مجلة الرسالة/العدد 963/بين العروض وطلقات المدافع
→ المستقبل وأسرار الوجود | مجلة الرسالة - العدد 963 بين العروض وطلقات المدافع [[مؤلف:|]] |
تعفن المذهب المادي ← |
بتاريخ: 17 - 12 - 1951 |
تحقيق في بحر الرمل
للشاعر الأستاذ محمد عبد الغنى حسن
قرأت - مع السرور والشكر - ملاحظة عروضية للأديب البارع الأستاذ محمد رجب البيومي تدور حول قصيدتي (على طلقات المدافع) التي نشرت بالرسالة الغراء في العدد (960). وإذا كان الأستاذ الفاضل قد أعجب (بإشراق القصيدة الناصع ودفاعها البليغ عن صمت الشعراء) أمام الحوادث المروعة في قناة السويس فإنه مشكور أجزل الشكر على هذه التحية الكريمة التي تعد أجمل عزاء عما نشره صديقنا الكريم الأستاذ على متولي صلاح في العدد (961) من الرسالة الغراء ناسبا إلى أنني هونت من شأن الأدب وأضعفت من قدر الكلام حينما على الإسراف في (القول) في ساعة تحمد فيها (الأفعال). . .
وقد تكون القضية التي يثيرها الأستاذ على متولي صلاح مثارا للدفاع في غير هذا المقام، لأنها اتهام لا يصح السكوت عليه، مثل اتهام الأستاذ رجب بيومي إياي بأنني (لم ألتزم القواعد العروضية في شعري)، وهى تهمة أعيذ الأديب الناقد أن يلقيها من غير برهان، أو من يرميها من غير إحاطة أو شاهد أو بيان. .
فمن قال إن العروض في بحر الرمل تلتزم؟ وإن العلة العروضية المعروفة وهي (الحذف) تلتزم في عروض هذا البحر إلا عند التصريع؟
لقد شرط علماء العروض في لزوم العلة أن تراد العلة لذاتها، فإذا لم ترد فلا لزوم هناك. ويقول العلامة الشيخ حسين المرصفي صاحب (الوسيلة الأدبية) في هذا المقام: (والعلة إذا أريدت لزمت في جميع الأبيات) ص 170. وفرق بين هذا القول وبين ما قاله المرحوم الأستاذ محمود مصطفى من أن العلة (إذا عرضت لزمت فلا يباح للشاعر أن يتخلى عنها في بقية القصيدة) فنحن أمام قولين وقف الشعراء أمامهما بالخيار منذ أن نطق بالعربية لسان، وهفا بالشعر العربي وجدان. وخاصة أن عدم لزوم العلة في هذا المقام لا يخل بقواعد العلماء، ولا يخدش الآذان باضطراب الأوزان.
وإذا كان الشاعر المرحوم أحمد شوقي بك قد ألزم العلة في عروض بحر الرمل فيما نظمه من قصائده، مثل قصيدة الكتاب التي مطلعها: أنا من بدل بالكتب الصحابا ... لم أجد لي وافيا إلا الكتابا
وفي قصيدته (الطيارون الفرنسيون) التي مطلعها:
قم سليمان بساط الريح قاما ... ملك القوم من الجو الزماما
وفي مرئيته لسعد زغلول التي مطلعها:
شيعوا الشمس ومالوا بضحاها ... وانحنى الشرق عليها فبكاها
إذا كان شوقي قد فعل ذلك في زماننا هذا فان شاعرا كبيرا من شعراء القرن الرابع وأوائل الخامس - هو مهيار الديلمي - قد فعل ما قرره العرضيون من عدم لزوم العلة في عروض بحر الرمل، ولم يقل أحد من الناس إنه لم يلتزم القواعد العروضية في شعره، ولم تشك آذان النقاد من فقدان الموسيقى في شعره العربي الرصين.
ألم يقل في قصيدته إلى الوزير أبى المعالي:
أنذرتني أم سعد أن سعدا ... دونها ينهد لي بالشر نهدا
غيرة أن تسمع الشرب تغنى ... باسمها في الشعر والإظعان تحدى
قلت: يا للحب من ظبي رخيم ... صدته فاهتجت ذؤبانا وأسدا
ما على قومك أن صار لهم ... أحد الأحرار من أجلك عبدا
فالمطلع مصرع وعروضه تامة غير محذوفة. والبيت الثاني كذلك، والثالث كذلك، والرابع عروضه تامة محذوفة. أي أن عروض الأول والثاني والثالث (فاعلاتن): وعروض الرابع (فاعلن). وهكذا يمضى الشاعر العباسي الفحل في القصيدة كلها غير ملتزم لعلة (الحذف).
لا عداك الغيث يا دار الوصال ... كل منهل العرى واهي العزالي
تختلف عليها علة (الحذف) وجودا وعدما في أبياتها التي تزيد على سبعين بيتا. فبينما يقول في (حذف):
حكمت في الحسن حتى ختمت ... سمة الرق على عنق الجمال
إذا به يقول بعد هذا مباشرة في (غير حذف):
غفلة للدهر كانت تحت ستر ... من سواد الشعر مسدول مذال
وقصيدته الميمية التي مدح بها الوزير زعيم الدين أبا الحسن والتي مطلعها:
بكر العارض تحدوه النعامي ... فسقاك الري يا دار (أماما) تختلف أبياتها كذلك بين وجود علة (الحذف) وعدمها في مواضع كثيرة من القصيدة يسهل الرجوع إليها في صفحة 328 من ديوانه (الأسطر 12، 16، 2، 3، 13)
ولم يكن معيار في الحق - حين فعل هذا كثيرا في شعره العربي المتين - لاجئا إلى ضرورة، ولا واقعا في عيب قبيح، ولا متكلفا لنبوة في الأذن، ولا جاهلا بقواعد العروض التي تبيح هذا إباحة واسعة في غير التجاء إلى مما حكة في أضعف الأقوال وأوهن الآراء.
ومن الحق أن نقول هنا، ونحن بسبيل تحقيق حول وزن الرمل - إن أغلب الشعر الذي روى في الجاهلية وصدر الإسلام من هذا البحر كان من الضرب الثاني من أضرب العروض الأولى - أعنى أن ضربه على وزن (فاعلن) لا (فاعلاتن) وبهذا كان العروض والضرب في أغلب هذا الشعر محذوفين، لأنه لما التزم (الحذف) في الضرب التزم في العروض طبعا. وذلك كما في القصائد الآتية:
قصيدة المرار بن منقذ التي يقول في مطلعها:
عجب خولة إذا تنكرني ... أم رأت خولة شيخا قد كبر
وقصيدة سويد بن أبي كاهل اليشكرى التي يقول في مطلعها:
بسطت رابعة الحبل لنا ... فوصلنا الحبل منها ما اتسع
وقصيدة المثقب العبدي التي يقول في مطلعها وفق رواية الأنباري:
لا تقولن إذا ما لم ترد ... أن تتم الوعد في شيء: نعم
وقصيدة جليلة بنت مرة أخت جساس، التي تقول فيها:
يا ابنة الأقوام إن شئت فلا ... تعجلي باللوم حتى تسألي
وقصيدة طرفة بن العبد التي يقول فيها واصفا حاله في سفره:
وبلاد زعل ظلمانها ... كالمخاض الجرب في اليوم الخدر
أما قصيدة الشاعر الجاهلي عدى زيد العبادي التي وعظ بها النعمان والتي يقول فيها:
من رآنا فليحدث نفسه ... أنه موف على قرن زوال
وصروف الدهر لا يبقى لها ... ولما به صم الجبال
رب ركب قد أناخوا عندنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
عصف الدهر بهم فانقرضوا ... وكذلك الدهر حالا بعد حال هذه القصيدة من الضرب الأولى من أضرب العروض التامة المحذوفة من بحر الرمل. والضرب هنا (غير محذوف) أي أن وزنه (فاعلاتن) كما ذهب إلى ذلك محقق الجزء الثاني من (الأغاني) في طبعة دار الكتب المصرية، على حين أن صاحب كتاب (أهدى سبيل إلى علمي الخليل) رحمه الله قد عدها من الضرب الثالث (المقصور) الذي تصير فيه (فاعلاتن) إلى (فاعلات) وتحول إلى (فاعلان).
وعجيب أمر هذه الظاهرة في بحر الرمل من حيث استعمال العرب له. فانهم أكثروا من استعماله في العروض والضرب المحذوفين - أي اللذين - دخلهما (الحذف) فصارا على وزن (فاعلن). على حين أن (مهيار الديلمي) و (أحمد شوقي) أكثرا من استعماله في الضرب التام الصحيح والعروض التامة المحذوفة، مع الفرق الذي أشرنا إليه قبلا: وهو أن مهيارا لم يلتزم العلة في العروض بينما ألتزمها شوقي.
أما الشعراء الهذليون - وقد جمع ديوان شعرهم الضخم بعناية دار الكتب المصرية - فلم ينظموا من بحر الرمل ولم يلتجئوا إلى وزنه الموسيقى الجميل للتعبير عن أحاسيسهم ومشاعرهم؛ ولعلهم تركوا (التزام العلة) في هذا البحر واختلاف الأذن فيها طلبا للعافية وإيثارا للسلامة! ولكنني - وقد نظمت قصيدتي على طلقات المدافع من هذا البحر غير ملتزم علة الحذف - فأنني أرجو أن أكون قد بلغت من رضا المرحوم المرصفي في رأيه، ومن ثقة الشاعر الكبير مهيار في شعره م أحسب الأستاذ الأديب النابه محمد رجب البيومي يرضى به، لأنه حينئذ يرضى بالحق الذي ننشده وينشده كل منصف لنفسه ولغيره.
محمد عبد الغني حسن