مجلة الرسالة/العدد 958/رحلة أبي الطيب المتنبي من مصر إلى الكوفة
→ الثورة المصرية | مجلة الرسالة - العدد 958 رحلة أبي الطيب المتنبي من مصر إلى الكوفة [[مؤلف:|]] |
الشخصية الرومانتيكية والحب الرومانتيكي ← |
بتاريخ: 12 - 11 - 1951 |
للأستاذ أحمد رمزي بك
القسم الثاني
تعد رحلة أبي الطيب المتنبي من مصر إلى الكوفة من أروع الرحلات في القرن الرابع الهجري نظرا لما تضمنته من أسماء البلاد والمواقع. وقد كان أبو الطيب حريصا في شعره على أن يسجل الكثير مما رآه في هذه الرحلة، فقرن الأسماء بخياله الشعري، ووصل إلى درجة رائعة في القصيدة التي وضعها حينما دخل الكوفة والتي جاء فيها:
فلما أنخنا ركزنا الرماح ... فوق مكارمنا والعلى
وبتنا نقبل أسيافنا ... ونمسحها من دماء العدى
لتعلم مصر ومن بالعراق ... ومن بالعواصم أني الفتى
وهي أبيات قرأت ترجمتها بالفرنسية شعرا فوجدتها لم تفقد من قوة المتنبي شيئا، بل ظهرت شاعريته بلسان الفرنسيين
ولقد خرج أبو الطيب ليلة عيد النحر بعد أن تظاهر بالاستعداد للتضحية وكان قد اختار لنفسه أن يعلن عن عزمه بقصيدة مدح لزعيم من زعماء قيس النازلة في تلك الأيام بجوار بلبيس، وبالاطلاع على ديوانه نقرأ هذه القصيدة ونعلم شيئين:
الأول: كيف انتشرت قيس في إقليم الحوف الشرقي وكيف كانت لها السيادة في إقليم الشرقية
والمتتبع لتاريخ عروبة مصر يجد أن قبائل لخم وجذام وعاملة وذبيان لها منازل بالأراضي المصرية. ويرى كيف جاء بنو جزى وهم بطن من جزام، وبنو راشدة وهم بطن من لخم، وكيف انحدروا إلى أماكن عرفت بهم بين العريش ومصر، وكيف نزل من نزل منهم بالجزائر من أرض الحوف وهي الرمال البيضاء التي لم تكن تغمرها مياه الفيضان، وكيف هبط قوم منهم بالمناطق بين صان الحجر والزنكلوم وهي التي يطلق عليها اليوم (الزنكلون) فهذه المناطق أصلية في عروبتها، ثابتة في أرومتها؛ فإذا ذكر أبو الطيب قيس عيلان في بلبيس فهو يقصد بمديحه أن يلفت أنظار كافور إلى أن طريقه سيكون إلى الشمال مارا بمنازل عرب الحوف، فيأخذ كافور عليه الطرق والمسالك، ويقيم عليه الحرس ينقلون من أخباره
ولكن أبا الطيب كان قد اختار طريقا آخر؛ فبدلا من أن يرحل إلى الدلتا نجد أنه قد أخفى السلاح وروايا الماء في الرمال وركب أسرع الهجن البيجاوية وهبط من الفسطاط جنوبا إلى خليج السويس ثم اتجه من هناك إلى الجنوب مبتعدا عن طريق الحاج، فوجد أمامه واديا يسميه المعاصرون (وادي سدر) واسمه الصحيح (وادي الصدر) فإذا قطعه اتخذ سبيله إلى قلعة (نخل) القائمة للآن في شبه جزيرة سينا، قطع هذا على ظهور الهجن في مرحلة واحدة لا تتعدى يومين
فبينما كافور يستعد للاحتفال بعيد الأضحى إذا به يفاجأ بهرب المتنبي فيقيم الدنيا ويقعدها ويسأل الدلاة وقاصي الأثر، فلا جواب لديهم. .
وكان كافور يحكم مصر ويحكم الجزء الجنوبي من بلاد الشام ويسيطر على طرق المواصلات في سيناء، وله الحراس في كل مكان والعيون تنقل إليه أخبار الناس، فكيف فر أبو الطيب من قبضته؟ إن هذه الرحلة جديرة بالبحث وقد حاولت منذ سنتين أن أعرف مكان (نجع الطير) وهو نصف المرحلة الأولى من رحلته. ورجعت إلى كافة المراجع التي بين أيدينا فلم أوفق
وتتبعت هجرة بني إسرائيل من مصر لعلي أجد فيها ما يقنعني بتحقيق بعض الأسماء الواردة بين مصر وبلدة نخل في وسط سيناء، ومع صبري وتحملي الطويل لم يسعفني كل ذلك لنتيجة حاسمة ترضي رغبتي
ويصف أبو الطيب هذه الفترة من حياته بقوله عن الهجن البيجاوية:
ضربت بها التيه ضرب القمار ... إما لهذا وإما لذا
فمرت بنخل وفي ركبها ... عن العالمين وعنه غنى
ولهذه القصيدة - كما قلت - رنين موسيقي واعتداد بالنفس وسرور بالتغلب على مصاعب الأرض ومتاعب الطبيعة لا يمكن أن ينسى
أرددها ثم أنظر توارد الخواطر بين أبي الطيب ويوليوس قيصر في الشطر الأول: فهو يشبه أقدامه في قطع الفيافي في هذه السرعة في قوله:
ضربت بها التيه ضرب القمار: والتيه هو أرض سيناء والقمار هو مجازفة أمام الحياة الحرة وأمام الوقوع بين براثن كافور ومعناه الموت وضياع الأماني
ويذكرني هذا المعنى بما أورده يوليوس قيصر في كتابه عن حروب روما في بلاد الغاليين، حينما اشتبك في قتال معهم إذ قال أنه ألقى بآماله بين يدي الأقدار كما يلقي المقامر بالزهر بين يديه، فذهب قوله في اللاتينية مذهب الأمثال. فهل أطلع أبو الطيب على هذا؟ أو نقل إليه حديث قيصر؟ أو هو مجرد توارد خواطر
ومن المدهش أن قيام إسرائيل بين مصر والبلاد العربية قد أثار طائفة من المشاكل: أولها - كيف الوصول إلى فلسطين وأراضي الشام والحجاز؟
ولقد رأينا طول الحروب الصليبية بعض هذه المشاكل، وبعد المتنبي بقرنين من الزمن وثلاث وثلاثين سنه رأى صلاح الدين نفسه في الوقت الذي وقفه المتنبي. . كيف يصل إلى أرض الشام والصليبيون يقطعون الطريق ويحولون دون وصوله؟ لقد كان أبو الطيب يخشى كافورا وعيونه وحراسه، وكان صلاح الدين يخشى الإفرنج ومعاقلهم وحصونهم
والغريب أن صلاح الدين اختار أربعمائة من أشجع فرسان الأسدية من التركمان والأكراد وخيم في شمال القاهرة في بركة الحاج حيث تقوم الآن بلدة المرج. . واتجه إلى بلبيس، كما كتب أبو الطيب إلى زعيم بلبيس فلفت الأنظار إلى حركته في الشمال، ثم في ليلة واحدة قطع المرحلة من بلبيس إلى عجرود ونزل جنوبا بعيدا عن طريق الحاج واخترق وادي الصدر الذي أشرت إليه وعرف كيف يسلك (إلى نخل) ولم يكن صلاح الدين فارا فرار المتنبي. . ولذلك تنبه للمواقع فأنشأ على الرابية التي تطل على وادي سدر (الصدر) قلعة لا تزال آثارها قائمة إلى اليوم، وربط الطرق والمسالك بسلسلة من المعاقل اتقاء هجمات الإفرنج وتسللهم إلى هذه المناطق الحساسة من البلاد العربية
ألا ترى أن رحلة أبى الطيب لم نكن من الأمور التي تسير على غير هدى، بل كانت موضع درس وعناية، فلا تندهش إذن حينما تقرأ في خزانة الأدب للبغدادي صفحة 145 جزء ثان عن المتنبي لما كان في ضيافة عضد الدولة (وكان أبو جعفر وزير بهاء الدولة مأمورا بالاختلاف إلى المتنبي وحفظ المنازل والمناهل من مصر إلى الكوفة وتعرفها منه فقال: كنت حاضره وكان ابنه يلتمس أجرة الغسال فأخذ المتنبي إليه النظر بتحديق فقال: ما للصعلوك والغسال؟ يحتاج الصعلوك إلى أن يعمل بيده ثلاثة أشياء: يطبخ قدرة وينعل فرسه ويغسل ثيابه، ثم ملأ يده قطيعات بلغت درهمين أو ثلاثة)
ويحدثنا الديوان بأن أبا جعفر أخذ شهرا من الزمن يحادث المتنبي في الطرق والمسالك ليأخذ عنه كيف خرج من الفسطاط وكيف وصل الكوفة في ربيع الأول سنة 531
وبينما أقلب كتاباً عن المتنبي بالفرنسية علمت أن مستشرقاً ألمانياً كرس جزءاً من حياته لدراسة رحلة المتنبي، وأنا الذي اقتطعت القليل من وقتي لكي أتعرف على بعض هذه الرحلة أجد غيري سبقني إليها فلم أقنط وقلت: قبل اطلاعي على ما كتب فلأخرجها كما تشاء نفسي:
وأمست تخيرنا بالنقاب ... وادي المياه ووادي القرى
للكلام بقية
أحمد رمزي