مجلة الرسالة/العدد 990/شخصية الشافعي على ضوء علم النفس الحديث
→ البعث الديني في الغرب | مجلة الرسالة - العدد 990 شخصية الشافعي على ضوء علم النفس الحديث [[مؤلف:|]] |
جوته ← |
بتاريخ: 23 - 06 - 1952 |
للأستاذ أنور الجندي
يتمثل لي الإمام الشافعي حين أدرس سيرته، عملاقا نحيلا، ضامر الجسد، مقبول الطلعة، على الرغم مما قيل عن ملامحه. . فليست الملامح في الحق هي كل شئ. . وقد تبدو غير متسقة، ولكن يبرز من ورائها (روح) صاحبها غاية في القبول والتقدير عند من يتصل به.
وأرى فيه مظهر الرجل الذي يصفه علم النفس الانطوائي. .، وكل الرجال الذين احتضنوا الأفكار والدعوات والمذاهب، كانوا من هذا الصنف
وقد عرف الشافعي بأنه يحب العزلة أحيانا، ويلجأ إلى الصمت أحيانا، وأنه يمكن لنفسه بذلك من التأمل والدرس والمراجعة وهي عدة الفقيه والداعية.
وأتاح له هذا الجسد النحيل، القدرة على السفر والرحلة واحتمال مشقة الانتقال بين العراق ومكة واليمن ومصر.
ولد في مكة، ورحل إلى المدينة، ثم سافر إلى اليمن، ثم حمل إلى بغداد، ثم عاد إلى مكة. . . وقصد إلى بغداد ثم إلى مصر، حيث أقام فيها بقية حياته. .، وقد أتاحت له هذه الرحلة، وهذا التنقل المتصل، خلال هذه المنطقة التي كانت تعد في ذلك الوقت قلب العالم الإسلامي، فرصة واسعة لدراسة طبائع الناس وأخلاقهم ومعرفة مصالحهم واتجاهاتهم، وفهم الحياة ومشاكلها وقضاياها.
وقد أنضجت الرحلة ذهن الشافعي وتفكيره، وأمدته بقوة سيكولوجية رائعة، وأتاح له ذكاؤه المتقد، وقدرته العقلية الجبارة، مرونة ولباقة جديرين بالتقدير. فهو قد غير مذهبه، الذي وضع أصوله في العراق، حين استقر في مصر، ووضع بدلا منه مذهبه (الجديد) الذي ضمه خلاصة تجاربه وملاحظاته ودراساته خلال تلك الفترة الطويلة التي قضاها متنقلا في الأقطار الإسلامية. .، وكانت تجارب الأئمة والفقهاء الذين التقى بهم، وقرأ لهم، قد تبلورت في نفسه، واستقرت، فاختار منها ما رآه صالحاً مع البيئة الجديدة التي أستقر فيها.
وإذا كان يقال أن أبا حنيفة قد شرع بروح العراق، وان مالكا قد شرع بروح الحجاز، فإن الشافعي قد شرع بروح مصر. ويكاد الشافعي إلى ذلك أن يكون رابطة العقد بين فقهاء عصره، فلقد ولد في العام الذي مات فيه أبو حنيفة، وتلقى العلم على مالك في المدينة، فبهره بجودة حفظه وألمعية ذكائه،. . ثم كان ابن حنبل من تلاميذه.
وقد التقى حين قدم العراق بأبي يوسف ووكيع، وبذلك يمكن القول أن الشافعي قد أحاط بالفقه الإسلامي في عهده واستوعبه استيعابا كان كفيلا بان يجعله عميد الفقهاء وإمامهم في عصره، فهو الإمام الذي وضع الموازين والمقاييس، وضبط الفقه، بعد أن جادل الفقهاء وانتصر عليهم.
فإذا تركنا الحديث في فقه الشافعي للفقهاء، وذهبنا نتقصى (شخصيته) الإنسانية وجدناها غاية في القوة والسمو والحيوية، وتعدد الجوانب وسعة الأفق، وذلك بالإفاضة إلى ما أثر عنه من براعة وذكاء.
يتحدث الذين عاصروه عنه، أنه كان محببا إلى نفوس عارفيه، وكان إشعاعه ولباقته وحسن حديثه يكسبه حب الناس وثقتهم. . مما كان يزيد عدد أتباعه ومريديه يوما بعد يوم.
وأنه قد توافرت له صفات الداعية، صاحب المذهب، هذه الصفات التي تتمثل فيما أثر عنه من طول أناة وحلم، وابتسام ثغر، وإشراق وجه وبعد عن الغضب، وتواضع وخفض جناح وسلامة صدر، وصفح عمن يسئ إليه. . وبعد عن التعصب، وإملاء الرأي. . فقد كان يعذر مخالفيه في الرأي ويقبل منهم.
ويرجع ذلك إلى الإصابة النفسية التي كونت (طابعه) طابع الزعامة، فقد كان (رياضيا) تعلم الرماية وأغرم بها وأجادها، وكان يرمي عشرة في عشرة وقال عن نفسه (كانت همتي في الرمي والعلم).
وقد نقل أسلوب الرياضيين، من ميدان الرمي، إلى حلبة الفقه، فكان واسع الصدر إزاء معارضيه.
وآية قدرته في الإقناع على طريقة الرياضيين، إقناعه الرشيد ببراءته وهو يخوض بحراً من الدماء، فقد صرع أمامه تسعة، استلت السيوف اللامعة أعناقهم، فلما جاء دوره أعطته عارضته القدرة على أن يناقش الرشيد ويقنعه وهو في هذا الجو العاصف، وإزاء هذه الشخصية الجبارة.
لقد أتهم بالعمل ضد الرشيد وحمل مقيداً من اليمن مع عشرة من أصحابه، فلما جئ بهم إلى الرشيد، وضع حدا لأجلهم، أما هو فقد أقنع الخليفة. . قال له وهو بين النطع والسيف. .
(. . يا أمير المؤمنين ما تقول في رجلين أحدهما يراني أخاه والآخر يراني عبده. . أيهما أحب ألي؟ قال الذي يراك أخاه! قال: فذلك أنت يا أمير المؤمنين. فلما وضع يده على الخيط. . مضى يثبته بقوة، قال: إنكم ولد العباس وهم ولد علي، ونحن بنو عبد المطلب، فأنتم ولد العباس تروننا أخوتكم، وهم يرونا عبيدهم.
. . . ونجا
وقد بلغ به حب الرماية أن لم يكن جلال السن والإمامة بمانع إياه عن أن يرمي.
وقالوا عنه أنه كان يقصد في لباسه، ولم تعرف له صغيرة، وكان يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيئه أهل (القرآن) فيسألونه، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل (الحديث) يسألونه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا. . ثم تستوي الحلقة (للمناظرة) والمذاكرة، فإذا ارتفع النهار تفرقوا، ثم جاء أهل (العربية) والعروض والشعر والنحو حتى يأتي المساء. . والشافعي جالس في حلقته لا يضيق بالعلم ولا بالناس.
ولا عجب فقد كان الشافعي أديبا يتذوق الشعر، ويقول أجوده، ويقدر الجمال ويعجب به في مختلف صوره النفسية والحسية، بل لقد كاد أن يكون أديبا خالصا أو فنانا خالصا، لولا أن أتيحت له فرصة دراسة الفقه، فمضى فيه، حتى برز وبلغ القمة. .
وقد روى عن ذكائه وألمعيته وسرعة حفظه الكثير، مما زاد في قوة شخصيته أضف إلى ذلك ما روى من أنه إذا تكلم كان صوته أشبه بالصنج أو الجرس، وكان إذا قرأ القرآن التف حوله الناس، وعجوا بالبكاء. . قال بعض أتباعه (كنا أردنا أن نبكي قلنا قوموا إلى هذا الفتى المطلبي الذي يقرأ القرآن. . فإذا أتينا استفتح القرآن فتساقط الناس بين يديه وكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته)
ومن هنا جاءت قوته كداعية، يستطيع أن يجمع الناس حوله وأن يحببهم إليه، وتلك من الشمائل التي لا تتوافر للكثيرين.، وقديما كان الصوت الجميل وطلاقة اللسان من أدوات الداعية الفذ.
ويرجع السر في فصاحة (الشافعي) إلى أنه أقام بالبادية فلقن اللسان العربي.
وفي المدينة وصل إليه علم (مالك) كله، فقد لزمه حتى مات، وفي بغداد وصل إليه علم (أبو حنيفة) كله بعد أن حمله محمد بن الحسن. . ومن ثم اجتمع له علمان: علم أهل الرأي، وعلم أهل الحديث.
وقد وصل الشافعي بعلمه وثقافته إلى درجة المجتهدين، وارتفع عن أن يكون من أتباع (مالك)، أو تلامذته الذين يجرون في حدود مذهبه، فكان ذلك مصدر الخلاف بينه وبين المالكية في مصر، وقد لقي من ذلك عنتا شديدا.
وتوافرت للشافعي كل وسائل (العالم)، كما توافرت له كل وسائل (الداعية) فقد أثر عنه أنه كان يذهب إلى الصباغين يتساءل عن معاملاتهم، ويرتاد السوق يحدث أصحاب الحرف. .
وبلغت به الثقة أن كان يعرف أن أهل مصر فرقتان: فرقة مالت إلى قول مالك وفرقة مالت إلى قول أبي حنيفة، ولكنه كان يقول في حماسة ظاهرة (أرجو أن أقدم إلى مصر فآتيهم بشيء أشغلهم به عن القولين جميعا. .)
وقد حدث ما توقعه. . غير أن الخلاف لم يلبث أن نشب بين أتباعه وأتباع مالك فلقيه فتيان ابن أبي السمح المالكي ليلا فضربه أحدهم بمفتاح حديد فشجه. .، فلم يسعف بالعلاج فمات. .
. . وقد مات فقيرا، ولم يترك شيئا يذكر، وكان قد أجهد نفسه في الفترة التي قضاها في مصر إجهادا بلغ به غايته.
أنور الجندي