مجلة الرسالة/العدد 973/الكتب
→ الأدب والفن في أسبوع | مجلة الرسالة - العدد 973 الكتب [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 25 - 02 - 1952 |
السنوسية دين ودولة
تأليف الدكتور محمد فؤاد شكري
للأستاذ محمد محمود زيتون
(درج الكتاب من الإفرنج على اعتبار السنوسية إحدى الطرائق الصوفية فحسب، وانبرى الطليان من سنوات مضت يعملون لتعزيز هذا الاعتقاد بكل الوسائل، يحدوهم إلى ذلك الأمل في صرف أذهان سواد الناس عن التفكير في أصول السنوسية الحقة والتسليم بأنه ما دامت السنوسية طريقة من الطرق الصوفية فهي بعيدة كل البعد عن العناية بغير شؤون الدين، بل ولا يحق لها أن تعمل لمطالب الحياة والدنيا، ووجه الخطر في هذا الاعتقاد - إذا رسخ في الأذهان - ظاهر واضح، ذلك بأنه يحرم السنوسية - كنتيجة منطقية في النهاية - من التطلع إلى الحكم وتشييد صرح الدولة الإسلامية العتيدة، تلك الدولة التي جاهد الليبيون سنوات طويلة من أجل إرساء قواعدها في ليبيا، ومع ذلك فقد فات الطليان ومن حذا حذوهم أن الإسلام لا يعرف تفرقة بين شؤون الدين والدنيا، ولا يفصل بين العقيدة والدولة. وما كانت السنوسية في أدوار تاريخها الحافل (طريقة) تقصر اهتمامها على شؤون العبادة من غير نظر في أحوال الشعوب التي أخذ (الإخوان) السنوسيون على عاتقهم إرشادها حتى تتحرر من قيود الجهالة وتنعم بهدى المعرفة).
بهذه الفقرة يفتتح المؤلف تصديره لكتابه الذي نقدمه للقراء في هذه الفترة التي تلفت الأنظار إلى المملكة الليبية الناهضة كثمرة الدعوة السنوسية في هذا القطر الشقيق.
وتقديم هذا الكتاب إنما هو تعريف بتاريخ النضال الذي اضطلع به هذا الشعب المسلم المجاهد الذي طرح عن كاهله نير العبودية في قوة وجلد، فما أوهنت عزائمه تقلبات العثمانيين، ولا فتت من أعضاده فضائح الطليان ودسائس الألمان ومخازي الفرنسيين والإنجليز.
وثمة ميزة أخرى لتقديم هذا السفر للقارئين في هذا الوقت: ألا وهي التنويه بحلقة من سلسلة الجهاد في سبيل (الجامعة الإسلامية) التي شغلت ولا تزال تشغل قادة الفكر الإسلامي في العصر الحديث، وانطوت صحائف، وما يزال هؤلاء القادة في مكان الصدارة من التاريخ المجيد، فضلا عن اعتزاز بلادهم بمآثرهم الإسلامية التي لا تنسى.
أما ليبيا التي نعتز اليوم بنهضتها فإنها خضبت تراب بلادها بدماء الشهداء لا من أهلها فحسب؛ بل من المتطوعين من شتى الأقطار الإسلامية، كما أن كثيرا من المصريين بصفة خاصة كان لهم سهم وافر في هذا الجهاد الصادق، وما يزال الليبيون على ذكر من الأعمال التي قام بها عبد الرحمن عزام، وصالح حرب، وعزيز المصري، وعبد المنصف محمود، والمرحوم محمود لبيب، الذين خاضوا غمار المعارك الدموية، مؤمنين باليقظة الإسلامية، والوحدة العربية، والحرية والاستقلال، تحت ظلال السيوف، كما أن الأمير عمر طوسون - عليه رحمة الله - كان جم النشاط في جمع المال اللازم لحركة الجيران المناضلين عن دينهم وشرف الوطن.
والدعوة السنوسية امتداد مستقيم للدعوة المحمدية التي جوهرها تنوير الأذهان وتحرير الأوطان، وقد اقتضت الظروف التي حاقت بالدول الإسلامية في القرن الماضي يقظة فكرية شاملة، ترسم أصحابها خطى النبي المصلح، فلما صدق العزم، تبين الرشد من الغي، واتضحت السبل والأساليب، ذلك بأن الإسلام مصحف ومنبر، سيف وكتاب، عبادة وقيادة، عقيدة وشريعة، رهبانية وإرهاب، وبالجملة دين ودولة، لهذا كانت السنوسية طريقة ودعوة وغزوة، وما زالت تمضي في سبيلها المرسوم من نظام اجتماعي إلى جمهورية فإمارة ثم ملكية.
ولد زعيم السنوسية الأول السيد محمد بن علي السنوسي بالجزائر سنة 1787ونشأ في بيئة علم وفضل، وتنقل في الأقطار الإسلامية مقتبسا من مناهل العلماء مناقشا وفاحصا وقد صقل التصوف من عنفوان شبابه ولكنه لم يحد من نزعته الصادقة إلى (إحياء الملة الإسلامية وتوحيد الصفوف في العالم الإسلامي للنهوض بالدين الحنيف نهضة صحيحة قوية) وأخذ يتزود من العلم ويمنحه للطالبين في يسر ومضاء حتى ذاع صيته وأوجست منه خيفة شتى العناصر الجامدة في فاس والقاهرة وصار (خطرا على الأمن العام) وألصقت به التهمة المأثورة (محاولة قلب نظام الحكم) فأصابه أذى كبير من الولاة والمشايخ، وبانتقال الداعية الإسلامي الكبير إلى برقة بدأ (الإخوان) ينشئون الزوايا بمثابة المركز العام لهذا النشاط الذي دوخ الاستعمار.
على أن السنوسية لم تكن دعوة لتطهير الدين من البدع والخرافات فحسب، بل تعدت هذا النطاق إلى تحرير الرقيق من أهل (واداي) فكان سلطانها محمد شريف يشتري هؤلاء الأرقاء ويعلمهم في الزوايا ثم يعتقهم ويبعث بهم إلى أهليهم لينشروا الإسلام في الزنوج والوثنيين.
وليبيا الواقعة حينذاك في نطاق الخلافة العثمانية لم تنس حقيقة هذا الدين المتين فتمسكت بأهدابه، وعندئذ رأى العثمانيون في السنوسية عاملا من عوامل الدعاية لهم، فاستعانوا بالسنوسي الكبير على بث روح الألفة بين الناس، ونشر السلام بين ربوع البلاد، وسار ولاتهم في ركابه كلما انتقل في البلاد إلا أنهم ما لبثوا أن قلبوا له ظهر المجن عندما بدأت السلطات العثمانية (تخشى من سلطان السيد في الجهات التي أنشئت فيها الزوايا وكثر بها الإخوان والأتباع والمريدون) وعملوا على زعزعة مكانته في نظر المسلمين حتى ناهضته العناصر الرجعية بالأزهر، فلم يثنها ذلك عن المضي قدما.
ولما توفي السنوسي الكبير سنة 1859انتقت الإمارة إلى ولده المهدي الذي أخذ على عاتقه إتمام ما بدأه أبوه فزاد عدد الزوايا وتوغل في الصحراء الكبرى، وأوجد بها مراكز لتعليم الرماية، فاتهمته فرنسا وتركيا وإيطاليا بتعطيل مصالح الاستعمار والتعصب ضد المسيحية واغتيال المكتشفين للصحاري. وتوفي المهدي في أول يونيو سنة 1902وخلفه الشاب السيد أحمد الشريف حفيد السنوسي الكبير فواصل الجهاد ضد الفرنسيين وصمد لهم على الرغم من تخلي العثمانيين عنه حتى أسلم القيادة إلى ابن أخيه الراشد إدريس.
وفي سبتمبر سنة 1911قطعت إيطاليا علاقتها بتركيا، فأغار الطليان على برقة وطرابلس. فبدأت السنوسية صفحة عريضة من نضالها الشعبي الذي دام ثلاثين عاما، وتحققت الجامعة الإسلامية بصفة عملية في تدفق المؤن والذخائر والمال والرجال على ليبيا من مصر والسودان والعراق والشام وتركيا، وقام صالح حرب بدور جريء إذ انقلب على الإنجليز ودافع عن مقدسات الشعب الليبي، كما أبلى البطل الشهيد عمر المختار أحسن البلاء حتى وقع أسيرا في أيدي الطليان الذين حاكموه صوريا وأعدموه رميا بالرصاص.
وما إن اندلعت شرارة الحرب العالمية الثانية حتى تقدم الجيش (الإنجلو نوسي) لطرد الألمان والطليان من ليبيا وتأمين الجناح الأيسر لمصر، وقد سجل الأمير إدريس السنوسي في هذه الخطوة لنفسه ولبلاده شرف المجاهد والسياسي العامل على تحقيق استقلال بلاده.
وإذ وضعت الحرب أوزارها دأب السنوسي على ضم الصفوف فبويع بالإمارة على الأقطار الليبية: برقة وطرابلس وفزان، حتى نودي به ملكا على مملكة مستقلة لم يكف عزام عن سرد قضيتها على الرأي العام والسعي في انضمامها إلى هيئة الأمم المتحدة وبالتالي إلى جاراتها أعضاء جامعة الدول العربية.
هذه هي قصة السنوسية كما عرضها الدكتور محمد فؤاد شكري في كتابه القيم (السنوسية دين ودولة) الذي بذل فيه جهودا جبارة في سبيل التحقيق العلمي، فجاء عمله مثلا طيبا للمنهج التاريخي الذي وضع دعائمه الأولي ابن خلدون. فقد تجنب السرد المضل. وعمد إلى التحليل والاستقراء، وليس أدل على ذلك من فصل (الإمارة السنوسية) الذي خصصه لتفصيل دعائم هذه الدعوة وهي أصول دينية واجتماعية وسياسية واقتصادية.
ومما يجدر بنا الإشارة إليه - كآخر أصل سياسي للإمارة السنوسية - (تلك الوصية التي تركها السيد رحمه الله بإسناد رئاسة الطريقة السنوسية إلى الأكبر الأرشد من الأسرة السنوسية. ثم نظامك البيعة) وما نعلم مطلقا أن للبيعة في الإسلام كتلك المراسيم التي ننكرها على الطقوسيين، فهل من الإسلام أن البيعة تستتبع تقليد المبايع سيفا ومنحه كتابا وإلباسه جردا، وإعطاءه مسبحة، وإقامة صلاة ومصافحة (فكانت هذه الصلاة وهذه المصافحة بمثابة المبايعة له بالإمارة من بعده؛ وأجمع الإخوان وكبار السنوسية وشيوخها على قبول هذه الإمارة في حياة والده ثم بعد وفاته، وعلى ذلك فكأنما جمعت السنوسية في نظام الحكم بين مبدأ الوراثة والصلبية والعمل بمبدأ الشورى وحققت في هذا النظام بعض شروط الإمارة). وينزع المؤلف إلى منطق التبرير الذي نراه يباعد بينه وبين منطقه المنهجي إذ يقول (ومن المعروف أن الشورى كانت ركنا من أركانها، والواقع أنه لم يكن هناك مناص من هذه (البيعة) الإسلامية باعتبارها أصلا من الأصول التي قام عليها (بيت) شريف ينتهي في نسبه القرشي إلى الرسول الكريم). . . كذا. .
هذا ولا ننكر على المؤلف هذه الطاقة العلمية التي جعلته - في سبيل التحقيق والتحليل - يعتمد على أوثق المصادر، ولا سيما الإيطالية بعد أن ترجمها له أصدقاؤه من الليبيين أنفسهم فذللوا أمامه كل عسير، ثم هو يعتمد على رواية المعاصرين ممن أسهموا في النهضة الليبية بأوفر سهم، وصدق الشاعر (فما راء كمن سمعا). والكتاب من منشورات دار الفكر العربي، تلك الدار التي لا تفتأ تزود المكتبة العربية بالمؤلفات القيمة، وترمي دواما إلى هدف رفيع، وغاية نبيلة، خدمة للقضايا العربية والإسلامية متخير لذلك العقول الكبيرة والأقلام الرفيعة، فصدر الكتاب في 424صفحة من القطع الكبير والطبع الأنيق وثمنه خمسون قرشا.
وإنه ليحق لكل درس قومي أن يفخر باقتناء هذا السفر، وإلى مثل هذا الجهاد التأليفي ندعو الباحثين في قومياتنا ونهضاتنا آملين الظفر - في آخر الأمر - بمؤلفات عريقة، ودراسات دقيقة كهذا الكتاب
محمد محمود زيتون
توجيهات نبوية
تأليف الأستاذ عبد المتعال الصعيدي
للسيدة وداد سكاكيني
كانت هذه التوجيهات آخر ما نشر الأستاذ الجليل عبد المتعال الصعيدي من علماء الأزهر المجددين وقد ضمنها أربعين حديثا محمديا صحيحة السند موثوقة المتن والنقل، اختارها المؤلف ملائمة لروح العصر وتوجيه أهله في الدين والعلم والاجتماع. ولعلنا أحوج ما نكون في محنة الأيام إلى هذا التوجيه المحمدي الذي دعا إليه الرسول أو قام به ليكون قدوة تحتذي وسنة تتبع، ففي كل عصر من العصور غمرة فساد وموجة طغيان ينهض لصد شرها ودرء عواقبها أهل الصلاح والإصلاح ممن آتاهم الله علما وفضلا.
وهل كان شيء أجدى على الإنسانية الحيرى وأهدى في ردها إلى سواء السبيل من أحاديث الرسول وتوجيهاته التي كان يبصر بها الناس ويقيهم الانحراف والعثار، وقد جعلها لهم دستورا رافدا لتعاليم القرآن ونيرا للأمم في حياتها الاجتماعية ولقد قسم المؤلف هذه الأحاديث الأربعين إلى فصول صغار شرح فيها الكلمات شرحا لغويا وإعرابيا، ثم بسط الغاية منها بسطا وافيا، فكأنه يلقيها من على منبره في كلية الأزهر التي أسندت إليه تدريس الحديث في جملة عمله الجامعي.
والأستاذ الصعيدي ذو دأب وتجديد في التأليف بالأدب والدين، لا لطلابه فحسب، بل لجمهور المثقفين بمصر وبلاد العرب، فهو إذا عرض دراساته إليها لم نجد كفايته وإتقانه مقصورين على هذه الدراسة، إذ نراهما يتناولان جذور البحوث الدينية فتجيء مشبعة بالتحليل والاستقراء.
ففي كتابه توجيهات نبوية أو محمدية يبلغ المدى في فهم الحديث على الوجه الذي فهمه الصحابة فيه، ويقرر خلال الدرس والبحث نواحي المقارنة والمطابقة دون استطراد ينحرف بالقارئ أو تفصيل يضيق به كما اتفق لكثير من الشروح الدينية في زماننا. وأطرف ما وجدت في هذه الأحاديث تحليل المؤلف لحديث النهي عن سبب الدهر، ولعل الدهر لم يتحمل سبايا مثلما تحمل في زماننا، فالأفراد يلومونه ويرمونه بالجور والعدوان، والجماعات تعزو إليه أسباب الفشل في الحياة، ولو جمعنا شعر العرب من امرئ أتقيس إلى شوقي لأتينا على شعر لا يحصى في سب الدهر وملامته، ناهيك ما عند المعري من ذلك.
والنادرة الجميلة في هذا الحديث - إن صح أن يكون في الأحاديث نوادر - ما أورده المؤلف حفظه الله من تعليل لهذا الحديث وهو حث الإنسان على الرضى بما يصيبه في الدهر وعلى عدم الشكوى فيه من الدهر.
وقد علل وجود الشكوى باعثا على اليأس، نعم إننا قد نيأس لأن اليأس مخلوق في غرائزنا وشعورنا، فالطفل الرضيع يمارس اليأس دون فكر، والكبير يمارسه بفكر أو بفلسفة، ولا مناص منه للإنسان ليجد الرجاء ويفتح باب الأمل بمحاربة القنوط، غير أن العلة في النهي عن سب الدهر كالعلة في النهي عن اليأس. ولليأس درجات أنكرها وأقصاها ما نهى عنه القرآن.
كذلك نجد في هذه التوجيهات المحمدية ضروبا من الأحاديث الملائمة لعصرنا وأهله، فيها أدب وثقافة، وفيها هداية ووقاية، وقد فقد المؤلف باختيارها وشرحها إذ وضعها في قنديله، فشعت بنورها الجميل.
وداد سكاكيني