مجلة الرسالة/العدد 958/الشخصية الرومانتيكية والحب الرومانتيكي
→ رحلة أبي الطيب المتنبي من مصر إلى الكوفة | مجلة الرسالة - العدد 958 الشخصية الرومانتيكية والحب الرومانتيكي [[مؤلف:|]] |
عن الظرفاء ← |
بتاريخ: 12 - 11 - 1951 |
حول (رفائيل) للامرتين
للأستاذ محمد عبد الحليم محمود
كان القرن الثامن عشر في أوربا عامة، وفي فرنسا خاصة، عصر (العقل). . . عصر التفكير المنظم المنطقي سواء في العلوم وفي الآداب فلا محل في كتابات الأدباء ورسائل الفلاسفة للعواطف الجامحة والاحساسات الغامضة والمشاعر المختلجة والصبوات المضطربة التي تزخر بها النفس الإنسانية، والتي لا تخضع لمنطق ما. .
كل شيء في هذا العصر حاول المفكرون تقنينه وفلسفته لذلك ازدهرت فنون الأدب التي تحتاج قبل كل شيء إلى (العقل). . فنرى (القصة الفلسفية)، مثلاً، قد بلغت من الكمال حداً بعيداً على يد فولتير ومونتيسكيو وليساج وغيرهم وهذا الفن من القصص لا يحتاج إلى الانفعالات النفسية يصفها ويحللها، بل هو يعتمد قبل كل شيء على (النقد): نقد المجتمع المعاصر بعيوبه ومهازلها، ونقد الحالة الأدبية والدينية والسياسية للبلاد، في أسلوب من السخرية اللاذعة والتهكم الفلسفي الشيق وبسبب هذا الميل إلى التفلسف في القصة وقع المؤلفون، وإن كانوا من أئمة الكتاب، في شيء من الجفاء والإملال، وأبعدوا عن حقيقة الإنسان الحي ونفسه المضطربة العامرة بالمشاعر. .
فقصة (كانديد) للأديب الفيلسوف فولتيرن، وهي تعتبر خير قصة ألفت في القرن الثامن عشر على الإطلاق، لا يجد فيها القارئ سوى شخصيات فلسفية خيالية تمثل أفكاراً وتعبر عن مذاهب، وليس فيها من (الإنسانية) إلا الشيء القليل؛ فهي دمى وعرائس يحركها المؤلف لغرض في نفسه، غير حاسب حساب النفس البشرية بما تنطوي عليه من أسرار ومتناقضات وكان لا بد من رد فعل قوي لهذا النوع من (عبادة العقل) التي سيطرت على أغلب إنتاج القرن الثامن عشر. . . فالإنسان، لأنه إنسان، ليس عقلاً كله، ولا يستطيع أن يخضع القيم الذاتية لميزان المنطق وحساب الفكر الفلسفي المجرد وجاء رد الفعل في صورة المذهب الرومانتيكي
وكما غلا فلاسفة القرن الثامن عشر في تقدير العقل والمنطق والتفكير الفلسفي. . غلا الرومانتيكيون، أو إذا شئت فسمهم (الابتداعيين) في تقدير (الذاتية) والعاطفية، وفي تمجيد انفعالات النفس البشرية وأسرارها وسيطر هذا المذهب على سائر فنون الأدب زمنا طويلا ويهمنا هنا أن نتبين أثر الرومانتيكية في القصة فقد نشأت فنون جديدة من القصص أبعدت كل البعد عن التحليل الفلسفي الجاف، وراحت تبحث في أعماق الإنسان عن العواطف والاحساسات والمشاعر في شتى صورها واحتل (الحب) مكان الصدارة من هذه القصص لأنه أقوى وأجمل عاطفة في الإنسان واحتلت شخصية (العاشق العذري) المكان الأول من شخصيات القصة وإذا أردنا أن نشهد لهذا الحب الرومانتيكي، وأن نجتلي طلعة العاشق الرومانتيكي، فخير قصة ننظر فيها هي، في رأيي، قصة (رفائيل)، للشاعر لامارتين، التي ترجمها أستاذنا الكبير الزيات بك إلى العربية فهذه القصة تمثل أصدق تمثيل المذهب الرومانتيكي في الأدب. بطلها صورة دقيقة لما كان يرتسم في أذهان القراء والكتاب على السواء، إبان ذلك العصر، من ملامح العاشق الكامل. . والحب فيها هو مثال الحب العذري الصوفي الكامل الذي رأى فيه الرومانتيكيون مثلهم الأعلى. .
لذلك رأيتني، عندما أردت رسم الشخصية الرومنتيكية والحب الرومانتيكي مدفوعاً إلى اختيار رفائيل وحبه لجوليا في رواية ل مارتين الخالدة
وقد اعتمدت كثيراً، إلى جانب الأصل الفرنسي، على الترجمة العربية
رفائيل فتى من أسرة ريفية كريمة الأصل، وأن كانت فقيرة، خبت فيه وقدة القلب وهو في شرخ الشباب، وفقد ثقته بالناس، وملت نفسه عشرتهم وضاع أمله في السعادة، فراح يبحث عن العزلة في قرية آمنة، على شاطئ بحيرة جميلة، بين أحضان جبل شامخ. . وإذا به يلاقي هناك فتاة تحيي في نفسه موات الأمل، وتعيد إلى قلبه حرارة العاطفة، وتجعله يشعر من جديد بجمال الحياة
العزلة النفسية:
إن مثل هذه الشخصية تميل إلى التأمل في نفسها، وفي الطبيعة، وفي الوجود كله، فهي تحتاج من أجل ذلك إلى الهدوء والسكينة. ثم إن رفائيل ليست له أطماع أو أطماح في هذه الدنيا، بل هو يزدري المجتمع ويحتقر الجاه، ويشعر بقيمة نفسه وبسمو ذاته التي لا ترضى إلا بالعزلة النفسية التي تقضى على كل صلة بينه وبين المجتمع، لم تأت عليها عزلته المادية في قريته النائية بمقاطعة سفوا. .
دور الطبيعة في الشخصية:
رفائيل يؤمن بأن الطبيعة يتصل سلكها بحبات القلب ومشاعره، فهي جزء من النفس والنفس جزء منها، وإن ما يجري في عناصر الطبيعة من الحياة هو نفسه ما يجري في عروق الإنسان منها، وهو لذلك يكتئب حينما تتلبد السماء بالغيوم؛ وينشرح قلبه عندما تشرق الشمس، وتهدأ العواصف: وتعود السكينة إلى الطبيعة فتعود أيضاًإلى نفسه. . . وأحب رياضة إليه التجول وسط الحقول، أو التنقل على صفحة البحيرة، أو صعود المرتفعات، أو اجتياز الإحراج؛ والطبيعة عنده، فوق كونها صديقة الإنسان الوفية يبثها آلامه وأفراحه، هي أجل مظهر من مظاهر قدرة الإله
رجل خير:
أنه يحب الخير لغيره، ويعمل جهده على مساعدة المحتاجين: فهو في وطنه يطعم الفقراء، ويعلم الصبيان، ويعين الفلاحين في أعمالهم. وهو عطوف حنون، يميل إلى الضعفاء ويحب كل كائن معذب شقي: وهو لذلك قد عطف على جارته في الفندق عندما علم أنها مريضة متألمة؛ وفي أيامه الأخيرة كان جل همه توفير الطعام لأسراب من طيور السند قد اتخذت منزله ملجأ وحمى
حساسية مرهفة:
هو رجل رقيق الطبع، شاعري المزاج، مثالي النزعة، قد تجرد من الأطماع والأغراض. فهو لذلك يمتاز بحساسية مرهفة، أو قل: إن هذه الحساسية المرهفة هي السبب في رقته وشاعريته ومثاليته وتجرده من الأطماع والأغراض، وهذا الشعور المرهف يجعله ينفعل لكل ظواهر الجمال في الدنيا: جمال الطبيعة وجمال الحب وجمال الآداب والفنون،، ثم بجمال القدرة الإلهية فوق كل جمال. .
أجل! فهو يؤمن بوجود إله خالق خير يهيمن على هذا الكون ويدبر أموره. وهو دائماً يذكر اللًه ويذكر السماء عند ذكر الحب والحبيبة، فهو يمزج بين الحب والدين، أو هو يجعل عبادة الجمال نوع من عبادة اللًه، لأن اللًه هو الجمال المطلق
دور الحب في الشخصية: كان قبل أن يحب يؤمن بان الحياة بما فيها من شقاء وملل لا تستحق أن يحياها إنسان. فلما أحب، وأيقظ الحب شعوره الراكد، وحرك حسه الجامد، ورفعه إلى أعلى مدارج السعادة الروحية، أصبح يرى أن الحياة، لفرط ما فيها من لذة سامية، يخشى عليها أن يعكر صفوها حدث من الحدثان في عالم الغيب، لذلك يريد أن يموت في أوج سعادته، قبل أن يفاجئه الغد المشئوم، ويفحمه في حبه. . .
رفائيل ولا مارتين:
الرومانتيكية تبحث قبل كل شيء عن (الذاتية). فإذا كتب كاتب فإنما يعبر عن دفين أسراره، وإذا رسم فنان فهو يعبر عن خلجات نفسه واضطرابات حسه. . . ولا مارتين، عندما صور بطل قصته، فقد صور فيه نفسه: نفسه التي تنزع إلى المثالية في العاطفة والزهد في الحياة والتصوف في العبادة. . . وعشق كل ما هو جميل في الكون
السأم، والتألم الهادئ:
الصفة الغالبة على كل شخصية رومانتيكية هي: السأم الفطري الذي لا سبب مباشر له، والتألم الهادئ الرقيق. . . ورفائيل مثلاً في مقتبل العمر وشرخ الصبا لم يصبه من الصدمات ما يبرر عزوفه عن العمل، ويأسه من كل شيء وابتعاده عن الناس في شيء من القسوة على نفسه والى أقرانه. . . ولكن هي الطبيعة الرومانتيكية تأبى إلا أن يكون صاحبها إنسانا يمتاز بالحزن الدائم والتشاؤم وفقدان كل أمل. . .
وليس الحزن الرومانتيكي بالحزن الصارخ القبيح، بل هو ضرب من الألم الوجداني الهادئ. . . ألم شاعري رقيق، يجلب العطف ويمسح على الشخصية صبغة مميزة جميلة. . . وأما الحب الذي ربط بين قلب رفائيل وقلب صاحبته (جوليا) التي هي صورة أخرى من الشخصية الرومانتيكية الممثلة في رفائيل، فقد كان حبا مثالياً اقرب إلى ما يسميه الإغريق بالحب الأفلاطوني، والعرب بالحب العذري
أهم صفات هذا الحب الرومانتيكي:
التفاني: هو مريض النفس، سئم الحياة ومل المجتمع وعاش وحيدا في دنياه. . . وهي مريضة الجسد تحب العزلة وتنطوي على نفسها في يأس ومرارة. . . (كلاهما طريد هم ووحيد غربة ونضو سقام وأليف وحشة). . . فأحبها لأنها تشبهه إلى حد بعيد. . . بل هو كان يحب فيها نفسه. . . وقد أصبحا فيما بعد، لفرط حبهما كأنهما شخص واحد: (وإنما أنا ظل بشخصك). . . لقد رآها فاحتواها في نفسه، ولم يعد في مقدوره أن ينتزعها من أعماقه، وهما إذ يلتقيان ليسا في حاجة إلى الكلام، لأن كليهما يفهم ما يدور بنفس الآخر، بل لأن روح كل منهما قد حل في روح الأخر: (فأتحول إليها، وتتحول إلي، حتى لا يستطيع الله نفسه. . . أن يفصل ما مزج الحب وأحالته معجزة الهوى)
العطف والاعتراف بالجميل:
لقد بدأ حب الفتى لصاحبته بنوع من الرثاء لحالها والتألم لمرضها. وقد لفته أول ما لفته إليها هزالها البادي وشحوبها، فأدركته لها رقة ورحمة وهي بدأت تحبه عندما شعرت بعطفه عليها، إذ كانت (محرومة نسب القلب وصلة الروح في ربيع شبابها) ثم أفاقت فجأة لتجد إلى جانبها عناية وإخلاصاً وحناناً، فلم تتمالك أن حركت لسانها بهذه الجملة المؤثرة. (لك الحمد يا رب لقد رزقتني أخاً). وقد زاد من حبه لها أنها أيقظت فيه الشعور بالحياة، وجلت لعينيه مسارح الخلود. . . نظرة واحدة منها كفلت له تجديد كيانه، وتغيير وجدانه، وبعثه من رقود، وإمتاعه بأيام سعادة لا مدى لها
العبادة واللانهائية:
المرأة التي يحبها في نظرة إله، أو على الأصح فالإله يتمثل فيها. لذلك فهو يقرن ذكرها بذكر اللًه، ويهم بالركوع أمامها إذا لقيها، ويصلي لها في حرارة وإيمان: (اتحد اللًه وهي في نفسي اتحاداً تاماً). . . (فكأن الهوى والعبادة يمتزجان فيها بمقدار واحد). . . لذلك فهو يقدس حبها ويؤمن بألوهيته، ويتعبد لتلك المرأة التي (جلت بحنانها عن أن تكون إلها، وسمت بقداستها عن أن تكون امرأة)
وما دامت الحبيبة شبه إله فالحب لا حد له: أنه حب أشبه (بسر بعيد الغور شاع في جوانب النفس بالإحساس لا بالكلام فهو نور من غير نار، وسكر من غير خمار، وهو كمال لا يقدر ولا يفصل، ووحدة لا تجزأ ولا تحلل، يفيض على النفس نشوة لا تجد، ويجلو للقلب عن أسمى المعاني، ويكشف للبصيرة عن وجود الله ذاته. . . والعاشقان يفهمان من الحب: (الخلود تستوعبه دقيقة، واللانهاية تستقصيها إحساسه رقيقة)، ثم هما يؤمنان بخلود النفس البشرية ولا نهائيتها لأنهما يشعران عند اللقاء بذلك الخلود وبتلك اللانهائية. . .
الطهارة:
مثل هذا الحب المقدس لا يمكن أن يكون حبا شهوانياً، إنما هو عشق روحين واتصال قلبين، ورباط بين شخصين مثاليين. إن الفتى لا يحب في صاحبته الجسد الزائل والجمال الفاني، لكنه يحب مثالاً في نفسه يتعشقه، وصورة عليا يصبو إليها وجدانه. . . أنه يحب فيها (طيفا من طيوف الغيب)، ويبحث لديها عن ذلك الشعور بالراحة (الذي يجده من ظفر بحاجة طالما نشدها فما وجدها، ويدركه القلب العابد القانت. . . حتى إذا أدركه علق به علوق الحديد بالمغناطيس، وفنى فيه فناء النفس في الهواء). وهو سواء على القرب منها والمشهد، أو على البعد والمغيب، يراها في نفسه، وما عداها لا يشغله ولا يعنيه. . والحب في نفسه تطهير وتصفية: أنه شعلة اللهب تحرق وتلذع الحس، ولكنها تضيء كوامن الوجدان وتنير للقلب عالم السماء. . . وقد هفا حس الفتى الحيواني في ساعة من ساعات النشوة فوق مياه البحيرة إلى جمال صاحبته الجسدي، ولكنها سرعان ما ردته، بإخلاصها وطهارة نياتها وتفانيها في حبه، إلى صوابه الضائع؛ قالت: (ألا تعتقد أن حبنا يكون أمتع وأرفع وأبقى وأنقى مادام مصونا في خدر العفاف، نازلا في مناحي الخلود، حيث لا يتقلب الحدثان ولا يعدو الموت؟؛)
الحب والحياة:
كان الحب عند بطلي الرواية مثيراً لظاهرتين متناقضتين في نفسيهما: الأولى بعث الحياة في الجسد، والثانية إثارة الرغبة في الموت في أعماق القلوب
فالفتاة عندما أحبت انتعشت نفسها وخفت أمراضها وشعرت بالقوة والحيوية تسريان في شرايينها، وإن كان ذلك إلى حين. والفتى أحس أن العبقرية إنما يستمدها الإنسان من الحب، ووجد في حبيبته (قصيدة إلهية رائعة) يستمد منها الإلهام، بل يستمد منها الحياة. . . ولكن الحب قد بلغ بهما منتهى ما تصبو إليه الروح من السعادة. . . وهما يخشيان بعد ذلك أن يوقظهما من حلمهما الجميل ما يحيط بهما من واقع أليم. . . وهما لذلك يصبوان إلى الموت قبل أن تحيق بهما الكوارث، ولكي يظلا متحدين اتحاداً روحيا تاماً في الآخرة كما كانا في الدنيا
الطبيعة:
الطبيعة تلعب دوراً خطيراً في مسارح الحب الرومانتيكي، فهي صديقة كل عاشق يبوح لها بعواطفه، ويبثها أشجانه، ويسر إليها بنحواه، ولا يجد الراحة والسلوى إلا بين أحضانها الزاهرة
محمد عبد الحليم محمود