الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 980/شعراء من أشعارهم

مجلة الرسالة/العدد 980/شعراء من أشعارهم

بتاريخ: 14 - 04 - 1952


عدي بن زيد العبادي

للأستاذ محمود عبد العزيز محرم

وعلى شعر عدي بن زيد مسحة من حزن دفين. وقد يحار المرء في تعليل هذا الحزن والبحث عن أسبابه. ولا يجوز أن نقول إن هذا الحزن قد ألم بعدي بعد أن فسدت عليه الأيام وأوقع به النعمان وحبسه، لأنا نراه في شعره من قبل هذا، من يوم أن كان حراً طليقاً، صديقاً للملك ومحبوباً منه، فهو كان من قبل الوقيعة ومن بعد. وأظنك تذكر الأبيات التي أنشدها عدي النعمان حين خرجا بظاهرة الحيرة يستريضان، والتي وعظه بها، وتنصر النعمان بسببها، وتنصر أبناؤه وأهل بيته وبنوا البيع والأديار. إن أكثرشعر عدي موسوم بالأشجان والأحزان، ولا تجد غير القليل منه طليقاً من إسارها. ومن هذا القليل الأبيات التي ذكرتها لك يتغزل فيها عدي بهند ويشبب بها. ومنه أيضاً:

يا لبيني أوقدي النارا ... إن من تهوين قد حارا

رب نار بت أرمقها ... تقضم الهندي والغارا

عندها ظبي يؤرثها ... عاقد في الجيد تقصارا

ويقول في بعض أخلاق نفسه:

ألا يا ربما عز ... خليلي فتهاونت

ولو شئت على مقد ... رة مني لعاقبت

ولكن سرني أن يع ... لموا قدري فأقلعت

ألا. لا فسألوا الفتي ... ة ما قالوا وقد قمت

ولعل من بواعث هذا الحزن أن عدياً قد نشأ في غير بلاده، فقد كان منزل سيده أيوب بن محروف باليمامة في بني امرئ القيس بن زيد مناة، فأصاب دماً في قومه، فهرب ولحق بالحيرة.

ولعل من بواعثه أن زيد بن أيوب قتل في هذا الدم الذي أصابه أبوه في بني امرئ القيس، فقد قتله رجل منهم بعد أن تعرف عليه وأقتص نسبه ومنزله.

ولعل من بواعثه ما كان يراه لدى الملوك - وأنت تعلم أنه عمل لكسرى، وأنه زار قيصر، وأنه صديق الملك النعمان - من مآثم وجرائم ودس ومكائد، أطلع على بعضها وسمع ببعض آخر.

ولعل من بواعثه أنه كان رجلاً مثقفاً أديباً. ومثل هذا يتدبر في أحوال الناس وحوادث الأيام، ويتبصر فيها، ويفكر فيمن نزلت بهم. ومثل هذا يكون ذكي القلب مرهف الحس رقيق العاطفة. وأنت تعلم أن الارتحال يكسب الإنسان الخبرة، وتعلم أنه يصقله ويهذبه، وتعلم أنه يفسح مجال تفكيره ويزيد في معرفته. وأنت تعلم أن عدياً كان عالماً بالفارسية، وعالماً بالعربية، فهو قارئ كاتب مطلع على أخبار من تقدموه.

ولعل من بواعثه أن ملك الحيرة كان في أيديهم - في يد زيد أبي عدي - قبل المنذر أبي النعمان، ثم تولاه عنه المنذر. وعلاوة على هذا فإن أهل الحيرة ولوا زيداً أبا عدي الحيرة وأبقوا أسم الملك للمنذر بعد أن غضبوا عليه وثاروا به. فهم كانوا ملوكاً حيناً. ثم كانوا شركاء في الملك حيناً آخر. ولا يبعد أن يطمح شاب كعدي إلى مثل هذا، فإذا ما غلب على أمره، وإذا لم يظفر بما يريد، وإذا كان ملك الحيرة خالصاً للنعمان، فإن هذا قد يخلف أثراً سيئاً في نفس عدي، يدعه يجتر أفكاره وآماله، ويجعله ينظر إلى الحياة بمنظار قاتم.

يبدو أن حياة عدي لم تكن سهلة، بل كانت معقدة، وكانت لا تسير على ما يهوى. ويبدو أنه كان يبذل نشاطاً كبيراً ولكن هذا النشاط كانت تعترضه مشقات كثيرة. لقد كان يكافح غير أنه لم يكتب له الظفر ولم تدنه الأيام مما يريد. وتأمل هذه الأبيات:

وعاذلة هبت بليل تلومني ... فلما غلت في اللوم، قلت لها اقصدي

أعاذل ما أدنى الرشاد من الفتى ... وأبعده منه إذا لم يسدد

أعاذل من تكتب له النار يلقها ... كفاحاً. ومن يكتب له الفوز يسعد

أعاذل قد لاقيت ما يزع الفتى ... وطابقت في الحجلين مشي المقيد

أعاذل ما يدريك أن منيتي=إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد

بليت وأبليت الرجال وأصبحت ... سنون طوال قد أتت قبل مولدي

فلا أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالاً عرت من بعد بؤسي وأسعد

تأمل هذه الأبيات فستجد في نفس هذا الشاعر شياً يريد أن يفصح عنه، شيئاً تعجز الأبيات عن احتماله والإبلاغ عنه، معنى مخنوقاً من طول ما توارت عليه الأيام بالطعن والتنكيل.

ثم تأمل هذه الكلمات (الرشاد - النار - الكفاح - الفوز - بليت أو أبليت الرجال - فلا أنا بدع من حوادث تعتري) هذه الكلمات القصار دالة على كفاح هذا الرجل في حياته، وسعيه للفوز والنجاح، ولكنه لقي من الحوادث العنت والقسوة، وثنته الأيام عما يريد ويأمل.

لقد تربى عدي في أحضان النعمة، وخالط الأغنياء والموسرين والملوك، وكتب للملوك وسفر لهم. وكان بعيد مطارح الآمال، لأنه رأى أباه شريكاً في الملك، بعد أن كان الملك له خالصاً. وكان قارئاً كاتباً ملماً بكثير من الأخبار والأحداث. وكان رقيق الحاشية وذا طبع مهذب أنيق. وكل هذا لم يكن من وسائل الترفيه عنه بل كان من العوامل والبواعث التي تبتعث أشجانه وأحزانه، والتي أضفت على شعره لوناً قاتماً بائساً.

وإذا عرفت أنه فيما بعد قد أصهر النعمان بزواجه من هند، وأن هذا الزواج لم يكن موفقاً للأسباب التي أسلفناها لك، وإذا عرفت أن أعداءه لم يهادنوه بل اتخذوا كل ما وقعوا عليه وأولوه تأويلاً سيئاً للإيقاع به. وإذا عرفت أن أعداء عدي أوقعوا الشك في نفس النعمان حين زعموا أن عدياً يرى أنه صنيعته وأنه ولاه ما ولاه. وإذا عرفت هذا كله عرفت أن حياة عدي من قبل أن يغضب عليه النعمان، ومن بعد، كانت شائكة مثيرة محرجة، لا تدع صاحبها يتنسم راحة ولا يعرف قراراً.

كل هذا أنعكس على شعر عدي، فخرج حزيناً بائساً شاكياً، وترجم عن نفس لم تجد في الحياة منافذ لتحقيق الآمال، فشكت أحوال دنياها في أبيات حزينة. ولذلك يكرر عدي قوله عن صروف الأيام وأحداثها، وما توقعه بالإنسان من هم وحزن وقتل للآمال وغبن في الحقوق. وإذا كان هذا شأنها فعليه أن يرشد نفسه، وأن يتدبر أفاعيلها، وألا يغتر بها:

لم أر مثل الفتيان في غبن ال ... أيام ينسون ما عواقبها

ينسون إخوانهم ومصرعهم ... وكيف تعتاقهم مخالبها

ماذا ترجى النفوس من طلب ال ... خير وحب الحياة كاربها

يظن أن لن يصيبها عنت الد ... هر وريب المنون صائبها

ويقول أيضاً:

كفى زاجراً للمرء أيام دهره ... تروح له بالواعظات وتغتدي

وعدي قد طوف بكثير من البلاد. وعرف من أخبار الروم والفرس والعرب الشيء الكثير.

وهو قد قرأ عن الغابرين الأول، وأمتحن الدنيا حتى تكشفت له عن لون قاتم وقد ذكر في شعره بعض ما عرف. وأظنك سمعت عن قصة الزباء وجذيمة وقصير الطالب بالثأر. وهذا عدي يقصها علينا في شعر له، ويذكر كيف خدعت الزباء جذيمة وأردته، وكيف قام قصير يطلب بالثأر حتى جدع أنفه بالموسى، وكيف ساق إليها العيس بما دهاها وأذلها، وكيف جعل الفرسان في مسوح الرهبان، على حين لم تتوقع من قصير هذا أذى ولا ضراً على فرط حذرها من الناس:

أطف لأنفه الموسى قصير ... ليجدعه، وكان به ضنينا

فأهواه لمارنه، فأضحى ... طلاب الوتر مجدوعاً مشينا

وصادفت امرأ لم تخش منه ... غوائله، وما أمنت أمينا

إذا ما أرتد عنها أرتد صلباً ... يجر المال والصدر الضغينا

وقد هلك جذيمة وهلكت الزباء. وهكذا الحوادث والمنايا لا يعفين أحدا من الابتلاء بهن، وإن كان مجدوداً فهن يتركنه إلى حين:

وأبرزها الحوادث والمنايا ... وأي معمر لا يبتلينا

إذا أمهلن ذا جد عظيم ... عطفن له ولو في طي حينا

ولم أجد الفتى يلهو بشيء ... ولو أثرى، ولو ولد البنينا

وأقرأ هذه القصيدة فهي تكشف أيضا عن تشاؤم عدي وشجنه، وسوء ظنه بالأيام. وتدل

على مدى معرفته بما حوله ومن حوله. وتدل على إلمامه بشؤون كثيرة:

أيها الشامت المعير بالده ... ر أأنت المبرأ الموفور؟

أم لديك العهد الوثيق من الأي ... أم؟ بل أنت جاهل مغرور

من رأيت المنون خلدن؟ أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير؟

أين كسرى؟ كسرى الملوك أنوشر=وان؟ أم أين قبله سابور؟

وبنو الأصفر، الكرام، ملوك الر ... وم، لم يبق منهمو مذكور

وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج ... لة تجبي إليه والخابور

شاده مرمرا، وجلله كلسام ... فالطير في ذراه وكور

لم يهبه ريب المنون، فباد ال ... ملك عنه، فبابه مهجور وتذكر رب الخورنق، إذا أشر ... ف يوماً، وللهدى تفكير

سر ماله، وكثرة ما يم ... لك والبحر معرضاً والسدير

فأرعوى قلبه، فقال: وما غب ... طة حي إلى الممات يصير

ثم بعد الفلاح، والملك، والإم ... ة، وأرتهم هناك القبور

ثم صاروا كأنهم ورق جف ... فألوت به الصبا والدبور

للبحث صلة

محمود عبد العزيز محرم