مجلة الرسالة/العدد 990/مواكب القلوب
→ نساء عرفن في زمن النبي | مجلة الرسالة - العدد 990 مواكب القلوب [[مؤلف:|]] |
زعماء التاريخ ← |
بتاريخ: 23 - 06 - 1952 |
للأستاذ علي محمد السرطاوي
علمت الشجرة المثمرة، يا ألهي، أن تعلن عن نضوج الفاكهة التي تحملها أفنانها بين الأوراق الخضر، بمعان من الألوان، وكلمات من الأريج.
وكسوت الورود والرياحين الغلائل المصبغة بألوان الشفق والفجر وقوس السحاب، وجعلت لها ألسنة من العبير، تهمس بها الأنسام في أذن الفراشات الراقصة في عرس الطبيعة ومواكب الربيع
وألبست الروابي، والوهاد، والمروج، الحلل السندسية الخضر الموشاة بالألوان التي لا تحصى من الأزاهير؛ تطل من ورائها الأسرار المتوارية وراء لسان الطبيعة الأبكم، ونواميسها الأبدية الثابتة؛ فراحت الأجناس من كل ما يدب على هذا البساط الأخضر ويتحرك، مدفوعة نحو أجناسها، في جنون من العاطفة المشبوبة والحس المخدر، إلى حيث تدري أو لا تدري، فوق ألسنة من لهيب يحرق ولا يميت، ووراء الصوت المدوي في الأعماق، والجوع الذي لا تشبعه النظرات، والظمأ الذي لا يصل إليه الارتواء أبدا.
وجعلت لقلب المرأة لسانين فصيحين بارزين في أجمل مكان من صدرها؛ يصرخان في ظمأ قاتل، ويبحثان في جهد لا يلغه النصب عن طيف الحبيب المجهول؛ بمعان من كبرياء الجمال، وألفاظ من دلال الحسن، وتعابير من اهتزاز ساحر عنيف وراء الغلائل الشفافة التي تكبح جماحهما، كما تكبح اللجم الجياد، فيتراءى من خلفها جمال الربيع الدائم ومعانيه.
سبحانك يا إلهي! لقد أشعت في الطبيعة الجمال البكر الفاتن؛ يتجدد ولا يفنى؛ واختصرت هذا الجمال الأبدي البديع في أروع ما صنعت يداك؛ فخلقت المرأة وجعلتها الرمز الخالد لأسرار الطبيعة وجمالها، وجلالها، وجبروتها، وفتنتها، فكانت المعجزة السرمدية الأولى والأخيرة التي شاءت قدرتك أن تكون صورة مصغرة لأروع ما في الوجود؛ جعلت الظلام الحالك شعرها حينا، وذهب الأصيل حينا آخر، والنور المشرق وجهها، والبانة قوامها، وعبير الأزاهير أنفاسها، وحمرة الشفق وجنتها، واللؤلؤ ثناياها، وأوراق الورود شفتيها، ثم اختصرت كل هذا الجمال العبقري المركز لتصنع به عينيها؛ فتدافعت بالمناكب وراءهما أطياف مجنحة من الماضي والمستقبل ونواميس الطبيعة وأسرار الغيب وجمال الوجود.
وحين ترسل المرأة رسالة الحب الأولى إلى القلب الظامئ الخلي من أطراف عينيها، إنما تبعث إليه بأطياف عابرة من سعادة السماء في جنات الخلود وفردوس النعيم.
وحين يحكم الحب القلب الإنساني وتجلس حواء على عرش الحب فيه، إنما تحمل إليه أقوى ما في الطبيعة من جبروت العواصف العاتية، والبراكين الثائرة، والأنواء المزمجرة، والبروق الخاطفة، والرعود المقهقهة، وتشيع فيه فتنة الربيع، وجمال الشفق، وسحر الفجر، وخرير الأمواه، وأغاريد الطيور.
لقد أوشكت حواء يا إلهي أن تنازعك السلطان في الأرض وتصرف عن حبك القلوب؛ عبدها البشر في طفولة الحياة الإنسانية، وشادوا لتلك العبادة الهياكل والمعابد، وما زالت عبر العصور معبودة القلوب؛ هياكل القصور الباذخة، والأكواخ المتواضعة، والخيام الساذجة؛ تركع الحياة ذليلة على أقدامها؛ تعز وتذل، وترفع وتخفض، وتهز الدنيا إذا شاءت بيسارها.
والمرأة كالمرآة الصافية الأديم؛ تظهر جوهر القلب الذي يحمل حبها، فيتراءى في ذلك الجوهر وراء الضباب الكثيف من الدم واللحم، صافيا نقيا. ولذلك كان الحب محك الصفات، وميزان السجايا، ومقياس الضمير؛ فلكم انخفضت نفوس وارتفعت أخرى حين أتصل بها حب المرأة في الحياة.
وكلما تحركت مواكب الربيع المعطار في أعراس الطبيعة؛ توقظ الحياة وتحركها في مواعيدها التي لا تتبدل، أقبلت مواكب القلوب الظامئة في زوارق الشباب، تعبر عباب الزمن إلى الضباب الكثيف وراء الأفق البعيد المجهول.
لم تكن الفنون الجميلة في حقيقتها إلا القرابين؛ قدمتها القلوب راكعة أمام طيف المرأة الساحر الجميل في عصور التاريخ: فالموسيقى، والشعر، والرسم، والنحت، والتمثيل، والغناء، ليست غير الأنين القاتل انبعث من حناجر القلوب، وهي ترفرف محترقة، حائمة، حول قلوب بنات حواء، اللائي قد أقمن حولها ألسنة محرقة من لهيب الجحيم.
شد ما يلقي القلب الذي تناديه المرأة للحب من عذاب في حبها؛ يراها في أحلامه، ويرتسم وجهها الجميل على كل ما تبصر عيناه، ويتردد اسمها مع الوجيب وراء ضلوعه؛ فكأنما استطاعت نظرتها الأولى أن تحمله إلى عالم قفر لا يرى غيرها فيه.
وتبقى الحياة لغزا مبهما غامضا أمام القلب الإنساني حتى تشرق شمس الحب فيه من نظرة امرأة؛ فإذا الدنيا، وإذا الحياة غير الحياة، وإذا السماء تتلاقى مع الأرض لتملأ جوانبها بكل ما فيها من خير ونعيم.
لقد كان العباقرة والشعراء والفنانون من صنع المرأة، وكان المجرمون والمحتالون والأشرار من صنعها ايضاً؛ وكلما رأيت إنسانا قد رفعته الحياة على هامتها، فابحث عن اليد الناعمة التي رفعته إلى ذلك المكان؛ وإذا رأيت إنسانا آخر يهوي في الجحيم، ففتش عن القدم الناعمة التي سحقته تحتها، في غير ما رحمة إلى حيث لا يعود.
والمرأة كتلة محترقة من الإحساس الدقيق العنيف، متطرفة إلى أبعد غايات التطرف، لا تعرف الاعتدال ولا ترى إلا عند الطرفين المتناقضين. فإذا اضطرم قلبها بالحب ضحت بكل شيء وبحياتها في سبيل الحبيب، وإذا خفق ذلك القلب بالبغض وعاش الحقد فيه، انقلبت إلى عملاق لا يعرف الرحمة ولا يعرف الحدود في طريق الحقد والانتقام والأذى.
وحواء كالعاصفة لا تهدأ أبدا؛ تهز كل ما حولها هزا عنيفا، شأنها في ذلك شأن الإعصار المدمر العاتي، وهي كالنار تحرق نفسها، وتحرق كل شيء حولها.
وحين خلق الله وجه المرأة، كما يقول الرافعي، رضوان الله عليه، طوى أشعة القمر بعضها إلى بعض فكون منها ذلك الوجه المشرق الجميل، وانتزع من أعماق الشمس كتلة ملتهبة أودعها وراء قلبها، وغدت بالفطرة في سجيتها نورا ونار، نسمة وإعصار، بناء وتدميرا.
لقد نزل بالأمس القريب في سبيل المرأة ملك عن عرش الأرض ليجلس على عرش الحب في قلبها، ولكن العواصف التي هبت عليه من بين جوانحها، حالت بينه وبين الوصول إلى ذلك العرش الخالد، فعاد أدراجه، ينادي عليها في الفلوات بعد أن أدبرت عنه، ويجري في يأس قاتل وراء السراب في فيافي الحب وصحراء الخيبة.
أسعد إنسان في الوجود ذلك الذي تفتح له المرأة قلبها على مصراعيه ثم تغلقه بعد أن تجلسه على عرش الحب فيه. وحين تغلق المرأة قلبها على حبيب، لا تستطيع قوة في الوجود أن تخرجه منه، أو تضع إلى جانبه حبا جديدا.
لقد تكون الدر في أصدافه تحت أمواج البحر للمرأة، والذهب والأحجار الكريمة في طبقات الأرض للمرأة، وكل ما تنبت الأرض من ورود ورياحين وطيب للمرأة، وكل ما تنتجه العبقرية الفنية من صناعة ونسيج للمرأة، وكل ما يشاد من قصور المرمر للمرأة.
لقد شيدت قصور الحدائق المعلقة في بابل القديمة لامرأة، وتاج محل في الهند لامرأة، وقصر الحمراء في الأندلس لامرأة، وتهدمت يد لادي هاملتون فأزاحت الستر عن عبقرية الأميرال نلسون، ويد جوزفين عن نابليون، وبياتريس عن دانتي، وكليوبطرة عن يوليوسس قيصر، وليلى عن المجنون.
إن عين المرأة دائبة البحث في الحياة عن مجنون يهيم بحبها، ولكل امرأة في حياة قلبها مجنون يهيم بها وتهيم به في حب صحيح. والمرأة حين تبحث عن ذلك المجنون فلا تراه في حياتها، إنما يكون ذلك إيذانا بانهزامها من الحياة وفشلها، وحين تفشل المرأة في الحب، يقودها الفشل إلى طريق القبر الموحش الحزين، وتنطوي على نفسها في صمت كئيب قاتل طويل، يذهب ربيع الحب منه، ويقبل الخريف عليها فيه فتذوي معه كما تذوي أوراق الدوح في قبضة الأعاصير.
الحب حياة المرأة، وما أقسى تلك الحياة إذا لم تعثر المرأة فيها على الحبيب في مسالك الوجود! وما أشد تعاسة القلب، تجمعه روابط الزواج بامرأة، ويلاقيها في أجمل ليلة في الحياة، وهي كلزنبقة البيضاء العاطرة في ملابس عرسها، على غير أساس من الحب الصحيح المجرد عن معاني التراب.
الحب هبة السماء إلى الأرض، وصفو الحياة ونعيمها، وهو هبة القلب إلى القلب، ولا يستطيع الذهب والجوهر العثور عليه في الدنيا.
لقد ابتدأت الحياة بامرأة واستمرت بامرأة وستنتهي بامرأة حين تشاء القدرة أن يزول الوجود.
علي محمد سرطاوي