مجلة الرسالة/العدد 958/عن الظرفاء
→ الشخصية الرومانتيكية والحب الرومانتيكي | مجلة الرسالة - العدد 958 عن الظرفاء [[مؤلف:|]] |
رسالة المربي ← |
بتاريخ: 12 - 11 - 1951 |
محمد إمام العبد
للأستاذ محمد رجب البيومي
يدور حديث الأدباء عن إمام في خفوت وهمس، فآنت تجد من يذكر له النكتة الرائعة، أو البيت الجيد، أو الحادثة الغريبة، دون أن يتعدى ذلك في قليل أو كثير، فإذا أردت من يلم بدقائق أخباره، وينشد روائع أشعاره، ويحلل مواقفه الاجتماعية والأدبية أعوزك أن تهتدي إلى ضالتك المنشودة، وخيل إليك أن إماماً شاعر قديم نشأ منذ قرون بعيدة، وسكتت عنه المراجع التاريخية، فما جاء عليه أحد معاصريه بترجمة وافية تضمن لتاريخه البقاء، مع أن شاعرنا البائس أديب معاصر، لا يزال يوجد بين أدبائنا من سامروه وحفظوا عنه وتغدروا به، ولكن بؤسه الذي صحبه في حياته قد امتد إلى تاريخه، فكاد أن يأتي عليه. والبؤس طاغية جبار، يصاول الأحياء في عنف وطغيان، فإذا لفظوا أنفاسهم بين يديه، عدا على القبور، فمزق الأكفان وبعثر الأشلاء!
ولد إمام من عبدين رقيقين قد جلبا من السودان، وبيعا لبعض الأثرياء، فورث عنهما السواد والدمامة والبؤس، ونشأ في كنفهما يقتات بما يتساقط من فتات الموائد وبقايا الصحاف، وكأن القدر لم يشأ أن يحرمه كل شيء، فمنحه القوة في الجسم، والبلاغة في المنطق، والخفة في الروح، فكان رياضيا ممتازاً يصرع أقرانه لدى الصيال، وشاعراً مطبوعا يحتكم في القوافي والأوزان، وخطيباً تعرفه الحفلات السياسية، والأندية الاجتماعية، وسميراً يؤنس سامعيه بالملحة النادرة، والفكاهة العذبة، وقل أن يجتمع هذا كله لإنسان!!
وكان لونه الأسود موضع التندر بين زملائه وعارفيه، فقاسى من جرائه كثيراً من ألوان التهكم والاستخفاف، وهذا ليس بعجيب، فقد ابتلى كثير من الأدباء قبله ببلواه، فدافعوا عن أنفسهم أبلغ دفاع، وحفظ لنا الأدب قلائد فاتنة لنصيب وعنترة والجاحظ، يلجمون بها من ينتقصونهم في أمر لا يوجب النقيصة بل وجد فيهم من فضل السواد على البياض، ودبج في ذلك الفصول الطوال!!
وكان حافظ إبراهيم رحمه الله أقسى المتهكمين لهجة، وألذعهم سخرية، وكانت فكاهته معه تأخذ طريقها إلى الألسنة في سرعة فائقة، فما يكاد شاعر النيل يرسل تندره العابث بصاحبه، حتى يتقدم إماماً في كل مجلس يغشاه، وطالما وقعت بين الشاعرين جفوات متقطعة لما يلوكه حافظ من حديث إمام، ثم لا تلبث السحب أن تنقشع، لما بينهما من صلات جمع بينهما الشعر والبؤس والفكاهة وأكدها صفاء النفس، ونقاء الضمير، وقد اشتهر إمام بالشاعرية قبل صديقه، فكان حافظ في صباه يعرض عليه ما يفيض به خاطره من بيان، فيقوم إمام بصقله وتجويده وتزكيته، ثم مضت الأيام فإذا شاعر النيل يطير بشعره في آفاق الشرق العربي، وإمام البؤساء لا يجد من يروى قصائده غير حفنة يسيرة لا يمكن أن تلحق برواة حافظ،! وينظر العبد إلى مكانه من صاحبه، فيوسع عشاق حافظ لوماً وتسفها، كما يعلن أستاذيته له في كل ندوة يدور بها الحديث عن الشعر والشعراء، وحافظ يرد عليه بنكاته العابثة، وفكاهته الساخرة! فينتصر عليه أي انتصار!!
نظم إمام في الخمر أبياتاً رائعة صادفت هوى في الأسماع والقلوب، وأذاعتها الصحف مقرظة مادحة، وانتظر الشاعر من حافظ أن يوفيها قسطها من الإطراء والإعجاب، ولكن شاعر النيل يصيح في ندوة حافلة بالسمار والأدباء (إن مثل إمام في الشعر كمثل (بخيتة) في المطبخ، إذا هي أفلحت في تعمير (اللمبة) شاع عنها بين أهل الحي كله أنها سيدة الإماء، وكذلك يتلقى الناس أبيات إمام فيهللون له لأنه عمر (اللمبة) بنجاح)!!
والواقع أن حافظاً كان مريضاً بمعابثة إمام، فهو لا يرحمه بالسكوت عنه مهما بالغ في التودد إليه، وكان لا يقصر تندره على قصائده وأبياته، وهي أثمن ثروة يعتز بها الشاعر أي اعتزاز، بل ينتقل إلى ملبسه ومأكله وهيئته، فيوسعه سخرية وعبثا،!
لقيه ذات مرة يلبس (كرافته سوداء فصاح به: (أقف قميصك أيها العبد، فصدرك الأسود يضجر الناس!) ووجده مرة يكتب خطاباً، والمداد يتساقط من قلمه فقال (جفف عرقك يا إمام)!! وأمثال هذه المأثورات الحافظية متداولة مشهورة، وكان في طوق إمام أن يؤدب صاحبه ببأسه وصرامته، ولكنه كان في أكثر أحواله ينفق من جيبه، ويقاسمه قروشه ومليماته مما يدعو إلى التسامح والإغضاء!
ولم يكن حافظ وحده يستغل سواد إمام في تندره وسخريته، بل إن إماما نفسه قد اتخذ منه مادة دسمة للحديث عن نفسه، فهو لا يفتأ يردده في قصائده وأزجاله ويستلهمه كثيرا من المعاني الجياد، فإذا تحدث الشاعر عن بؤسه وفاقته دار حول سواده ودمامته، وإذا لفحه الحب تذكر سواده الفاحم، فأنتزع منه الخواطر المشجية. وهكذا يصبح السواد مركب النقص لديه، يشعر به في ألم ومرارة فيسلمه أزمة القوافي والأوزان
أقرأ إن شئت غزله المطبوع، تجده يدور في أكثر قصائده على ما منى به من حلوكة دلمسة، وهو في كل مقطوعة يبتكر ويجدد، فهو تارة يقع في حوار مع معشوقته البيضاء، فيسألها أن تسدل الليل البهيم على بدر الدجى الساطع، فترفض في إباء واستعلاء، وتتعجب من عبد أسود يطمع في غرام غانية عزت على الأحرار البيض، فيجيبها بما يثبت حريته واستقلاله، ويصور ذلك إذ يقول:
عذبي القلب كما شئت ولا ... تكثري اللوم فمثلي لا يلام
وأسدلي الليل على بدر الدجى ... فحديث الشوق يحلو في الظلام
همت بالوصل فقالت عجبا ... أيها الشاعر ما هذا الهيام
لم ينل منا الرضا حر وما ... رام منا سيد هذا المرام
أنت عبد والهوى أخبرني ... أن وصل العبد في الحب حرام
قلت يا هذي أنا عبد الهوى ... والهوى يحكم ما بين الأنام
وإذا ما كنت عبدا أسوداً ... فاعلمي أني فتى حر الكلام
وهو تارة يعلن أن لونه لم يكن مسوداً قبل غرامه، ولكن لهيب الشوق أحرقه في قسوة فأحاله من البياض إلى السواد، ولك أن تتصور الجسم الأبيض وقد اشتعلت فيه النار حتى تركته فحمة سوداء!! وهو تعليل طريف مستملح، ولكنه ادعاء باطل تضحك من الشاعر إذ يصيح به فيقول:
كتمت فأقصاني وبحت فلامني ... فهاج غرامي بين سري وإعلاني
وما كان لوني قبل حبك أسوداً ... ولكن لهيب الشوق أحرق جثماني
وكأن الشعر لم يتسع ببحوره الضافية لعواطفه (السوداء) فنظم كثيراً من الأزجال المرحة تحوم في مجموعها حول سواده ودمامته، وعشاق الزجل يعجبون ببراعته وإبداعه، ويشيدون بقصيدة (الزنجية الحسناء) وفيها يقول:
الناس لها مذهب في البيض ... ومذهبي حب السودان
مرجان متيم ببخيته ... وبخيته مجنونه بمرجان مين اللي قال الحب عذاب ... يا ناس وحق الله افتوني
الليل ومحبوبتي أصحاب ... إزاي عواذلي يشوفوني
ونلاحظ ونحن نطالع غزله المرح، أنه كان مشبوب العاطفة، صادق الصبوة، فهو يغمرك بفيض من الإحساس الصادق، ونحن لا ننتظر من شاعر مثله أن يثب مع الخيال إلى أجواء عالية، فقد كان في عهد يقتصر فيه الشعراء على التعبير الفطري، والإحساس الأولى؛ دون جنوح إلى التأمل والاستغراق، بل إن إماماً قد سلم مما ارتطم فيه معاصروه من الجناس المستكره، والبطاق الثقيل، واندفع إلى التعبير عن خواطره في سلاسة ونصوع، وحسبك منه أن يسكر لسانك بحلاوة اللفظ، ويطرب سمعك بعذوبة النغم، إذ يقول
أرى لوعة بين الجوانح لا تهدا ... أهذا الذي أسماه أهل الهوى وجدا
وما ذلك الواهي الخفوق بجانبي ... أهذا هو القلب الذي بحفظ العهدا
أو يقول:
كان هذا الغرام يجري ورائي ... في شبابي فصار يجري أمامي
إنما الحب كهرباء عيون ... لعيون تسري إلى الأجسام
ما خضعنا لدهرنا وهو ليث ... وخضعنا لنظرة الآرام
أو يقول:
أقام الهوى عشرين حولاً بمهجتي ... وسار، فمن أوحى له برجوع
كأن الهوى ما أكرمته ربوعها ... وصادف إكراماً له بربوعي
ورغم هذه المقطوعات الجياشة بالحنين إلى المرأة، المتشوقة إلى ظلالها الوارفة، وروضها البهيج، قد قضى الشاعر حياته عزباً لم يتزوج، ولسنا نحار في تعليل ذلك؛ فتكاليف الزواج مرهقة لا يحتملها شاعر معدم، تتلوى أمعاؤه في أكثر أوقاته جوعا وسغبا، ويتحرق إلى مسكن ضئيل يقيه برد الشتاء وحر الهجير، وقد كان الأدب مترددا على الأندية والمقاهي دون أن يجد من يدفع به إلى باب يرتزق منه، وكانت الصحف السياسية والأدبية من القلة بمنزلة لا تهيئ لها النهوض بحملة الأقلام، وبخاصة إذا كانوا من طراز إمام ممن يتهالكون على الشراب تهالكاً يستنفد جميع ما لديهم من المال! وتلك حالة جديرة بالرثاء والإشفاق!! وقد نظر إمام إلى الزواج ككارثة مروعة تؤجج اللوعة والحيرة، وصور للقراء ما يعقبه من تبعات ومصاعب، ونحن لا نؤيده في دعواه، ولكننا نعرض جانبا من أبياته، ليضيء ما يغشاه من اضطراب وقلق، وإن كنا نرجع باللائمة إلى سلوكه المضطرب، وتربيته العوجاء، وزمنه الجحود، اسمعه يقول:
أيها العاقل المهذب مهلاً ... هل رأيت الزواج في الدهر سهلا
كل عام يزاحم الطفل طفل ... ليتني عشت طول عمري طفلا
ذاك يحبو، وذاك يمشي، وهذي ... فوق صدر، وتلك تنشد بعلا
ضاق صدري من الزواج فمن لي ... بحياة الخصي قولا وفعلا
كان هذا الشقي جسما فلما ... أنهكته الهموم أصبح ظلا
وهكذا يئس الشاعر من الزواج فلم يطرق بابه، وقد ادعى في مقطوعة أخرى أن لديه مانعاً يحول دون زفافه، فهو كالليل الحالك، وكل حسناء شمس منيرة، واجتماع الليل والشمس من ضروب المحال، وهذا ادعاء خطابي، فلكل ساقطة لاقطة كما يقولون
وتسألني عما نظمه إمام البؤساء مصوراً فاقته وعدمه؟ والحق أنه أسهب في تبرمه وتوجعه لحالته، وكان يحز في كبده أن يجوع وتأكل الماشية، ويعرى وتكتسي الأضرحة، ولولا أنه كان يسري عن نفسه بمجالس السمر ومطارح الفكاهة، لاحتراق بما يشتمل في صدره من جحيم، وقد كان ككل أديب بائس - يظن لديه من الحصافة والمرونة ما يؤهل له العيش الرغد، والنعيم الهنيء فإذا صدمه الواقع المرير بالبؤس والمتربة ثار على الوضع الجائر، وندب الحظ العاثر، وتطلب المكانة التي يصورها له خياله، وإنها لبعيدة عنه أشد ابتعاد!! وقد كان من القسوة الغليظة أن يلقبه الناس بالعبد وهو الأديب الحر العيوف، وماذا يصنع في لقب ورثه عن أبيه، ولازمه كالظل فما ينفك عنه أبد الحياة، أنه ليقابله بالعتب المرير، ويصيح كالساخر العابث:
نسبوني إلى العبد مجازاً ... بعد فضلي واستشهدوا بسوادي
ضاع قدري فقمت أندب حظي ... فسوادي على ثوب حداد
وإذا كان السواد ثوب حداد على حظه الضائع، فإنه في موضع آخر حداد على قلمه الكاسد!! هذا الذي لا يجر نفعا لصاحبه، وهو أحرى أن يملأ يديه بالذهب النضار، لو عاش بين قوم يقدرون فضله، ويحترمون مواهبه، وقد تمنى الشاعر أن يكون قلمه سهما مسدداً إلى فؤاده، فيريحه مما يكابد من عناء!! وتلك أمنية ترمض الجوانح، وتدمي الجفون، ولكنها في رأيه سبيل الخلاص، ومرفأ النجاة، ها هو ذا يقول:
لبست لأجله ثوب الحداد ... ودرت مع الزمان بغير زاد
أمد يدي إلى قلمي افتقاراً ... فيدفعني إلى تلك الأيادي
فيا ليت اليراع يصير سهماً ... كما أبغي ويكتب في فؤادي
سئمت من الحياة بلا حياة ... وضقت من الرشاد بلا رشاد
وكيف يهيم بالدنيا أديب ... تسربل بالسواد على السواد
إذا أكل الطعام فمن تراب ... وإن شرب المياه فمن مداد
كأن الدهر يغضبه صلاحي ... فأفقرني ليرضيه فسادي
وأوجع من هذا أن يقول شاكياً فاقته نادبا مجتمعه الجائر
خلقت بين أناس لا خلاق لهم ... فباعني الفضل في الدنيا بلا ثمن
لولا بقية دين أمسكت خلقي ... لقلت إن إله العرش لم يرني
أو يقول:
وما قتلتني الحادثات وإنما ... حياة الفتى في غير موطنه قتل
وما أبقت الدنيا لنا من جسومنا ... على بأسنا ما يستقيم به الظل
وكأن الحظ قد سد أذنيه عن قلم إمام فلم يصغ لحظة واحدة، إلى صرخاته الفاجعة، وما زال يتقلب على أشواك الحرمان حتى دهمته العلة بعد خمسين عاماً من عمره الجديب، وأحس أنه قريب من الموت فلم يأسف من الحياة على شيء غير يراعه العجيب، بصريره فطالما نفث بمداده السحر، وشنف الأسماع، فطفق يودعه في حرقة وتلهف، وينشده الرثاء الباكي الذي ناح به على نفسه، وهو يكابد العلة القاتلة، ويصاول الداء الفتاك، ثم سبحت روحه إلى آفاقها الرحيبة، بعد أن ردد هذه الزفرات الأخيرة
يراعي، لقد حان الفراق وربما ... أراك على العهد المقدس باقيا
لبست عليك الليل حزناً وليتني ... لبست على نفسي الدجنة ثانيا
مضت بيميني الحادثات جهالة ... فلما رأت صبري مضت بشماليا
وكيف يطيب العيش والدهر مدبر ... وفي القلب ما يفري الحسام اليمانيا رمل الإسكندرية
محمد رجب البيومي