الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 31/أقسام التاريخ

مجلة المقتبس/العدد 31/أقسام التاريخ

بتاريخ: 1 - 8 - 1908


التاريخ فرع واسع من أهم فروع الأدبيات المنثورة ينتهي بوقائعه المتسلسلة إلى درجة المشاهدات من حيث التحقيق والبحث. وعليه فتكون كلمة استوريا التي يقصد بها الروم البحث عن الحقيقة ـ منطبقة كل الانطباق على هذا العلم وموافقة كل الموافقة لموضوعه.

وبعد فإنا نرى أن التاريخ تلك الأقاصيص والنقول التي تأتي في عرض أناشيد الملاحم وعلى ألسن الفصحاء بل لا بد للحوادث التي يرويها التاريخ من الاستناد على أبحاث علمية معروفة وشهادات مزكاة وثيقة فله في البحث عن الوقائع وتثبيت الحادثات مقاصد كما أن لأصول ضبطه شرائط عامة كثيرة.

ليس للتاريخ أن يوغل في زوايا هذه الطبيعة الغنية فيضبط من حوادثها ما يتجلى كل يوم في مئات من ألوانها وصورها والألوف من أشكالها وهيئاتها بل أن غايته الوحيدة تدوين حياة الأفراد المتميزين بقوة ذكائهم وقوة إرادتهم أولئك الذين تقدموا أشواطاً في سبيل النشوء ولو عادت ثانية مضت من الزمان لرأتهم أرقى مما كانت تعهدهم.

أما الكائنات التي لم تمنحها العوامل والمؤثرات خاصة التدبير والذكاء فتسير وقائعها بسائق طبيعي متأثرة بمؤثر واحد سارية على مجرى واحد وماثلة في صورة واحدة. وإن البحث في ماضي هذه لا يجدي التاريخ نفعاً لأن هذا القسم من الخليقة متساوي النسق والأسلوب في كل زمان ومكان. فإن أفاد البحث فيها فالفائدة تعود على العلم وليس للتاريخ منها شيء ولعل بعضهم يسأل هنا قائلاً: إذا كان التاريخ لبا يبحث في حوادث الطبيعة المطردة فلماذا دعي القسم الكبير من علومها ـ الحيوان والنبات والجماد ـ بالتاريخ الطبيعي وأي علاقة للتاريخ بهذه الحوادث القانونية المطردة؟ والجواب عن ذلك أنه لا محل لهذه التسمية هنا وليس للتاريخ فيها دخل البتة وإنما هو اسم اصطلح عليه خطأ في هذا القسيم من العلم فحادثات تكون الكائنات ونشوؤها وتبدل المواسم وفصولها وكل قطعة محدودة من الأرض وكل ما عظم أو دق مقياسه ومقداره من سيارات السماء وثوابتها الزاهية وصفحات الفضاء ومناظرة البهجة كل هذه ليست من التاريخ في شيء ولئن دخل قليل منها في التاريخ فإنها تدخل بعض أحوالها المتعاقبة ومكتشفاتها المهمة التي لا تزال أدوارها مجهولة عندنا.

وعلى هذا فالتاريخ يبدأ من حيث ينتهي العلم وليس في أقسام التاريخ (تاريخ إلهي) لأنه لا ماضي للألوهية فيسطر ولا حال لها فيحرر بل هي هي المتجلية في كل شيء وما أج قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.

وبذلك استبان أن مجال التاريخ هو (ساحة التبدل الاختياري) ليس إلا. وإن للنوع البشري قوة إرادة وإن اختلفت قوة وضعفاً لا تكون فيما هو عامل فيه من النواميس العامة بل في غير ذلك من حركاته وسكناته. من أجل ذلك ترى هذا النوع معرضاً للبحث التاريخي من حيث علم أجناس البشر والبحث العلمي من حيث علم النفس.

هذا يبحث في الإنسان من حيث العوامل الناشئة عن القوانين العامة المنقاد لها وذاك يشتغل بفحص ما في حركاته الاختيارية من الأسباب المتحولة من السباب المتغيرة ونتائجها ويظهر لنا ما قرب إلى التوفيق من هذه الحركات وما لم يقرب وما كان مصيباً منها وما كان مخطئاً وهو يضبط الروابط الموجودة بين هذه الحركات كلها.

كانت الأمم فيما مضى تجل التاريخ وتعظمه حتى فتحت لتقدمه السبل وأزالت من طريق رقيه الموانع قال شيشرون الخطيب الروماني الشهير التاريخ شاهد الأزمنة ونور الحقيقة وحياة الذكرى وحاكم العمر وبريد القرون وكان هذا الخطيب ينظر إلى التاريخ بأنه ظهير الفلسفة وأنه مدرسة الفضيلة.

وكان يعد التاريخ منهجاً من مناهج البيان وقسماً من أقسام الفصاحة لعظمة الدروس التي ألقاها التاريخ وفخامة موقعها ولطالما قال: لا خطيب أكثر عظمة وأوفر احتشاماً من التاريخ.

بمثل كلمات شيشرون هذه انتشر بين أهل العلم في العصور الموغلة في القدم أن التاريخ محل البلاغة وأدخله تلاميذ أيزوقراط في عداد العلوم التي يجب على الخطيب أن يعنى بها فكان بذلك ركناً للأدب.

كان الأقدمون من المؤرخين يتعمدون في التاريخ إجادة البيان من جهة والمحافظة على الواجبات الوطنية والنتائج الأخلاقية من جهة أخرى. أما الحقائق الواقعة في نفس الأمر فقلما كان يبحث عنها فكانت مصنفاتهم إذن تزدان في نظرهم إذا خدمت الفلسفة أو ذبت عن شرف القومية والوطنية ليس إلا.

هم يسلكون في التاريخ طريقاً توصلهم إلى الذروة القصوى من الفصاحة فيفرغون أضخم كلمات المجد وأكبر ألفاظ الفخفخة كما هو الحال في نقلهم حياة الرؤساء والأمراء وأنهم لينسبون إليهم جملاً وقطعاً ما قالوها ولن يقدروا على أن يأتوا بمثلها وأنك لترى المؤرخ منهم يفادي بالحقيقة التاريخية سعياً وراء كلمة جميلة يلذ له طنينها في أذنيه ناسياً أو متناسياً أن ما يسمى بالتاريخ هو علم الكوائن وتصوير الحقائق وأنه في حاجة قبل كل شيء على مظان صحيحة ومستندات موثوق بها وأسس راسخة فيجب من ثم على المؤرخ مهما كانت نحلته وشعوره ومقصده أن يبحث في مثل المظان من غير تطرف ولا تعصب.

وذلك لأن التطرف والتعصب والذلاقة ليست من حاجيات المؤرخ ومذهبه في شيء وإنما البلاغة والتأنق في القول من صنعة الأدباء والشعراء والمطالبة بالفضيلة من وظائف الأخلاقيين والدفاع عن شرف الوطنية والمكانة القومية من واجبات رجال السياسة فيها وما المؤرخ إلا الذي يمحص الحقيقة ويتمحض لإثباتها.

ولقد التزم فنيلون أحد فلاسفة لويس الرابع عشر أسلوب شيشرون الخطابي في كتابه مبحث الوجود الإلهي فاتخذ ذلك دليلاً على أن التاريخ كان على عهد فينلون في دور صباه ولا يكون المؤرخ مؤرخاً حتى يثبت الوقائع التي يناقش في صحتها مناقشة منطقية ويفحصها فحصاً علمياً مدققاً ببيان سلس ونثر مرسل وسليقة معتدلة.

قال المسيو باتان المشهور بمباحثه في أصحاب الملاحم من الروم المتوفى سنة 1876: ليس التاريخ عبارة عن سرد بعض القصص وذكر الأيام المشهورة والحوادث المأثورة ولا تلفيق ما يسقط عليه الرجل عرضاً من الأقوال عن حياة المشاهير بل التاريخ هو ذلك الميدان الذي تظهر فيه الأمم بعاداتها وأخلاقها ومزاياها ومعايبها مشروحة تتجلى بكل وسائل العلم حتى كأن القارئ من أهل البلد الذي يكتب تاريخه أو من معاصري من يدون ماضي حياتهم وكذلك يجب التاريخ أن يكون. وإنك لتعلم أن مدون هذا التاريخ تعوزه المواهب النادرة والنظر البعيد وسبر غور الأمور.

لا يبحث التاريخ اليوم عن طرز معيشة الأمم والبيوت فقط بل يتجاوز ذلك إلى تعريف درجة الرقي العام في الأشياء أيضاً فإذا بحث المؤرخ في ماضي شعب يجتهد

في أن لا يجمد أمام وقائعه المهمة وحوادثه الكبيرة بل ينتقل من ذلك بغتة إلى وزن أخلاقه وعاداته ومشاربه وإلى ذكر روابطه مع سائر الأمم الأخرى. هذه المباحث هي ألياف النسيج الحيوي في الأمم المتحضرة وغير المتحضرة.

ومن هنا يتجلى للقارئ أن هذه المواد المنوعة في حاجة إلى ترتيب حسن وفكرة نافذة دقيقة وحكم عقلي متين قادر على البحث عن الأسباب المتضاربة ووضعها موضع النظر وإلى قلم بعيد عن الأغراض كأنه جلمود إذا كان سبيل لتغلب العواطف عليه ومثل هذه المزايا متوقفة على مقدار قابلية أولئك المؤرخين الذين جمعوها في نفوسهم فاستخرجوا من كتلة الحوادث المتسلسلة سديماً نقياً وأرسلوها نفثة البيان والوضوح النوراني على العالمين. وإن للتاريخ من حيث موضوعه وأصوله أقساماً عديدة أهمها انقسامه إلى عام وخاص يبحث الأول في أدوار البشر الثلاثة المعلومة ويشمل تاريخ عامة الشعوب والدول. أما الثاني فلا يعنى إلا بأمة واحدة أو بلدة معينة أو بأسرة معروفة ووقعة مشهورة.

ويسمون التاريخ الذي يذكر الحوادث مرتبة حسب زمن حدوثها كرونولوجيا وإذا بحث في نشوء شعب واحد وانتشاره يقال له أيتنوكرافيا وإذا أفاض في كوائن الأمم كلها الحادثة في زمن معين يدعى سينكروفيا. وإذا قايس بين وقائع مختلفة ظهرت في أزمنة متباينة سمي التاريخ القياسي وإذا أظهر الأشياء في صورتها الأصلية فهو التاريخ المصور وإذا توحى إرجاع نتائج الوقائع إلى أسبابها يقال له براكماتيك وإذا ربط الأسباب بالنواميس العامة في البشر والطبيعة يسمى التاريخ الفلسفي وهكذا تختلف أسماء المصنفات التاريخية باختلاف موضوعها فتسمى تقويماً ومذكرة وترجمة حال وما أشبه.

ولا نقصد هنا إلى أن نطيل القول فنكتب تاريخ التاريخ. على أننا لو بحثنا في مبدأ التاريخ لوجدناه ممزوجاً بالشعر كما هو الحال في جميع أنواع الأدبيات المنثورة فابتداء التاريخ إذن هو الملاحم التي هي من أنواع الشعر وذلك هو ابتداؤه في الأدوار القديمة عند الهنود واللاتين والفرس ولم يتجرد كثيراً عن هذه الكسوة القصصية عند بعض أمم المشرق إلى يوم الناس هذا لأن التاريخ لم ينسلخ عن منظومات الملاحم عندهم إلا قليلاً وأن ذبالة التاريخ الحقيقي لم تكد تضيء عندهم حتى أطفئت وكذلك هيرودتس وتوسيديدس وكسنوفون كلهم لم ينجوا من دس الأساطير بين طيات الحقائق التاريخية في كتبهم الثمينة وإن كانوا كلهم استحقوا لقب المؤرخ. الأول بذكائه النقاب والآخران بتجاربهما ومتانة بيانهما. أما دانيس داليكارناس فلا أثر للتحقيق في مصنفاته وإن كان قد تلافى هذا النقص بتتبع بعض الأخبار. وكذلك شأن تيودورس من وجه هذا النقص وما يسده وان دروس بلوتارك في الأخلاق لتستر أيضاً نقائض تاريخية أخرى وقع فيها. ثم جاء بعد هؤلاء أزمان ظهر فيها مؤرخون مدرسيون مثل كيشاردن وماكيافيل فإنهما كانا في زمانهما مقلدين خالص التقليد للأسلوب القديم. 3

وعلى هذا بقيت المصنفات التاريخية كتب بلاغة ولكنها عارية عما يؤهلها للدخول في علم التاريخ إلى فجر القرن السابع عشر حتى أن المؤرخ المشهور بوسويه نفسه كان على مثل تلك الحال ولو تناولنا أحد مصنفاته كخطبته في التاريخ العام لوجدناها نموذجاً للآداب ولكنها بعيدة كل البعد عن التاريخ. ثم جاء فولتر ووضع كتابه كارلوس الثاني عشر وكتابة لويس الرابع عشر فأظهر نموذج التاريخ الصحيح. وعندما عرف حق المعرفة أن أكثر الذين كانوا يسمون في فرنسا مؤرخين إلى القرن الثامن عشر براءٌ من هذه النسبة. وعلى العكس ترى بعض رهبان ديكتن الذي لم يكن ذكر اسمهم بتلك الدبدبة والعظمة قد تحقق اليوم أنهم هم الشيوخ الذين طرحوا بين أيدينا أصول التاريخ صامتين ساكتين. ومن هؤلاء الرجال المؤرخ جيبون الإنكليزي مشيد القصر التاريخي على الأساس المتين.

عصرنا الحاضر هو مؤسس التاريخ ومحييه فعلم الآثار وعلم الألسنة والجغرافيا، وكل هذه العلوم أخذت بيد التاريخ وصعدت به درجات عالية وإن التحقيقات الصحيحة التي وضعها حكماء هذا العصر وعلماؤه قد نفحت الوقائع الماضية روحاً حية وكستها حلة ثابتة حتى تمثلت الذراري القديمة بعاداتها وأخلاقها ومطامعها وأفكارها على أسلوب أقلام تيرس وتييري وميشله وكيزومينيه. فعصرنا هذا ولا مراء عصر التاريخ قبل كل شيء.

الحديدة (جزيرة العرب)

محب الدين الخطيب