الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 990/البعث الديني في الغرب

مجلة الرسالة/العدد 990/البعث الديني في الغرب

بتاريخ: 23 - 06 - 1952


للدكتور عمر حليق

يتساءل الدكتور (راينهولد نايبور)، أحد أقطاب اللاهوت البروتستنتي في أمريكا، عما إذا كان المجتمع الغربي يمر الآن في بعث ديني كفيل بأن يتسرب إلى صميم السلوك السياسي والاقتصادي للشعوب المسيحية في الغرب، فيضع حدا لهذه الأخطاء الشنيعة التي تشوب سلوك الإنسانية، وتدون صحف التاريخ بأحرف النار والدمار.

وجواب هذا القطب البروتستنتي عن القسم الأول من هذا التساؤل، أن هناك اتجاهات واضحة في الإنتاج الفكري، وفي السلوك اليومي للشعوب الغربية، تدل بوضوح على أن هناك بعثا دينيا تزداد مظاهر جلاء يوما بعد يوم. ولكن صاحبنا يعترف بأن من الصعب عليه - وعلى أي كان من المراقبين المعاصرين لحاضر السلوك الديني في أمريكا وأوربا الغربية - أن يقدم البراهين القاطعة على هذا البعث الديني، براهين تستند إلى حركة جديدة ثابتة الأركان كتلك التي سجلها عن حركات البعث الديني، وحدد أزمانها ومعالمها وأقطابها وأهدافها ومبادئها. ويعترف هذا الزعيم البروتستانتي كذلك بأنه قد يكون مخطئا في تفسير لمظاهر هذا البعث الديني الجديد. فقد تكون هذه المظاهر ليست إلا سحابة صيف عابرة، لا تستطيع أن تحيي موات الأرض.

وقد عالج الدكتور نايبور هذه الناحية في حاضر الثقافة المسيحية في بحوث عديدة منها كتابه (الإيمان والتاريخ وفصول وكتب أخرى تدرس في أكبر معاهد الديانة البروتستانتية في أمريكا.

ويستشهد هذا العالم البروتستانتي للدلالة على أن الغرب يمر في فترة إحياء ديني بأمرين:

أولهما نجاح نفر من الوعاظ المسيحيين في أمريكا وبريطانيا برد الآلاف من الرعية إلى حظيرة الكنيسة، كما تدل على ذلك إحصاءات الهيئات الكنسية.

ثانيهما هذه الظاهرة القوية التي أخذت في السنوات الأخيرة تتسرب إلى الإنتاج الأدبي والفني في أوربا وأمريكا، ظاهرة تجد الخلاص في مشاكل النفس وأزمات الضمير في الإيمان والرجعة إلى الدين. ويشترك في هذه الرجعة نفي من الكتاب والشعراء في ثنايا المنظوم والمنثور من إنتاجهم الأدبي.

وبعض هؤلاء الأدباء والمفكرين يدعو إلى الرجعة إلى الإيمان بأوسع معانيه، مسيحيا كان أم بوذيا أم كنفوشيا، وتتخذ هذه الرجعة إلى الدين لونا من التصوف العميق كما هو الحال عند الأديب البريطاني الشهير (آلدوس هسكلي) الذي نشأ في بيت خاصم العقيدة الدينية خصومة عنيفة، واشترك جده الأكبر مع (داروين) في مناقشة التفسير الديني بطبيعة الأشياء، وأصول النشوء والارتقاء. ولآلدوس هكسلي كتاب يعالج فلسفة التصوف في الشرق والغرب، في تحبب وإعجاب ولون من الإيمان العميق بها.

وجدير بالذكر أن الاتجاه نحو التوسع في نشر التعليم الديني قد عم معظم الأوساط الجامعية في أميركا الشمالية، كما أشار إلى مؤتمر رؤساء الجامعات الأمريكية، وهيئات الخريجين الذي انعقد مؤخرا في شيكاغو.

فإلى ما قبل سنوات قليلة كان التعليم الديني مقصورا على موضوع أو موضوعين، يعالجان التوراة والإنجيل (العهد القديم والعهد الجديد) من ناحية أدبية بحتة، تتعمد تربية الذوق الأدبي والثروة اللغوية أكثر مما تهدف إلى شرح التعاليم الدينية ودقائقها.

والشعب في أمريكا يتحدث الآن عن ذيول القرار الخطير الذي أصدرته منذ بضعة أسابيع فقط محكمة العدل العليا بواشنطون، وهي أهم مرجع قضائي في الولايات المتحدة الامريكية، وأقرت به الحق لطلبة المدارس الحكومية، الابتدائية والثانوية، في أن يختاروا حصة معينة من جدول الدراسة الأسبوعي، يتلقون خلالها دروساً دينية، كل حسب المذهب الذي ينتمي إليه ويختاره له أبواه أو أولياء أمره. وجدير بالذكر أن التعليم الديني في المدارس الحكومية في أِمريكا، لا وجود له مطلقا. وإذا علمنا أن حوالي 90 % من الطلبة الأمريكان يتلقون علومهم الابتدائية والثانوية في مدارس الدولة أدركنا خطورة هذا الوضع على الحياة الروحية بين الأحداث الأمريكان، والفضل في الإبقاء على الحياة الدينية يرجع إلى نظام (مدارس الأحد) التي أنشأتها الكنائس البروتستانتية، واقتبسته عنها الكاثوليك واليهود، ليتلقن الحدث فيها أمور دينه مرة كل أسبوع على يد القساوسة والحافظين للتعاليم الدينية من رواد الكنيسة وأتباعها.

وهذه القسوة في إبعاد التعليم الديني عن برامج المدارس الحكومية في أوربا الغربية وأمريكا الشمالية، يعود إلى السياسة التي تعمدت فصل الدين عن الدولة، وهي سياسة اتبعتها بعض الدول المسيحية لتتفادى الصراع الطائفي بين مواطنيها، فالبروتستانت والكاثوليك، يعيشون جنبا إلى جنب في الدول المسيحية، والصراع المذهبي بين الكاثوليكية والبروتستانتية كان ولا يزال على حدته المعهودة، فالبروتستانت تتهم الكاثوليك بالولاء لمركزية الفاتيكان وسلطة البابوية، وهي سلطة يعتقد البروتستانت بأنها تتعارض في بعض الحالات مع المبادئ الديمقراطية وحق الجماعات الدينية، بان تواجه مشاكلها الروحية المختلفة على ضوء الأوضاع والظروف الخاصة التي تتميز بها الجماعات، ولا موجب لأن يتقيد الناس بمركزية الفاتيكان وهي مركزية يعتقد البروتستانت بأنها صارمة.

وقد كان للنفوذ اليهودي القوي في دخيلة الولايات المتحدة اثر في تقرير الاتجاه بفصل الدين عن الدولة. فالتعاليم المسيحية بروتستانتية كانت أم كاثوليكية، تدين بصلب المسيح، وألوان المشادة والتعذيب والتآمر والتنكيل التي صاحبت نشوء المسيحية بين العبرانيين. وإذا جردت برامج التعليم في المدارس الحكومية من نشر هذه التعاليم المسيحية، أزيلت تدريجيا من أذهان الناشئة حقائق الصراع المذهبي بين المسيحية واليهودية من جهة، وبين الكاثوليك والبروتستانت من جهة أخرى. وقد نجح اليهود في توحيد جهودهم مع البروتستانت في أمريكا وجعلها جهدا مشتركا للوقوف في وجه الفاتيكان. فتم فصل الدين عن الدولة في مظاهر رسمية على الأقل، ومنها التعليم الحكومي. والواقع أن البروتستانت اكثر ميلا إلى التسامح مع اليهود منهم إلى مصافاة الكاثوليك. فالفاتيكان يدرك إدراكا تاما خفايا اليهودية العالمية ومطامعها وأهدافها، ولذلك فهناك صداقة مفقودة بين الفاتيكان وحكماء صهيون.

قلنا أن قرار محكمة العدل الأمريكية الأخير، قد تغلب على مشكلة التعليم الديني في مدارس الدولة، وذلك تلبية لحملة عنيفة شنها أولياء أمور الطلبة، وأشاروا فيها إلى أن خلو برامج التعليم من الدروس الدينية قد خلف أزمات روحية وأخلاقية لم تعد تقوى أساليب التعليم الحديث على معالجتها دون معونة الدين، وهذه الحملة من الأدلة التي يستشهد بها بعض زعماء الدين المسيحيين في معرض إشاراتهم إلى البعث الديني الذي يعتقدون أنه أخذ ينمو في حاضر الغرب.

ومما لا ريب فيه أن الثقافة الدينية تجد في أوربا - باستثناء منطقة النفوذ الشيوعي - مرتعا أكثر خصوبة، منه في العالم الجديد.

فللكاثوليك جذوع راسخة في ألمانيا وفرنسا، فمدارس الفكر العتيدة التي تمثلها: مجلة فرانكفورتر هافتي في ألمانيا، ويتزعمها في فرنسا جيلون وماريتان، هي من دعائم الفكر الكاثوليكي في حاضر الثقافة الفرنسية خاصة، والأوربية على وجه العموم.

ويراقب الفاتيكان هذا النشاط في إطار العقيدة الكاثوليكية مراقبة دقيقة، فبين رجال الكهنوت في الكنيسة الكاثوليكية - وعلى الأخص في فرقتها المثقفة كجماعة اليسوعيين والبندكتيين - جماعة تفرغوا لحاضر الأدب والفن والفلسفة، وساهموا في دراستها والتعقيب عليها، ووفروا لأنفسهم نفوذا بالغا، ساعدهم على تحقيق ما للفاتيكان من قوة في المواصلات الفكرية الحديثة، في دور النشر والصحف، وهيئات الإذاعة. وحين يلمس الفاتيكان شعوبية في التفكير بين المثقفين الكاثوليك من غير رجال الكهنوت، يلجأ البابا إلى هذه المنشورات البابوية التي تعبر في لغة دقيقة عميقة عن رأي الفاتيكان في شؤون الفكر والبحث العلمي. وقد أصدر البابا في 21 أغسطس عام 1950، واحدا من هذه المنشورات الهامة بعنوان (في الإنسانية) شرح فيه موقف العقيدة الكاثوليكية من البحث العلمي، الذي يعتمد أن يبرز المكتشفات الحديثة في علوم الطبيعة والذرة والفلك والتعليلات الفلسفية، على أساس المقارنة مع التراث الكاثوليكي في هذا النوع من النشاط العقلي. وقال البابا أن الكنيسة الكاثوليكية لا تقف موقفا معاديا للبحث العلمي، فبعض ألوان هذا البحث قد يكون متمما للقيم الدينية والأخلاقية التي تستند إليها الديانة المسيحية. ولكن الذي يخشاه الفاتيكان هو أن يتطور هذا النشاط العقلي، فيتحمس لتشريح العقيدة الدينية بمبضع البحث العلمي، فيفسد على النفوس اطمئنانها. وبعض حقائق هذا الإيمان لا يمكن أن تفسر تفسيرا علميا كما يفسر التفاعل الكيماوي والحركة الميكانيكية، فإذا كان القصد من تسليط أضواء البحث العلمي على العقيدة الدينية ليزداد قبولها بين الناس، فحري بالمتحمسين لهذا القصد أن يتريثوا قبل أن يشكل عليهم الأمر، ويدفعوا إلى الشك والإلحاد. فكما أن لمقدرة الإنسان حدودا وقيودا تجعله في بعض الحالات عاجزا عن تعليل الأسرار العلمية وخفاياها، فإن لمقدرة الفكر على تحليل الإيمان بالعقيدة الدينية، حدود وقيود كذلك. فالتطرف في كلتا الحالتين، يفسد على المرء إيمانه بالعلم وإيمانه بعقيدته الدينية.

هذه الإشارات التي تصدر عن الفاتيكان بين آنة وأخرى هي وليدة دراسة دقيقة للاتجاهات الفكرية في الجماعات التي تؤلف المجتمع الكاثوليكي بأوسع معانيه. وهذه الإرشادات هي بمثابة فتاوى يشترك في وضعها أهل الاختصاص من الكرادلة والمتبحرين في علوم الكنيسة، والعاكفون من كهنوتها على متابعة الأدب والفن والتيارات الثقافية المعاصرة.

وليس للكنيسة البروتستانتية - بسبب تشعب فرقها - مركزية تشابه الفاتيكان. ولذلك فإن تسجيل الاتجاهات الدينية بين البروتستانت يكون بنوع من الدراسات الإحصائية التي يغرم بها الأمريكان، وهم اليوم عماد العالم البروتستانتي. وعلى كل فإن كلتا الطائفتين - البروتستانتية والكاثوليكية - تمر الآن في نوع من البعث الديني، سواء تعرف عليه البروتستانت بطرق الإحصاء، أم سجله الكاثوليك في الفاتيكان بأساليبهم الخاصة.

والمراقب للحياة الدينية في الغرب، لا يصح أن يعتمد في تسجيله لظواهر هذا البعث الديني على أقوال رجال الدين أنفسهم، فهم بحكم حماستهم وعلاقتهم المهنية بالدين، أميل إلى تجسيم الظواهر، منهم إلى معالجتها معالجة إيجابية.

ففي الغرب أناس من غير رجال الدين، يلمسون ظواهر هذا الإحياء الديني، ولكنهم يفسرونها تفسيرا خاصا.

فمنهم من يقول أن الرجعة إلى الكنيسة مبعثها (أزمة الأعصاب) التي تعتري الناس في أوربا وأمريكا، بعد أن أتت الحرب الأخيرة، والحرب الباردة الحالية على البقية الباقية من الاستقرار النفسي، الذي تركتها الحرب العالمية الأولى والأزمة الاقتصادية الخانقة التي حلت بالغرب في فترة ما بين الحربين.

وبعضهم يدعي بان المجتمعات أميل إلى التعلق بلون من الإيمان الديني الثابت حين تداهمها ظروف حادة من الهستريا الشاملة التي تصاحب فترات القلق السياسي والاقتصادي، كهذه الفترة التي تمر بها المجتمعات في أوربا وأمريكا اليوم. فالرجعة إلى الكنيسة - في رأي هؤلاء البعض - مدفوعة بالرغبة في التخلص من المآزق النفسية والمادية التي هيمنت على ملايين الأنفس التي أخذت تكفر بالمبادئ الاقتصادية، بعد أن بليت بشرورها في الحرب الأخيرة وحرب كوريا، فرغبت في أن تتخذ لنفسها مخرجا في اختيار المبادئ الدينية.

ومن الطريف أن طغيان العلم، وما خلفه من آلات الدمار الذري وقنابل الجراثيم، قد وفر لرجال الدين في أوربا وأمريكا فرصة حسنة للدعوة وترويج المبادئ الدينية، فالوعي الباطني للمجتمعات في أوربا وأمريكا يرتجف هلعا من القنابل الذرية، والبحوث والإرشادات للوقاية من ويلات هذه القنابل وملحقاتها لم تبعث في هذا المجتمعات أملا في النجاة والوقاية التامة، وإنما زادت خوفهم خوفا، وحين يتطرق الواعظ الديني في كنيسته - على سبيل المثال - إلى موضوع القنبلة الذرية وأهوالها، ويقول لسامعيه بأن ابن آدم يعبث بآلات علمية، ولا يدري إلا الله مدى شرورها وأهوالها، وان المخترعات الحديثة هي وليدة الصدفة، وليست وليدة العقل البشري الجبار، والدليل على ذلك عجز هذا العقل البشري عن استنباط الوقاية من هذه الشرور العلمية. حين يتحدث الواعظ بمثل هذا المنطق يجد لدى سامعيه آذانا صاغية، وهذه الآذان لا يهمها في أكثر الحالات أن تدرك عظمة الألوهية بقدر ما ترغب في الخلاص من مخاوفها وقلقها. فإذا عجز العلم عن إزالة هذه المخاوف وإبادة هذا القلق، فلا مفر من أن يجد المرء السلوى في القضاء والقدر والعناية الإلهية.

ومن هذه الظاهرة يلمس المراقب للحياة الدينية في الغرب الرغبة بين الأوساط الدينية البروتستانتية والكاثوليكية بإقحام الدين في الحياة السياسية والنشاط الاقتصادي، وهي محاولة لا تعلن صراحة عن رغبتها في إعادة وصل الدين بالدولة، فالفكر الغربي قد وطد في أسسه الجوهرية مبدأ فصل الدين عن الدولة، وإنما ترغب في أن يتسرب التفكير الديني إلى صميم السلوك السياسي والاقتصادي، ليحاول صياغة سياسة الحرب والسلم بلون من الإشعاع الديني، بعد أن سيطرت عليه القوة الماردة، قوة العلم وما خلفه من معاول للحرب والتوسع الاقتصادي.

وبين البروتستانت والكاثوليك خلاف على أساليب الوصول إلى هذا الهدف؛ فالفاتيكان، وان كان راغبا في توطيد السلم والإخاء، والحد من استعمال آلات الدمار الجهنمية التي استنبطها العلم؛ إلا أنه يفضل لو تم هذا السلام بعد القضاء على الشيوعية واقتلاع جذورها، ولو كانت الوسيلة إلى ذلك حربا عالمية جديدة، إلا أن البروتستانت - أو على الأقل طائفة من أبرز زعمائهم - يعتقدون بان الحرب الطاحنة، إذا حلت بهذا العالم فإنها لن تقضي على الشيوعية فقط، بل إنها ستقضي على معالم الحضارة المسيحية الغربية كذلك؛ ولذلك فبين أقطاب البروتستانت - كجماعة الكويكرز مثلا - من يعتقد بإمكانية العيش لجميع النظم السياسية والاقتصادية المعاصرة، إذا صفت النية، وساد جو العالم لون من الروحانية، والسلوك الديني القويم.

نيويورك

عمر حليق