنه توجه هو بنفسه إلى حضرته. قال ابن العبري: حدثني الملك حاتم عند اجتماعي به بمدينة طرسوس بعد سنين من عودته من خدمة مونككاقاآن. قال عبرت بقيسارية وسيواس مع الرسول ولم يعرفني أحد من أهلها قط غلا لما دخلنا مدينة أرزنكان عرفني رجل من السوقية كان قد سكن عندنا. فقال: إن كانتا هاتان عيني فهذا ملك سيس. فلما سمع الرسول كلامه التفت إلي ولطمني على خدي وقال: يا نذل صرت تتشبه بالملوك فاحتملت اللطمة لأزيل بها ظن من كان ظنه يقيناً.
(للكلام صلة)