مجلة الرسالة/العدد 980/دعوة محمد
→ لغة المستقبل: | مجلة الرسالة - العدد 980 دعوة محمد [[مؤلف:|]] |
لا يا حضرة القاضي أنا مستأنف ← |
بتاريخ: 14 - 04 - 1952 |
6 - دعوة محمد
لتوماس كارليل
تتمة البحث
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
عظمة محمد:
إني لأحب محمداً - وليس في مقدور أي إنسان منصف لعقله إلا أن يحب هذا الرجل - وذلك لبراءة طبعه من الرياء والتصنع. فلقد كان محمد هذا رجلاً مستقل الرأي، لا يعول إلا على نفسه ولا يدعي ما ليس فيه، لم يكن متكبراً ولكنه لم يكن خانعاً ذليلاً، فهو قائم في جلبابه المرقع كما أوجده ربه وكما أراد له أن يكون، يخاطب بقوله الحر المبين، أكاسر الفرس وأباطرة الروم، يدعوهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم، ويرشدهم إلى ما يجب عليهم في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى. وكان يعرف لنفسه قدرها ويضعها في موضعها اللائق بها. فلا يتقدم حيث يجب التأخر، ولا يتأخر حيث يجب التقدم، ولا يقسو حين تستحب الرحمة، ولا يرحم حين تفيد الشدة، ولقد وقعت بينه وبين الأعراب حروب متعددة، لم تخل من مشاهد القسوة، ولكنها مع ذلك لم تخل من دلائل الرحمة وسعة الصدر وكرم الغفران. ومع ذلك فقد كان لا يعتذر من الأولى ولا يفخر بالثانية، فد كان يراها من أوامر شعوره ووحي وجدانه. ولم يكن شعوره لديه بالظنين ولا وجدانه عنده بالمتهم.
وكان محمد رجلاً ماضي العزم قوي الشكيمة لا يؤخر عمل اليوم إلى غده، فقد حدث في غزوة تبوك أن أمتنع المسلمون عن السير إلى ساحات القتال، متذرعين بأن الوقت وقت الحصيد، وبأن الحر شديد لافح، فنظر إليهم نظرة نفذت إلى قلوبهم ثم قال لهم: الحصيد؛ إنه لا يلبث إلا يوماً أو يومين، فماذا تتزودون لحصيد الآخرة، وأما الحر فإنه نعم حر شديد ولكن حر جهنم أشد حراً، فماذا انتم فاعلون هناك.
وقد كان في بعض الأحايين يخرج كلامه سخرية لاذعة وتهكماً مراً؛ من ذلك قوله للكفار، إنكم ستجزون يوم القيامة عن أعمالكم وأنه سيوزن لكم الجزاء، ثم لا تبخسون عن أعمالكم مثقال ذرة.
وما كان محمد عابثاً قط ولا شابت أقواله شائبة لهو أو لعب، بل إنه كان ينظر إلى الأمور نظرة جد ثاقبة، ممزوجة بالإخلاص الشديد والجد المر، فلقد كان الأمر إما أمر فلاح وإما أمر خسران، والحياة إما حياة بقاء أو حياة فناء. أما التلاعب بالأقوال والاستشهاد بالقضايا المنطقية والعبث بالحقائق، فلم يكن من شأنه قط ولا عرف عنه شيء من هذا أبداً، فإن ذلك التلاعب بالألفاظ والقضايا المنطقية. . . عندي لمن أفظع الجرائم وأكبر الدلائل على كذب المرء وعبثه. إذ أن هذه الأشياء ليست إلا رقدة القلب ووسن العين عن الحق، وبرهان على عيشة المرء في مظاهر كاذبة، وليس يستنكر من إنسان يتخذ التلاعب بالألفاظ والقضايا المنطقية، هو أن جميع أقواله وأفعاله أكاذيب وأضاليل؛ بل إنه هو نفسه أكذوبة، إنه إنسان كاذب ولكنه مصقول اللسان مهذب القول، يلقى احتراماً في بعض الأزمان وبعض الأمكنة، لا تؤذيك بادرته، لأنه لين الملمس رفيق المس، لكنه كحمض الكربون تراه على لطفه سماً نقيعاً وموتاَ ذريعاً، والأدهى من ذلك أن خصلة المروءة والشرف - شعاع الله في مخلوقاته - نجدها متضائلة في ذلك الإنسان كما أنه يكون مضطرباً بين عوامل الحياة والموت.
أما محمد ذلك الرجل العظيم فإنه من المحال أن يكون كهؤلاء الميتين القلوب الذين لا يعرفون الطريق إلى الله. إنه من المحال أن يكون كاذباً مثل هذا الرجل الكبير؛ فإني أرى الصدق أساسه وأساس كل ما جاء به من فضل ومحمدة. وعندي أنه ما من أحد من الرجال الذين يسمونهم العظماء أمثال - نابليون أو بارنزا أو كرموبل أو ميرابو وغيرهم -، ينال النجاح والفوز في عمل يقوم به إلا إذا كان الصدق والإخلاص وحب الخير أول بواعثه على محاولته فيما يحاول، أي أن صدق النية والجد في الإخلاص، بل أقول إن الإخلاص - الحر العميق الكبير - هو أول خواص الرجل العظيم وأهم صفاته. وأنا إذا قلت الرجل العظيم، لا أريد به ذلك الرجل الذي لا ينئي يفتخر أمام الناس بإخلاصه، كلا فإن ذلك الرجل ليس عظيماً بل هو حقير جداً، وإخلاصه إخلاص سطحي لا يقصد به نفع الآخرين، إنما يبتغي به منفعة نفسه، وهذا الإخلاص هو الغالب، إنما هو غرور وفتنة.
أما إخلاص محمد ذلك الرجل العظيم، فقد كان لا يتحدث عنه ولا يفتخر به، بل ربما كان في بعض الأحيان يشعر من نفسه بعدم الإخلاص إذا كان يرى غيره لا يستطيع أن يلتزم منهج الإخلاص يوماً واحداً فكان يلجأ إلى ربه الذي لا ملجأ منها إلا إليه يطلب منه أن يرزقه الإخلاص.
لقد كان إخلاص محمد غير متوقف على إرادته، فهو مخلص على الرغم من نفسه سواء أراد أم لم يرد، وكيف لا يكون مخلصاً إخلاصاً حقيقياً، وهو يرى الوجود حقيقة كبرى تروعه وتهوله، ولا يستطيع أن يغمض عينيه على جلالها الباهر، وهو يرى الكون مدهشاً ومخيفاً حقاً كالموت وحقاً كالحياة، وهذه هي الحقيقة التي لم تفارقه أبداً وإن فارقت أكثر الناس، فساروا على غير هدى، وخبطوا في دياجير الظلام وغياهب العماية والضلال، وهكذا خلق الله محمداً ذا عقل راجح ونظر ثاقب، وإخلاص في غير تفاخر، وهذه هي أهم أسباب العظمة.
كانت الحقيقة الكبرى ماثلة دائماً نصب عينيه، حاضرة أبداً في ذهنه كأنها منقوشة بحروف من اللهب، وهذه هي أولى صفات العظيم، وبها يمتاز ويعرف. وهي ما أمتاز به محمد، ولا أنكر أنها قد تكون موجودة في الرجل الصغير، لأن كل إنسان خلقه الله جدير أن توجد صفة الإخلاص في نفسه، ولكنها قد تكون وقد لا تكون. أما الرجل العظيم فإنها من لوازمه؛ بل إن الرجل العظيم لا يكون عظيماً إلا بها، وإني أرى أن من أسباب عظمة محمد أنه كان نافذ النظر إلى لباب الحقيقة، يمتاز بنفس شاعرية كبيرة، وآيات تدل على أكرم الخصال وأشرف المحامد، وإني كلما قرأت عنه تبين لي فيه عقل راجح وفؤاد صادق وعين بصيرة، ورجل عبقري لو أنه أراد أن يكون شاعراً لكان من فحول الشعراء، ولو شاء أن يكون فارساً لكان من أشد الفرسان شكيمة، ولو ابتغى ملكاً لكان ملكاً جليلاً مهيباً، ولو أحب أن يكون أي شيء من كل هذا لكانه بغير أن يكلفه أي مشقة أو عناء.
وأي دليل على عظمته وصدق نبوته أقوى من نظرته إلى الكون، فلقد كان العالم في نظره معجزة كبرى تدل على خالق الكون العظيم. كان ينظر إلى الكون فيرى فيه غير ما كان يراه أعاظم المفكرين من الذين كانوا يقولون إن العالم في الحقيقة لا شيء أما محمد فقد كان يرى العالم آية منظورة ملموسة على وجود الله، بل إن ظل الله علقه على صدر الفضاء، وكان يقول: إن هذه الجبال، هي أوتاد الأرض، وهي رغم عظمتها وشموخها ستذوب وتصير كالعهن المنفوش في يوم القيامة (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش) في يوم القيامة ستتصدع الأرض وتتفتت وتذهب في الفضاء هباء منثوراً.
وكان سلطان الله وعظمته لا يزال واضحاً لعينه على كل شيء، وأن كل مكان مملوءة بقوة مجهولة ورونق باهر وهول عظيم، إن هذا الكون هو الحقيقة الصادقة، والجوهر القوي، هكذا كان محمد ينظر في الكون، وهذا ما يسميه علماء العصر الحديث القوى والمادة. ولكنهم لا يرونه شيئاً مقدساً، بل إنهم لا يرونه واحداً، بل أشياء متعددة تباع وتشترى بالدرهم والدينار، وتستخدم في أغراض الناس وإصلاح حالهم أو إفساده، فهم لا ينظرون إليها على أنها سر من أسرار الله في الكون.
إن العلوم الحديثة من كيماويات وحسابيات، قد أنستنا ما يكمن في الكائنات من سر إلهي وعظمة تدل على الخالق القوي القدير. فما أفحش ذلك النسيان عاراً وما أشد هذه الغفلة إثما، فإذا نسينا قوى الله في العالم فأي الأمور يستحق أن يذكر، إن العالم اليوم يسير في مجاهل الغرور والضلال، وصار الناس يفتخرون بما بلغوا من علوم ومخترعات، ولو كان لهم نظرات صادقة لرأوا أن معظم علومهم أشياء ميتة بالية، وأن مخترعاتهم بقلة ذابلة، وأن هذه العلوم التي يفتخرون بها لولا سر الله لما كانت إلا خشباً يابساً ميتاً، ليست بالشجرة النامية التي تعطي الثمر اللذيذ المفيد، ولا بالغابة الكثيفة الملتفة التي لا تبرح تعطينا الخشب الذي نستفيد به، ووالله لن يجد المرء - إذا أبتعد عن طريق الله - السبيل إلى العلم إلا شقشقة كاذبة، وبقلة كما قلت ذابلة.
محمد رسول الله:
مثل هذا الرجل هو ما نسميه رجلاً أصيلاً كريم العنصر صافي الجوهر، وهو رسول مبعوث من لدن القوة العلية أرسلته إلينا برسالة قدسية فيها لنا هدى وتبصرة، وقد نحار في تسميته فنسميه شاعراً أو نبياً أو إلهاً. . . وسواء كان هذا أو ذاك، فالذي يجب أن نعلمه أن ما جاء به هو من عند الله، وأن قوله ليس مأخوذاً من رجل غيره؛ وإنما هو صادر عن الأبدية السرمدية وأنه من لباب الحقائق.
ولن أكون مغالياً إذا قلت إن مثل هذا الرجل يرى باطن كل شيء لا يحجب عنه ذلك اصطلاحات كاذبة ولا اعتبارات باطلة ولا معتقدات وعادات سخيفة، فقد نزه نفسه عن النظر إلى هذه الأشياء كلها. وكيف ينظر إنسان إلى هذه السخافات وهو يرى الحقيقة تسطع أمام عينيه قوية باهرة حتى ليكاد نورها يغشى عينيه، وفي رأيي أن محمداً مخلوق عظيم من فؤاد الكون وأحشاء الدنيا وأنه جزء من الحقائق الجوهرية، وقد دل الله على أنه رسول إلى هذا العالم بعدة آيات، أهمها أنه علمه العلم والحكمة وأمره أن يدعو الناس إليهما، ثم أوجب عليه الإصغاء إليه قبل كل شيء، لأن الرسالة التي بعث بها هي الحق الصراح، وليست كلماته إلا أصواتاً صادقة صادرة من مصدراً على لا ندركه نحن، فإذا عرفنا هذا استحال علينا أن نعد محمداً هذا أبداً رجلاً كاذباً أفاقاً يتصنع الحيل ويتذرع بالوسائل طمعاً في ملك أو سلطان أو غير ذلك من صغائر الأمور وحقائر الأشياء. كلا ليس محمد بالكاذب ولا الملفق، وإنما هو قطعة من الحياة الأبدية قد تفتح عنها قلب الطبيعة، وإنما هو قبس من النور المقدس يشع من الأبدية فإذا هو شهاب قد أضاء سناء العالم أجمع (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) وهذه حقيقة تدفع كل باطل وتدفع حجة الدجالين وتدحض افتراء الكاذبين المفترين.
إن قوماً قد اعترفوا بنبوة محمد ولكنهم قالوا إنه وقع في بعض الأخطاء وليس في مقدور أي إنسان أن يثبت على محمد هفوات وأخطاء تذر بتلك الحقيقية الكبرى الظاهرة لكل عين بصيرة. وهي أن محمد رجل صادق ونبي مرسل من رب العالمين. ولا نكلف أنفسنا شططاً فنجسم الهفوات ونجعل من الجزئيات حجباً تحجب عنا نور الحقيقة الباهرة.
إن أخطر الذنوب وأكبر الآثام ليهون أمرها إذا كان لباب النفس حراً كريماً وسرها شريفاً، إذ أنها لا بد تائبة عما ارتكبت، وفي التوبة النصوح والندم الصادق ولذع الذاكرة ووخز الضمير المكفر الأكبر للسيئات، والمطهر للروح من أدران الشوائب والموبقات. إن التوبة الصادقة في نظري أكرم أعمال المرء جميعها وأقدس أفعاله كلها.
أما إذا حسب المرء نفسه بريئاً من كل ذنب، بعيداً عن كل خطأ فإنه يكون في نظري خالياً من الوفاء والمروءة، بعيد عن الحق والتقى والخير، وإن نفسه لتكون ميتة - وإن شئت فقل إن نفسه تكون نقية نقاء الرمل الجاف.
والذي يعرف سيرة نبي الله داود وتاريخه كما هو مدون في مزاميره، يرى أنه أكبر دليل وأصدق شاهد على ارتقاء النفس البشرية في مدارج المكرمات، وأن الحرب بين العقل والهوى إن هي إلا حرب طالما ينهزم فيها العقل هزيمة تضعضع جانبه وتتركه على شفا الانقراض وحافة الزلزال. ولكنها حرب تكون مشفوعة دائماً بالتوبة والندم، إنها حرب تستنهض العزم الصادق وتحدد قوى الإيمان بوجوب انتصار العقل وهزيمة الهوى، هذا إذا كان جوهر النفس نقياً ولبا بها حراً، فإن الخير فيها سينتصر على الشر لا محالة.
يا ويل النفس الإنسانية بين ضعفها وقوة شهواتها، وما أشد خطبها بين قوى الخير والشر، أليست حياة الإنسان سلسلة من العثرات؟ وهل في مقدرو الإنسان أن يتفادى كل العثرات وينجو منها. إن المرء لا ينهض من عثرة إلا على أخرى. وبين هذه وتلك عبرات ونحيب وبكاء وشهيق وزفرات ونشيج. فإن استطاع بعد طول المجاهدة أن يغلب على هواه كان ذلك فوزاً عظيماً،
وكان دليلاً على لباب نفسه حقاً وجوهرها صحيحاً. وفي هذه الحالة يمكننا أن نتجاوز عن الجزئيات، لأنها وحدها لا تستطيع أن تجلو لنا الحقيقة وتعرفنا معدن النفس.
إن حياة المرء العادية هي الحياة التي تكشف لنا عن جوهر نفسه وحر معدنه؛ لأنه سيكون فيها سائراً على سجيته بغير كلفة ولا تصنع.
ونحن إذا تتبعنا محمداً في حياته اليومية خرجنا بما يثبت صحة ما نقول، من أنه مبعوث الأبدية ورسول العناية القدسية.
فقد كان محمد صوت فؤاد يهيم بين الرجاء والخوف، الرجاء والأمل في سعة ورحمة ربه. . . والخوف من ارتكاب الذنوب وهول يوم الحساب رغم أنه كان متديناً شديد التمسك بدينه. . موعوداً من ربه بالمثوبة وحسن الجزاء. وقد تروى عنه مكرمات عالية وتذكر له صفات هي في الذروة من الصفات الإنسانية، فعندما مات أبنه إبراهيم قال: إن العين لتدمع والقلب ليوجع والنفس لتجزع ولا نقول ما يغضب الله. . . ولما استشهد مولاه زيد بن حارثة في غزوة (مؤتة) قال محمد: لقد جاهد زيد في الله حق جهاده، وقد لقي الآن ربه خالصاً فلا بأس عليه. غير أن أبنت زيد رأت محمداً بعد ذلك يبكي على جثة أبيها، رأت الرجل الذي دب المشيب في مفرقيه تسيل عينه دمعاً ويذوب قلبه حزناً، فنظرت إليه متعجبة، ثم قالت: ماذا أرى؟ فقال لها: صديقاً يبكي صديقه. إن مثل هذه الأقوال وهاتيك الأفعال لتوضح لنا شخصية محمد وترينا أنه كان أخا الإنسانية الرحيم الذي بعثه الله رحمة للعالمين، إن مثل هذه الصفات التي أمتاز بهامحمد والأحكام التي جاء بها القرآن والتعاليم التي أختص بها الإسلام، كل هذه جميعاً هي التي أخرجت العرب من الظلمات إلى النور، وأحيت بها أمة كانت هملاً بين الأمم، فجعلتها تمسك بزمام العالم تقوده إلى بر الأمان.
وهل كان العرب إلا فئة من الرعاة الجوالين خاملة فقيرة تجوب الفلاة منذ أن خلق الله العالم، لا يسمع لها صوت ولا تحس لها حركة ولا يقام لها وزن.
فلما جاء محمد من عند الله وبرسالة من قبله، بدل أمرهم فإذا الضعة قد استحالت رفعة ومجداً، والخمول شهرة والضعف قوة، وإذا الظلام نور شع سناه في جميع الأنحاء وعم نوره الأرجاء، ووصل شعاعه الشمال بالجنوب والمشرق بالمغرب، ولم يمض غير قرن من الزمان على بعثة محمد حتى بلغ العرب الذروة في المجد، وأصبح لهم رجل في الهند ورجل في الأندلس، وأضاء نور الإسلام دهوراً عديدة نصف الكرة الأرضية، وتمتع الرعايا الذين كانوا تحت حكم الإسلام بفضل الإسلام ورونق الحق ونبل المسلمين ومروءتهم وشجاعتهم وبأسهم ونجدتهم، وهدى الله الكثير منهم فشرح صدرهم للإسلام فدخلوا فيه طائعين مختارين بعد أن عاشروا أهله ورأوا ما في الإسلام من تعاليم تكفل العدل وحر الحياة لكل أفراد الرعية، وهذا حال الحكم الإسلامي ما دام الإيمان القوي - الذي هو مبعث الحياة ومنبع القوة - يملأ نفوس المسلمين ويرسم لهم مناهج الحكم وسبل الحياة.
إن في استطاعة المسلمين في أيمن العصور أن يصلوا إلى أرقى مدارج الفضل وأن يبلغوا ذرى المجد إذا اتخذوا اليقين مذهبهم والإيمان الصحيح منهجهم، وما دام الإسلام وتعاليمه رائدهم. فالإسلام نور ونار، نور يهدي إلى الحق والى الطريق المستقيم (يهدي به الله من أتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) ونار تحرق كل شوائب النفوس وأقذارها فتصفي معدنها وتحيي ميتها.
ألستم ترون في حالة محمد مع أولئك الأعراب الوثنيين عندما جاءهم بدعوته، كأنما وقعت من السماء شرارة على تلك الفيافي الواسعة التي لا يرجى فيها خير ويبصر بها فضل، فإذا هي بانفجار سريع قوي يبدل حالها ويضيء ظلامها ويحيي مواتها، وإذا الرمال الميتة قد تأججت واشتعلت واتصلت نارها بين غرناطة ودلهي، وهذا أكبر دليل على صدق محمد وعظمته، ولطالما قلت إن محمداً شهاب أرسلته السماء وكان الناس جميعاً في انتظاره كأنهم حطب يابس، فما هو إلا أن سقط عليهم حتى تأججوا والتهبوا وصاروا خير أمة أخرجت للناس.
خاتمة:
وعلى كل حال فالدين الذي جاء به محمد دين عالي فيه للمبصرين أشرف معاني الروحانية وأعلاها، فاعرفوا له فضله ولا تبخسوه حقه، فقد مضى على ظهور محمد ودعوته مائتان وألف عام ولا يزال هو الدين القويم والصراط المستقيم لأكثر من خمس العالم، يؤمن به أهله من أعماق أفئدتهم، ولا أحسب أن أي أمة حتى أمة النصارى قد اعتصمت بدينها اعتصام المسلمين بالإسلام، لأنهم يوقنون به كل اليقين ويواجهون به الدهر والأبد، وكيف لا وهو أصلح دستور للحكم وأقوم طريق لقيادة الشعوب إلى السلام الدائم والعدل المقيم. وإن في استطاعة المسلمين ذوي الغيرة في الله والتفاني في حبه، أن يأتوا شعوب الوثنية بالهند والصين والملايو، فيهدمون أضاليلهم ويشيدون مكانها قواعد الإسلام. ونعم ما يفعلون.
إن العالم اليوم في حاجة إلى قيادة حكيمة وحكم قوي يؤمن بالمثل العليا لينقذه مما هو فيه. ولن يكون له ذلك إلا في الإسلام الصحيح وأتباع دعوة محمد ﷺ.
تم البحث
عبد الموجود عبد الحافظ