مجلة الرسالة/العدد 980/لا يا حضرة القاضي أنا مستأنف
→ دعوة محمد | مجلة الرسالة - العدد 980 لا يا حضرة القاضي أنا مستأنف [[مؤلف:|]] |
شعراء من أشعارهم ← |
بتاريخ: 14 - 04 - 1952 |
للأستاذ عبد الجواد رمضان
قرأت ما كتب القاضي الفضل الأستاذ علي الطنطاوي في العدد الأخير من الرسالة، تحت عنوان: (أنا مع سيد قطب)
ولا كلام لي مع سيد قطب، ذلك الأستاذ الذي أحبه، وأجله - على غير رابطة ولا اتصال - وأشهد الإخلاص في كل ما يكتب، وإن خالف وجهة نظري أحياناً؛ ولا مع تلميذي وصديقي الأستاذ رجب البيومي، الذي آلمني - علم الله - أن يتورط في موقف لا خير فيه.
وإنما دفعني دفعاً إلى كتابة هذه الكلمة، حديث ذلك الكاتب الرائع، المؤمن حق المؤمن، الذي تطير به كتاباته إلى آفاق من الروحية، يعييني التطلع إليها عند غيره من كرام الكاتبين: الأستاذ علي الطنطاوي، وما أصدره من أحكام تعوزها (الحيثيات) ويخونها التعليل.
وقد حاولت أن أهزمه بضربة قاضية من أول جولة، حتى لا أدع له فرصة مساجلتي أو الرد علي، فبحثت في أعداد الرسالة التي تملأ البيت عن مقال له في بني أمية نشرته منذ سنتين أو ثلاث على ما أذكر، طار بهم فيه إلى عنان السماء؛ ثم أنسخه وأبعث به إلى الرسالة لتعيد نشره من جديد، فأظفر بالقلج من أيسر طريق؛ ولكن الحظ كان معه علي، فقد ذهب بحثي أدراج الرياح، بعد عناء طويل.
وإني اختصر الطريق إلى فضيلة القاضي، فألقاه وجاها، دون مداورة ولا مجاملة، ولا احتيال؛ وأقرر - في صراحة - 1 - أنه أحال، في اعترافه (بأن لبني أمية في نشر الإسلام، وفي فتح الفتوح فضلاً لا ينكره أحد، ثم إنكاره أن تكون دولتهم دولة إسلامية - 2 - وأنه أخطأ في أن معاوية هدم أكبر ركن في صرح الدولة الإسلامية حين أبطل الانتخاب الصحيح وجعله انتخابا شكلياً مزيفاً، وترك الشورى الخ الخ.
ومعاوية رضي الله تعالى عنه من كبار أصحاب رسول الله ﷺ، وأحد كتاب وحيه؛ والخلافة مسألة اجتهادية لم ينص فيها الشرع على وضع معين، اتكالاً على الاجتهاد فيها لمصلحة المسلمين؛ فقد لحق الرسول بالرفيق الأعلى دون أن يقرر فيها رأياً خاصاً، وأستخلف أبو بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنهما؛ ووضعها عمر في أهل الشورى. روى الطبري أن عمر رضي الله عنه لما طعن، قيل له: يا أمير المؤمنين لو استخلفت؟ قال من أستخلف؟ لو كان أبو عبيدة بن الجراح حياً استخلفته، فإن سألني ربي، قلت: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً، استخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إن سالماً شديد الحب لله. فقال له رجل: أنا أدلك عليه: عبد الله بن عمر، فقال: قاتلك الله! والله ما أردت الله بهذا، ويحك! كيف أستخلف رجلاً عجز عن طلاق امرأته؟ وأنظر، فإن استخلفت، فقد أستخلف من هو خير مني، وأن أترك، فقد ترك من هو خير مني، وأن يضيع الله دينه، وما أريد أن أتحملها حياً وميتاً. عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله ﷺ: إنهم من أهل الجنة الخ.
وقد ولى معاوية بعد صراع، رجحت فيه كفته سياسياً، ثم حربياً بعد اختلاف جند علي عليه، ثم صالحه الحسن، وسلم له الأمر، بعد استشهاد الإمام فاجتمع عليه أمر الأمة، ولا تجتمع أمة محمد على ضلالة.
عن الزهري، أن الحسن بن علي لما أستخلف، كان عنده شرطة الخميس التي ابتدعها العرب، وكانوا أربعين ألفاً بايعوا علياً على الموت، وعلى مقدمتهم قيس بن سعد؛ ولكن الحسن كان لا يريد القتال، وإنما يريد الدخول في الجماعة؛ وكان قيس يخالفه في هذا الرأي، فشغب الجند بالحسن، ونهبوا سرادقه، حتى نازعوه بساطاً كان يجلس عليه، وطعنه أحدهم؛ فلما رأى الحسن تفرق الأمر عنه، بعث إلى معاوية يطلب الصلح، وخطب أهل العراق فقال: يا أهل العراق، إنه سخي بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم أبي، وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي.
وقال للحسين وعبد الله بن جعفر: إني قد كتبت إلى معاوية في الصلح وطلب الأمان، فقال الحسين: نشدتك الله أن تصدق أحدوثة معاوية، وتكذب أحدوثة علي! فقال له الحسن: اسكت، فأنا أعلم بالأمر منك. ولما علم بذلك عبد الله بن عباس، كتب إلى معاوية يسأله الأمان. ودخل الناس في طاعة معاوية.
ومعاوية مجتهد، ما في ذلك من شك، وقد أقره على اجتهاده أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وناهيك!
قال الطبري بسنده: خرج عمر بن الخطاب إلى الشام فرأى معاوية في موكب يتلقاه، وراح إليه في موكب، فقال له عمر: يا معاوية، تروح في موكب وتغدو في مثله؟! وبلغني أنك تصبح في منزلك، وذوو الحاجات ببابك؛ قال: يا أمير المؤمنين، إن العدو بها قريب منا، ولهم عيون وجواسيس، فأدرت يا أمير المؤمنين أن يروا للإسلام عزاً.
فقال له عمر: إن هذا لكيد رجل لبيب، أو خدعة رجل أريب!
فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، مرني بما شئت، أصره إليه. قال ويحك! ما ناظرتك في أمر أعيب عليك فيه، إلا تركتني ما أدري: آمرك أم أنهاك.
وإذن فما فعله معاوية من صميم الإسلام، ولو كان محمد رسول الله ﷺ ونبي الإسلام حياً لأقره عليه، وقبله منه.
فالواحدة التي بألف ليست عند معاوية - وحاشاه - ولكنها عند من تجنى عليه!
فأما ما أخذه فضيلة القاضي على بني أمية - بالجملة - من تحكم الشهوات في مصلحة الأمة، واختيار شر الولاة، وعدوانهم على الحريات، وقتلهم العلماء كالحسين وأبن جبير الخ الخ الخ.
فلعمري، دولة يعد منها: عبد الملك بن مروان، الذي كان الإمام مالك إمام دار الهجرة يحتج برأيه، والذي حمله على تأليف (الموطأ). وسليمان بن عبد الملك الذي يعد الإمام عمر بن عبد العزيز حسنة من حسناته؛ والوليد بن عبد الله الذي خفقت في أيامه راية الإسلام على ثلاث أرباع العالم المعمور وقتئذ، وهشام بن عبد الملك الذي أتم تعريب الدولة؛ أقول: إن دولة منها من ذكرت، لدولة لم تغلبها الشهوات، ولا مال بها الهوى عن الاجتهاد للأمة وللإسلام، ولا يضيرها أن كان منها بعض الأعضاء الفاسدين، فالكمال المطلق لله!
والقاضي خير من يعرف أنه لولا الحجاج وأمثاله لانتهى الإسلام بانقضاء عهد الخلفاء الراشدين. ولقد تمرد الخوارج على علي الإمام الراشد، ولم يفرقوا في ائتمارهم المعروف بينه وبين صاحبيه معاوية وعمرو؛ والله يعلم أي كارثة كانت تصيب الإسلام لو تم ائتمارهم على الوجه الذي أرادوه. فالحجاج والقسري وبنو الملهب من هؤلاء الجبارين حقاً ليسو شراً ممن سلطوا عليهم، ولا يفل الحديد إلا بالحديد.
وإن قلبي ليبكي قبل جفني، حينما أذكر مصارع آل بيت محمد ﷺ وأولهم الحسين، ولكني أشرك شقيقه الحسن في دمه؛ على أن زمام الجيوش كثيراً ما يفلت من إدارة الولاة، خصوصاً في الدول التي يعظم حظ أفرادها من الحرية كالدولة العربية. وعلى الجملة فما أجتمع الناس على إمام، فإن الخروج عليه جريمة في نظر الشرع.
وليس مما يقبل من فضيلة القاضي أن العباسيين قلدوا الأمويين في شرورهم، فإن العباسيين أعظم في أنفسهم من أن يتأثروا أحداً، وهم - في نظرهم على الأقل - بيضة الإسلام وذووه. والدليل على ذلك تمثيلهم بني عمومتهم الطالبيين إلى تمثيلهم بالأمويين.
أما بعد، فإنني أختم كلمتي هذه، التي طالت رغم أنفي - بما قاله أبن السبكي صاحب جمع الجوامع في أصول الفقه - باب العقائد - ص347 جـ2:
(ونمسك عما جرى بين الصحابة من المنازعات والمحاربات التي قتل بسببها كثير منهم؛ فتلك دماء طهر الله منها أيدينا، فلا نلوث بها ألسنتنا. ونرى الكل مأجورين في ذلك، لأنه مبني على الاجتهاد في مسألة ظنية، للمصيب فيها أجران على اجتهاده وإصابته، وللمخطئ أجر على اجتهاده؛ كما يثبت في حديث الصحيحين أن الحاكم إذا أجتهد فأصاب فله أجران وإذا أجتهد فأخطأ فله أجر. اهـ بنصه.
فهل لي أن أطلب من حضرات الباحثين في هذه الموضوعات أن يعملوا بهذه (العقيدة الإسلامية) وفي شؤوننا الحاضرة ما يغنينا، عن تبديد تراثنا الخالد على وجه الزمان؟
عبد الجواد رمضان