مجلة الرسالة/العدد 963/تعفن المذهب المادي
→ بين العروض وطلقات المدافع | مجلة الرسالة - العدد 963 تعفن المذهب المادي [[مؤلف:|]] |
رسالة الشعر ← |
بتاريخ: 17 - 12 - 1951 |
للأستاذ محمد فرحات عمر
دعاني إلى الكتابة في هذا الموضوع كثرة الكلام عن الإلحاد وضروبه وشيوعه بين الشباب ومدى أخذهم به واعتناقهم له. لذلك أزمعت الكتابة فيه؛ على أن تناولي إياه إنما سيكون من جهته الفلسفية الخالصة إلى جانب مناقشة تحت ضوء العلم الحديث.
وروح المذهب المادي الذي هو دعامة الإلحاد تتلخص في اعتبار المادة أساسا للموجود من حيث هو موجود، واعتبار قوانينها أساسا لأغراض الموجود؛ فإن سئل أصحاب هذا المذهب بأي اعتبار كانت قوانين المادة أساسا لأعراض الموجود؟ أجابوا. . باعتبار الاتفاق والضرورة معا. . الاتفاق في تصادم هذه القوانين، والضرورة في تفاعلها وصيرورتها؛ ومن ثم ظهور الموجود في حالة جديدة مغايرة للحالة الأولى من حيث الشكل.
ويلزم عن هذا كله أن يكون الوجود ميكانيكيا صرفا باعتبار نتيجة حتمية عن أسبابها، خالية من شوائب الشذوذ. هذه هي روح المذهب المادي بمنتهى الإيجاز والتركيز، ولم يبق أمامنا الآن أن نشاهد روح هذا المذهب تحت أشعة النقد.
أولا. . أنني في حدود معرفتي لا أملك المادة في ذاتها وإنما أملك صورة للمادة سواء أكلية كانت صورة جزئية أم صورة، وعلى ذلك فإقامة مذهب مادي محض باعتبار المادة في ذاتها على أساس تصوري هو من باب التناقض وهو خلف. فإن أرادوا تفادى هذا التناقض بالمطابقة بين الصورة والأصل معتمدين في هذا على مذهبهم التجريبي فأنهم في هذه الحالة سيطابقون بين صورة المادة وصورة المادة، وهذا تحصيل حاصل وفشل فاضح في الوصول إلى نتيجة حاسمة.
ثانيا. . المنهج الحسي هو أداة المعرفة عند المادية. ومما هو ذو مغزى أن المادية بهذا الوضع في حالة لا تحسد عليها. فالمعرفة الحسية أدنى مراتب اليقين إن لم تكن خارج حدود اليقين على الإطلاق. . ثم أنني الآن أمام مكتبي وهاأنذا أكتب هذا المقال وليس عندي أي شك في وجود مكتبي أمامي ووجود قلمي بين أصابعي، ولكن مع هذا فالمجنون أيضا يجزم لك أنه قابل النبي عليه السلام منذ هنيهة، وأنه الآن بجانب حبيبته. وعبثا تحاول أن ترده عن مثل هذه الترهات فإنه على يقين من ادعائه أنه يرى حبيبته الآ بجانبه. . ما العمل؟ أيكذب نظره. . هيهات ثم هيهات!
ثم ما رأي حضرات الحسيين الأفاضل في قطرة الدم التي أراها بعيني المجردة حمراء اللون فإذا رأيتها تحت المجهر لاحت لي في كرات بيضاء وكرات حمراء؟ إن الحواس لتتناقض في غاية السرعة لمجرد مضاعفتها. ومن يأتمنها بعد ذلك؟ أليس يجوز في العقل أننا لو وصلنا إلى مضاعفة قوة هذا المجهر لظهرت لنا كرات بيضاء وكرات حمراء وثالثة صفراء ورابعة خضراء. . . ابعد هذا تكون الحواس طريقا قويما إلى معرفة يقينية؟
ثالثا. . إذا سلمنا جدلا بأن المادة في ذاتها مبدأ وجودي فأننا لا نستطيع أن نعتبرها المبدأ الوجودي الوحيد، وذلك أننا إذا تأملنا الفرد الإنساني وجدنا تركيبه الكيماوي وقوامه البيلوجي في سن الطفولة غيره في الشيخوخة. وبرغم هذا نراه محتفظا بذاتيته من حيث هي مما يدل على أن الذاتية جوهر مغاير لجوهر المادة وأنه شيء له كيانه الوجودي غير المترتب دائما على الظروف المادية البحتة.
رابعا: لا يمكننا بأي حال من الأحوال قبول الميكانيكية ناموسا للكون، لأننا نجد في الإنسان من حيث هو إنسان شيئا يتعالى على الميكانيكية. . نعم. . الإنسان من حيث هو، ثم من حيث أنه عنصر من عناصر هذا الوجود لا نجده يندرج تحت الميكانيكية ألبتة. ويكفى للتدليل على دعوانا ما قرره فريق من علماء النفس أن الإرادة عنصر جوهري من عناصر النفس الإنسانية. ويجعل بالقارئ العزيز أن يدرك جيدا ما أقصده بمعنى الإرادة هنا؛ فأنني أعنى بها الإرادة السيكولوجية الخالصة التي يدركها كل منا بإحساسه العميق بها. إذ أنها تفرض نفسها فرضا، ومن ثم وجب عدم الخلط بين الإرادة في ذاتها ومدى أثرها في حيز الواقع العملي.
خامسا. . النظرية المادية القائلة بالصدفة نظرية واضحة البطلان من جهة أنها لا تقوم على أساس سليم. ولكي يتضح لنا هذا يجب أولا أن نوضح ماهية الصدفة وعلاقتها بالفعل الذي يخرج عنها. فالصدفة اتفاق أسباب ما للوصول إلى نتيجة ما بدون سابق قصد أو عمد أو إصرار. والقصد هو اتفاق أسباب ما للوصول إلى نتيجة ما مع سابق القصد والعمد والإصرار. فالفرق بين الصدفة والقصد إنما يتركز حول مبدأ الأسباب المعينة التي أدت إلى هذه النتيجة المعينة التي هي واحدة في كلتا الحالتين. وعلى ذلك لا يصح أن نستغل كدليل على حالة دون أخرى. لذلك يخطئ الماديون من حيث أرادوا أن يتخذوا من العالم وهو بطبيعة الحال نتيجة لأسباب مجهولة دليلا ليؤولوا به مبدأ الصدفة. ومثل من حاول هذه المحاولات كمثل رجل وجد في طريقه حافظة نقود فأراد أن يعلل وجوها. . هل كان هذا عن قصد من صاحبها أم هو مجرد أنفاق. والحقيقة أن أي جواب عن هذه المسألة سيكون من باب الترجيح لا من باب التوكيد الذي هو أساس العلم الثابت وفضلا عن هذا فإن الجواب عن هذه المسألة يمتاز بقياس الشاهد على الغائب على عكس موضوعنا الأصيل. فالعلم من حيث هو نتيجة لا يصح إلا أن يكون وسيلة لتفسير أسبابه من حيث هي أسباب في ذاتها ومعلق هو بها. أما أن يتخذ مصباحا للكشف عن مبدأ أسبابه فهذا فساد دونه أي فساد. فان قال الماديون إذا سلمنا أن هذا العالم وجد عن قصد فان العالم يضم بين دفتيه من الخلل ما يتنافى مع كمال القاصد. وعلى ذلك لم يعد هناك مبرر لعدم التسليم بأن العالم جاء عن اتفاق.
قلنا إن هذا القول عليه اعتراضات يطول شرحها؛ لذلك نركز أهمها في ثلاث نقاط:
أولا - هذا القول أن صح أنه دليل على الصدفة فهو دليل سلبي.
ثانيا - البحث في صفات القاصد الكامل هو خروج عن حدود طاقة العقل البشرى، فلا يجدر بأي باحث أن يتناول فكرة القاصد وهو الله على أساس البحث في صفاته، بل يجب تناول الموضوع على أساس آخر هو مبدأ الوجود ذاته ومدى قبول العقل له. من هذا يتضح أن نظرية الصدفة القائمة على تفي القاصد بالحط من شأنه نظرية غير على أساس منهجي سليم. فضلا عن هذا فان اعتراضهم على القاصد لا يؤدي بنا إلى نفى وجوده البتة، وإنما يؤدى إلى حد كماله. ومع ذلك فهو ليس بغريب على المتألهة المحدثين وخصوصا السير جون استيوارت مل.
ثالثا - أن إقرارهم بأن العالم يحوى خللا بين دفتيه. . تناقض واضح مع قولهم بالميكانيكية الصرفة التي تمتاز بعلوها عن شوائب الشذوذ. ثم من جهة أخرى نرى هذا القول على العكس يأتي في صف القائلين بالقاصد لأنه أن دل فإنما يدل على أن ثمت قاصد صاحب إرادة حرة يفعل وراء هذا الكون ما يشاء وهو قاصد ذلك.
والآن بعد أن تناولنا أهم دعائم هذا المذهب بالنقد ووضحنا مركز هذا المذهب في نظر الفلسفة حان الوقت لأن نتعرف على الصلة المزعومة بين هذا المذهب والعلم الحديث.
يدعي الطبيعيون انهم اعتمدوا على النظريات العلمية الحديثة فيما ذهبوا إليه، ومع هذا فأننا نجد العلم الحديث يتخلى عنهم في أخطر المواقف وأدقها.
(أ) المذهب المادي يدعى أن كل معرفة إنسانية إنما ترجع إلى حيز المحسوس، بينما علم الفسيولوجيا يقرر بأن اختصاص الجهاز العصبي لا يتعدى المعرفة المباشرة الميكانيكية؛ أما المعاني المجردة والمعاني الكلية فيترك أمرها معلقا في الهواء. وإذن فالقول بأن المعاني المجردة والمعاني الكلية ترجع أيضا إلى الحس هو قول من باب الترجيح بدون مرجحات؛ وقد أحالت ذلك بداهة العقل.
(ب) العلم الحديث لم يصل بعد إلى ماهية الكون، فهو يقرر بأن الكون مكون من أجسام وكل جسم يتألف من ذرات وكل ذرة من هذه الذرات تتألف من النواة والكهارب السالبة والكهارب الموجبة، ثم هذا كله إنما ينتهي إلى الإشعاع. . وما هو الإشعاع؟ هو تموجات. . ثم ما هي التموجات؟ هي ذبذبات، ثم يقف بك العلم الحديث عند هذا فلا يفسر لك ماهية الضوء تفسيرا مجديا اللهم إلا تفسيرات شكلية. وهكذا يعترف لك العلم الحديث أنه لا يدرى من هذا الأمر شيئا.
(جـ) يدعى أصحاب هذا المذهب المتداعي وهم في ادعائهم هذه قد صاروا من التهافت بمكان، وأصبحوا عرضة هم ومذهبهم في مهب الريح. . ريح النقد العاتية؛ أقول يدعى أصحابنا الطبيعيون أن نظرية التطور والارتقاء إنما دعامة أساسية من دعائم مذهبهم المحبوب المدلل. . وردنا عليهم في غاية السهولة نوجزه فيما يلي.
1 - نظرية التطور والارتقاء لا تبحث إلا فيما يعد أصل الحياة من نشوء بعض الأحياء من بعض على مر الزمان وتحت ظروف طبيعية معينة؛ أما البحث في أصل الحياة والقول بالتولد الذاتي وهو بيت القصيد عند المادية فليس من اختصاص التطور على الإطلاق وليس إحجام التطور عن تناول مثل هذا الموضوع ضربا من الإضراب عن العمل.
2 - الغريب حقا - وان كان لا يستغرب من الماديين أي عمل مهما كان مخالفا لطبائع الأشياء أنهم قالوا بالتولد الذاتي ولم يثبتوه بتجربة اللهم إلا فروضا ما أنزل الله بها من سلطان، بل لو وصل المادية فيما بعد إلى إثبات التولد الذاتي بالتجربة فان هذا لا يزعزع مبدأ العلة الأولى عندنا (خلق الإنسان من صلصال كالفخار)
3 - أن نظرية التطور لا تخالها في جانب الطبيعيين بتاتا. وخير دليل على ذلك ما نراه من إلحاح الكائنات في التطور والارتقاء وكأنه غاية يعقلونها، أو أن محركهم إلى التطور يعقلها تمام التعقل، ثم تناسق أعضاء الحي الواحد تناسقا إعجازيا يقوم برهانا واضحا على المنظم البصير بأعماله. وفضلا عن ذلك تعتقد بعض الحلقات تعقدا لا يجعلها نسلمك بأن الظروف الطبيعية وحدها علة ذلك كله، أو أن كل هذا كان محض اتفاق واعتباط. هذه هي الصلة بين المذهب الطبيعي والعلم الحديث وما أضعفها من صلة وما أهونها! ولكن هيهات أن يعترف بهذا أصحاب هذا المذهب الكسيح. لكن هناك نقطة هامة يجمل بنا إجمالها قبل أن ننهى هذا المقال، وهى تدور حول نظرية النسبية للعلامة ألبرت إينشتين؛ تلك النظرية التي أرجعت هذا الكون بما حمل إلى مجرد نسب زمانية ومكانية خالصة؛ وأثبت هذا على أسس رياضية سلم بها جميع الخالصة من أصحاب الرياضة. أقولها صراحة إن ظهور هذه النظرية كانت بمثابة لطمة صعق من جرائها المذهب المادي وخر صريعا وسط الميدان.
هذه خلاصة موجزة لأهم الاعتراضات التي تقوم على هذا المذهب المتعفن. ولا يظن القارئ الفاضل أننا هنا قد وفينا هذا الموضوع بل لو كان في نيتنا أن نوفيه حقه للزم ذلك المجلدات الضخام ولكننا هنا آثرنا أن نعرض أهم الاعتراضات العامة التي تنصب على قلب هذا المذهب المنهار فتكون كفيلة بالقضاء على بقاياه.
محمد فرحات عمر