الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 990/نساء عرفن في زمن النبي

مجلة الرسالة/العدد 990/نساء عرفن في زمن النبي

مجلة الرسالة - العدد 990
نساء عرفن في زمن النبي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 23 - 06 - 1952


للأستاذ ناصر سعد

هذه نبذة مختصرة عن نساء عرفن في زمن محمد (ص) منهن من اشتهرن بعمل خير أفدنه به فتركن لأنفسهن أحمد الأثر بنفسه فاثنى عليهن. . ومنهن من دعون لإيذائه ومحاربة دينه الحنيف الجديد فتركن لأنفسهن أسوأ الأثر بنفسه وغضب الله عليهن ورسوله؛ ولا ريب في أن الخيرات منهن اندفعن وراء إخلاصهن للرسول العظيم ووراء إيمانهن بدينه الجديد فأتين بما يبهر من الأعمال وخلدن أسماءهن فرقين مكانة عالية في الإسلام والتاريخ تحفز المرأة الحديثة إلى اقتفاء آثارهن والتحلي بصفاتهن الحميدة؛ وأما الأخريات اللواتي دعون لإيذائه ونبذ دينه فقد أندفعن وراء عصبيتهن لغشاوة كانت ترين على قلوبهن حتى تبين للبعض منهن الحق من الباطل فيما بعد، فتسرب الإيمان إلى قلوبهن وأسلمن وعدن يحمدن الإسلام مكفرات عما سلف من أعمالهن فعفا عنهن الرسول (ص). ومن أولئك النساء:

آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة أم النبي (ص) حملت به فكان كل ما في الدنيا بهيجا بعينها، تبتسم لها الحياة فتبتسم لها، وليس يسعد المرأة أكثر من مولود تضعه بعد مشقة الحمل والولادة إذ يهون عيها كل ألم لابتسامة تنظرها من مولودها الذي تضع فتحنو عليه وتحبه، لأن بهذا الحب سر الوجود والحياة، وما زالت الحياة تبتسم لإبنة وهب حتى ذهب عنها شريك حياتها عبد الله بن عبد المطلب وهي ما زالت تحمل جنينها - على أصح الأخبار - فبدت في سماء حياتها سحابة سوداء أزالت عن ثغرها تلك الابتسامة والبهجة، وملأت قلبها عزماً وحزماً صممت بهما أن تربي مولودها المرتقب خير تربية ليمحو ما بقلبها من الحزن بدعابته وابتسامته، فولدته وعلى محياه سيماه النبوة، وأرضعته بلبان الشرف والسؤدد. ثم إنها أما لضعف اعترى صحتها أو لعادة كانت جارية آنذاك أرضعت وليدها من ثويبة مولاة أبي لهب التي أرضعت عمه حمزة (ض) ثم أرضعته أم كبشة حليمة بنت أبي ذويب السعدية التي أرضعت معه عمه أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ولم تزل آمنة تجد بتربية ولدها بكفالة جده حتى ظهر من حسن خلقه وجمال طبعه - على صغر سنه - ما يدهش ويحير. فمن ذلك أنه لما كفاه عمه أبو طالب بعد وفاة أمه وجده، وعمره سبع سنوات، كان حين يجلس مع صبيان البيت يكف عن النهب وتمتنع يداه، على عكس لداته من الأطفال، مما اضطر عمه أن يعزل له طعامه، وليس لنا أن نقول أن ظهور هذا من محمد (ص) كان ليتمه وشعوره بالوحدة. . كلا فإنه تربى في هذا البيت وألف صبيانه. وإنما ذلك سر إلهي ونتيجة للتربية الصحيحة التي نهجتها آمنة بتربية ولدها لأن للمرأة الأثر المباشر في تربية وليدها وتنشئته، هذا هو أثر آمنة بنت وهب في حياة سيد البشر (ص)

ومنهن مرضعته حليمة السعدية التي مر ذكرها. . وهذه المرأة كانت على جانب عظيم من حسن الطبع وجمال الخلق ورقة القلب؛ فمرضعات بني سعد كن يأتين مكة ليرضعن أبناء أشرافها لضيق ذات أيديهن، ولم تجد حليمة غير يتيم عبد المطلب لترضعه فحركها العطف عليه وهي لا تنتظر من المال ما ينتظره صويحباتها اللواتي رافقنها إلى مكة لغرض الإرضاع؛ فهي لو لم تكن ذات شرف وخلق قويم وقلب رقيق لم يرضع عبد المطلب حفيديه محمدا وأبا سفيان. فهي بني أسد بن بكر بن هوازن تنتهي بقيس يلان. . بقي النبي (ص) عندها أربع سنوات ربته على المروءة والشهامة والصدق والأمانه ثم ردته إلى أهله وعمره خمس سنين وشهر واحد. وقد أحب النبي مرضعته حبا كثيراً حتى أنه لما أخبرته بعد فتح مكة إحدى نساء بني سعد بوفاتها ذرفت عيناه عليها ثم قالت له الناعية: - (أخوك وأختاك محتاجون) فأرسل إليهم ما يحتاجونه. فقالت له تلك الناعية: - (نعم والله المكفول كنت صغيراً، ونعم المرء كنت كبيراً عظيم البركة). . لا ريب في أن الذكريات تلك الساعة عادت برسول الله فتذاكر أيام طفولته وحنو مرضعته عليه وألفته مع إخوانه، إنها لساعة حلوة مرة اختلطت بها ذكريات الطفولة السعيدة وجلال الموت. هذه حليمة التي ذرف عليها دمع النبي (ص) تركت ولا شك أثراً عميقاً بقلبه الرقيق الحساس.

ومنهن أم أيمن (بفتح ميمها) بركة الحبشية مولاة عبد الله أبيه، حضنت محمداً بعد وفاة أمه. ولا ريب في أن هذه المرأة وقد احتواها بيت عبد المطلب وخدمت ابنه عبد الله كانت المرأة بارة بمحمد، تعترف بجميل جده وأبيه، وتقدر أثر اليتم بنفس ربيبها وشعوره به، فأحاطته بعطفها وحنانها، وخففت عنه ذلك الألم وهو الطفل المرهف الحس فاعتاض بها عن أمه، كان لها جميل الأثر في نفسه.

ومنهن خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي ابن كلاب المرأة الحكيمة الموسرة كلمها أبو طالب في أن توكل محمداً على تجارتها وهو الصادق الأمين، فتأملت وهي المرأة الرشيدة فأنست خيراً ووكلت محمداً واشترطت له كل سفرتين بقلوصين، فصار يذهب بتجارتها ويقدم إليها الربح الجزيل بأمانة وإخلاص، فلما أعجبها إخلاصه وأمانته وصدقه عزمت على التزويج منه ولم تكن معه على صلة متيسرة بدليل وساطة نفسية بنت منية أو كما قيل بوساطة ميسرة مولاها بينهما. وكان أبوها خويلد يرغب عن تزويجها من محمد، فاحتالت بأن دعت قوماً من قريش فيهم أبوها وقدمت إليهم طعاماً وشراباً، فلما أكلوا وشربوا وثمل خويلد قالت له: - (إن محمد بن عبد الله يخطبني فزوجني إياه) فزوجها ورضي بذلك، فقامت إليه وألبسته وطيبته على عادة من يزوج ابنته آنذاك، ولما أفاق ورأى ما هو فيه سألها يقول: - (ما شأني؟) قالت: - (زوجتني من محمد بن عبد الله). قال:. . (أنا أزوج يتيم أبي طالب؟ لا لعمري) قالت: - (ألا تستحي. . تريد أن تسفه نفسك عند قريش فتخبر الناس أنك كنت سكران؟) ثم رضي بعد إلحاح وتم الأمر، وعمرها أربعون سنة ولمحمد من العمر خمس وعشرون سنة. . أن هذه الرواية لخير دليل على تعلق خديجة بمحمد وحبها إياه لما اتصف به من الخلق الحميد، وإلا فلا يعز عليها الرجال وهي الشريفة الموسورة. . وليس فضل خديجة على الإسلام بمجهول ولا مداراتها للنبي بمنكورة، فلقد كان لها رضي الله عنها أطيب الأثر بحياة الرسول قبل النبوة وبعدها إذ كانت تزوده بما يكفيه من الطعام فيذهب لغار حراء يقيم فيه الأيام والليالي متعبداً مفكراً في أمر ربه. ولما جاءه الحق من ربه رجع لخديجة وهو يرتجف ويقول: - (قد خشيت على عقلي) فشجعته وقالت: - أبشر - ولله - لا يخزيك الله أبداً. . إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتعين على نوائب الدهر) ثم صدقته وأسلمت؛ هذه سيدة قريش التي كان لها الأثر الفعال بحياة محمد (ص) والتي كانت أول أم للمؤمنين.

ومنهن أسماء بنت أبي بكر (ض) كانت ذكية الفؤاد شديدة الحرص والحساسية، بدليل تمكنها من نقل الزاد للنبي (ص) وأبيها (ض) وهما مختفيان في الغار. . فلم يطلع على سرها أحد من قريش. . إذ لولا يقظتها لتمكنوا من معرفة مكان النبي وألحقوا به الأذى. أن تاريخ هذه المرأة في الإسلام معروف، وإنما أوردنا عنها هذه النبذة لنتصور أثرها بقلب الرسول في تلك الساعات الحرجة الرهيبة التي هدر بها دمه مذ صمم أهل مكة على قتله.

ومنهن أم معبد عاتكة بنت خالد بن خليف الخزاعية، وهذه المرأة لما توجه النبي إلى المدينة وقد اقترب منها ونزل بيتها فقال عندها وظهر من آيات معجزاته ما أدهش أم معبد فقد مسح ضرع شاة لها فحلبت لبنا كثيراً وبقيت كذلك للسنة الثامنة عشرة بعد يوم الهجرة، ومن ذلك ظهور البركة في الطعام الذي قدمته أم معبد للنبي فأكل منه وتزود وكان قليلا بعينها. هذه عاتكة الخزاعية هي التي صارت فيما بعد داعية للنبي ودينه الجديد تبشر به لإعجابها بسمو أخلاق نبيها وآيات معجزاته.

ومنهن عائشة أم المؤمنين (ض) بنى بها النبي في المدينة بعد الهدرة بتسعة أشهر، وأثرها بحياة الرسول أشهر من أن نترجم له، فقد أحبها الرسول وصارت بعد وفاته ثقة برواية الحديث الشريف. وقد كانت من النساء اللواتي يعتنين بالمحاربين في الغزوات فتقدم إليهم الماء والطعام محمولا على ظهرها.

ومنهن عصماء بنت مروان الأموية كانت تكره النبي وتؤذيه وتحرض الناس وتؤلبهم عليه وتعيب دينه، فكان لهذه المرأة وهي على هذا الوصف أسوأ الأثر بقلب النبي (ص) ولذا رأيناه مجد من قتلها وفتك بها، وذلك أن عمير بن عدي وهو أعمى من رهطها وكان موالياً للنبي حلف ليقتلنها أن عاد النبي من بدر لأنها كانت تؤلب الأعداء عليه، فلما رجع ذهب إليها عمير ليلا فوجدها نائمة ولها رضيع يرضعها فأبعده عنها وغرس سيفه في صدرها فقتلها وخرج دون أن يعرف أحد بامره، فلما كان الصبح جاء عمير إلى المسجد ليصلي مع النبي، ولما صلى وانصرف نظر إليه النبي وقال: - (أقتلت ابنة مروان؟) قال: - (نعم يا رسول الله) قال: - (نصرت الله ورسوله) فقال عمير: - (هل علي شيء من شأنها يا رسول الله؟) فقال النبي: (لا ينتطح فيها عنزان). . هذه المرأة التي كانت تؤلب الأعداء على النبي وتدعو لإيذائه كانت ولا شك على وئام مع أعدائه الذين كان منهم اليهود فقبحها الله وقبح ما كانت تدعو له. .

ومنهن سلافة بنت سعد بن الشهيد زوج طلحة بن أبي طلحة؛ كانت من أعدى أعداء النبي ويكفي تبياناً لذلك تحريضها ذويها على المشاركة في الحرب ضده في غزوة أحد، وأنها وضعت مائة من الإبل جائزة لمن يأتيها به، وكان أن حمل زوجها طلحة راية المشركين بإحدى الحملات في أحد فقتل ثم حملها بعده أبنها أبو شيبه فقتله حمزة (ض) وحملها بعده حموها أبو سعد بن طلحة فقتله سعد بن أبي وقاص، فحملها بعده ابنها مسافع بن أبي طلحة فقتله، عاصم بن ثابت فحملها بعده أبنها الحارث فقتله عاصم أيضا، هذه المرأة التي جعلت بيتها بوتقة يغلي بها الحقد على رسول الله زاد هذا القتل في حقدها عليه وعلى المسلمين معه فحلفت لتشربن الخمر في قحف عاصم بن ثابت قاتل ولديها مسافع والحارث فأخذت تحث المشركين على الثبات وتدعو لحمل اللواء حتى تداول حمله كثيرون من قريش كان نصيبهم القتل، فحملت عمرة بنت علقمة الحارثية الراية بعدهم فتراجع المشركون يطلبون السلامة. . وفي ذلك يقول حسان بن ثابت (ض) معبراً إياهم

عمرة تحمل اللواء وطارت ... في رعاع من القنا مخزوم

لم تطق حمله الزعانف منهم ... إنما يحمل اللواء النجوم

ومنهن فاطمة الزهراء وأثرها بحياة النبي غير خاف على أحد فهي حبيبة أبيها وأوثق الناس صلة به وأشفقهم عليه. . خرجت مع نساء من المدينة وهي تلهف على أبيها. . فقد جرح بأُحد فلما رأت جراح وجهه احتضنته وعانقته وصارت تمسح الدم منه ثم أخذت ماء وغسلت وجهه. . ما أروعه من موقف خفق فيه قلب محمد بحب ابنته وحنوه عليها. . وكأني بالزهراء (ع) تلك الساعة يترقرق الدمع من مآقيها ويخفق قلبها بالحب والحنان. هذه الزهراء وما أنصح حبها لأبيها وما أحسن إسلامها. . خرجت هي وأربع عشرة امرأة منهن أم سليم بنت ملحان وعائشة أم المؤمنين (ض) فحملت الماء في قربة والزاد على ظهرها تطعم المؤمنين المحاربين وتسقيهم. . هذه الزهراء أم حفيدي الرسول تركت أجمل الأثر في قلب أبيها الحنون.

ومنهن هند بنت عمر بن حرام زوجة عمرو بن الجموح. . امتلأ قلبها بالإيمان وحب الدين الجديد، فلم تزل تحرض ذويها على قتال المشركين في أحد حتى استشهد زوجها وهو يقاتل رغم عرج كان به، واستشهد ابنها خلاد وأخوها عبد الله فحملتهم على بعيرها وأتت المدينة فرأتها أم المؤمنين عائشة (ض) بظاهرها وقد خرجت تستروح مع صويحبات لها. . فقالت لهند: - (عندك الخبر. . ما وراءك؟) قالت هند: - (أما رسول الله فصالح وكل مصيبة بعده جلل) قالت عائشة: - (من هؤلاء؟) قالت: - (أخي وابني خلاد وزوجي عمرو بن الجموح) قالت: - (فأين تذهبين بهم؟) قالت: - (إلى المدينة أقبرهم)! ما أكبر هذا القلب قلب هذه المرأة وما أعمره بالإيمان! وأي رجل يحمل مثل هذا القلب وأية امرأة. . يا للعجب امرأة تفقد زوجها وابنها وأخاها في يوم واحد فلا يرتجف لها قلب ولا تدمع لها عين! أنه حال مدهش والله. . ولكن لا عجب ولا دهشة فإن الإيمان بالله وحب الشهادة في سبيل الدين لا يجعلان منفذاً للحزن في القلب. . ما اعظم هذه الإمرة إذ قالت لرسول (ص) حين يذكر قتلاها: - (يا رسول الله أدع الله أن يجعلني معهم) إنها لم تقل هذا جزعاً من الحياة بعد ذويها، بل قالته حبا بالشهادة فلعلها تنالها مدافعة عن دينها الذي آمنت به وطهر قلبها من كل رجس.

البقية في العدد القادم

ناصر سعد