الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 949/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 949/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 949
الأدب والفن في أسبوع
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 10 - 09 - 1951


للأستاذ عباس خضر

(الريفبيرا) المصرية:

ما زالت أذكر ما كتبته إلى صديقي الأستاذ سيد قطب حين كان بأمريكا، في رسالة خاصة، إذ قال ما معناه: إن بلادنا أحفل بلاد الدنيا بالخير والقوة والجمال. وكل ما في الأمر أن الطبيعة والإنسان فيهما مهملان. وكنت أجادله في رسائلنا الخاصة التي نشرت طرفا منها في هذا الباب من (الرسالة)، ساخطا على ما أراه في البلاد من قبح واضطراب، وكان يجيبني بالمشاركة في هذا السخط، ولكنه يردني إلى تلك الحقيقة التي زاد إيمانه بها سفره إلى هنالك. .

ذكرت ذلك وأنا على هذا الشاطئ الذي أبدعت صنعه يد الله وقصرت بجانبه يد الإنسان. . هنا شاطئ البحر الأبيض المتوسط يمتد على الساحل المصري بجوار بلطيم نحو ثلاثين كيلومترا، حيث يتآخى الرمل والماء، ويتعاونان على تهيئة مصيف لعله يصلح أن يكون أجمل مصيف في العالم.

الرمل منبسط ممهد على طول الشاطئ تقف الكثبان على حراسته من بعيد، ويفد إليه الموج رفيقا فيثب على أديمه الداني يداعبه، كما يثب الكلب الودود على صاحبه يلاعبه، ويرتد عنه تاركا صفحة بيضاء مسواة كأرضية رخامية أبدعها يد صناع. وكأن البحر يريد أن يعلم الإنسان كيف يجمل هذه البقعة، ولكن الإنسان يأبى أن يتعلم!

وكثيرا ما يطيب للبحر هنا أن يغفو، فتراه كسلان مخدرا، كأنه (مسطول!) مما يلقى إليه من (حشيش) الشآم. .! فأنفاسه خافته، وحركته بطيئة وانية، وصوته ضحكة مجرجرة منغمة. . لست أدرى أهي مثل ضحك سائر الحشاشين لا سبب لها ولا باعث إلا مجرد الرغبة في الضحك. . أم هي ضحكة استهزاء وسخرية من هذا الجندي الواحد الذي تزعم الحكومة أنه يحرس سبعة كيلومترات على الشاطئ من أن ترسو عنده إحدى سفن التهريب بالليل أو بالنهار! واستيقظ البحر مرة عندما لمح ذلك الجندي إحدى تلك السفن تقترب في الظلام من الشاطئ، فأطلق عليها بندقيته المتواضعة، فأجابته السفينة بمدفع متكبر أرداه. . استيقظ البحر فعلا صوته، لا أدري هل زمجر غاضبا من المهاجمين بالسموم والنار، قهقه ساخرا من قلة الحراس ووهن الحراسة.

وأدع للشعراء مرأى شروق الشمس ومشهد غروبها، عساهم يصوغون من منظر الغروب قرصا ذهبيا فيودعونه المساء في الغرب، ثم يرتقبون بزوغه على الماء من الشرق وهو يحمل على السحب بأشعته النافذة حتى يدميها. . فتبدو زرقتها مختلطة بالدم في لون بهيج!

أدع ذلك وما إليه لإخواننا الشعراء يهيمون فيه، لأعرج على هذه الأعشاش القائمة الآهلة برواد البحر ومنتجعي السكون وطلاب الجمام في هذا المكان. وهنا نرى مدى التقصير في حق ذلك الجمال! بل مدى الغفلة عن الانتفاع بطبيعة ساحلنا الذي يفتح لنا ذراعيه فنعرض عنه وننأى.

أول ما يتجشمه القاصد إلى المصيف عناء السفر ووعورة الطريق، فإن القادم من القاهرة عن طريق المواصلات العامة، يكاد ينفق يومه كله حتى يبلغ المصيف. تتعاوره وسائل النقل الحديثة والمتوسطة والقديمة، فإذا تسامحنا واعتبرنا هذه القطر التي تستعملها السكة الحديدية من الوسائل الحديثة. . فبعدها شيء يسمونه (قطار الدلتا) وهو يسابق السلحفاة في البطء. . فيسبقها بكثرة العطب! وهذا من الوسائل المتوسطة لأنه هو الذي قيل فيه عند اختراع القاطرة: إنه يزعج الدجاج فلا يجعلها تبيض!

أما الوسيلة الثالثة فهي الحمير. . وما أكثر الحمير هنا! ذلك كله والمسافة كلها لا تزيد على 180 كيلومتر، أي أنها أقل مما بين القاهرة والإسكندرية.

ونسمع أن مصلحة السياحة قررت صرف ثلاثة آلاف جنيه لإصلاح هذا المصيف، وهي جعجعة لا نرى لها طحنا. . وحسبك أن تعلم أن ماء الشرب يجلب إلى المصطافين من أبار بعيدة ويباع لهم بثمن يساوي اللتر فيه خمسة مليمات! فهل رأيت مثل ذلك فيبلاد للنيل فيها غدوات وروحات. . .؟

وتصور الساحل الثاني لهذا البحر في (الريفييرا) الفرنسية و (الريفيرا) الإيطالية وغيرهما - تصور ما يغمر ذلك الساحل من أضواء وأنوار، ثم انظر إلى (الريفييرا) المصرية ترها متلفعة برداء من الظلام ذي ثقوب تطل منه المصابيح ذات (الشريط نمرة 10) وسيقولون إن المصيف أنير في هذا العام بالكهرباء، وهي دعوى لا دليل عليها إلا الأسلاك الممتدة التي تنوء بعبء التيار، فتقطعه ولا توصله، فلا تغني عن تلك المصابيح شيئا، وهناك دليل آخر على تلك الدعوى هو ما دفعه المصطافون من النقود لقاء عدم الاستهلاك!

والمرافق الأخرى ليست بأحسن حالا. فرسائل البريد والبرق لا موزع لها، إنما تبلغ مستقرها عند الشباك حتى يأتي من يسأل عنها! والخبز أحيانا نتفقده فلا نجده، وقد أقيم له مخبز لا بقى عجينه من الرمل. . وهذه آخر مرحلة تطور إليها خلط الرغيف منذ الحرب الماضية!

والعجيب أن يكون مصيف بلطيم على هذه الحال البدائية، وعمره أربعون سنة. فقد ظل هذا الزمن لا يلتفت إليه أولو الأمر وفي الوزارات لجان لتحسين المصايف وتشجيع الاصطياف وعندنا سياسة مرسومة للسياحة أهم أغراضها جلب السائحين إلى البلاد لتستفيد منهم استفادة اقتصادية. . وفي رأيي أن الشاطئ المصري، في مواقفه المختلفة لو وجهت إليه العناية أصبح كعبة القصاد من خارج البلاد، فضلا عن أهلها الذين يرحلون عنها ليبذروا المال ويغدقوه على الأجانب.

مقامة الرغيف:

ومن طريف ما وقع هنا، أن ضاق أحد الزملاء، وهو الأستاذ عبد الله حبيب، برداءة الخبز. وبجوارنا أستاذ فاضل من بلقاس هو الأستاذ عبد القادر الشايب المدرس الأول للغة العربية بمدرسة بلقاس الثانوية، وقد رتب أمره - لخبرته بالمصيف - على أن يخبز له في منزله ببلقاس ويرسل الخبز إليه في (عشته). . فما عرف الأستاذ عبد الله حبيب بهذا حتى تذكر (أبا زيد السروجي) فاستعان بطريقته، وكتب إلى الأستاذ الشايب ما يلي:

(كتابي إلى السيدالجليل، نضر الله عشه، وأكثر (عيشه) وأدام على الأيام هشه وبشه. فقد جئت إلى هذا المصيف، فحيرتي منه أمر الرغيف، فهو تارة كالحندويل! وتارة كعيش بردويل (أسم بلد). الرمل في خلاياه شائع، وعجينه صائص مائع، والأمعاء - أجارك الله من هذا وذاك - لا تقوى على هضمه، والأسنان لا تقدر على قضمه وقد تفضل السيد ببعض (عيشه) فهرعنا إلى عشه، وما زلنا به نستجير، وهو نعم المجير، ثم صدنا الحياء عن ورده، فعدلنا عن قصده. ودلنا جيران السوء على عجوز في أقصى المصيف. قالوا إنها تحسن صنع الرغيف، فأحضرنا لها الدقيق، فظهر أنه من السويق، وخلطته - لا بارك الله فيها - بالرمل والتراب، فجاء كعيش الغراب، وقد عافته نفسي، بعد أن أذهب أنسى، وآذى حسي. وأنت أيها السيد عن ضيوف إقليمك مسئول، فلا بد من إرسال شحنة صغيرة. لتكون تصبيرة، ولا بد من أن تدلنا على أمثل طريق، أيها الرفيق، فإذا لم تدركنا بالمشورة، فسنوالي طلب التصبيرة، وأمرك لله من قبل ومن بعد، وسلام الله عليك ورحمته)

الثقافة المصرية في السودان:

تعمل الآن وزارة المعارف على الإعداد لموسم المحاضرات الثقافية التي يلقيها بعض الأساتذة المصريين في الأندية السودانية وهو موسم جرت الوزارة على تنظيمه منذ سنة 1944، وقد نشر أن معالي الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف سيفتتح الموسم القادم بالخرطوم في نوفمبر القادم. ولا شك أن معاليه لو استطاع أن يفرغ من شواغله الكثيرة ويسافر إلى السودان ويفتتح الموسم فعلا، فإن ذلك يكون ظفرا عظيما لإخواننا في الجنوب، ويكون منهجه فيما يحاضر به هناك مثالا للأساتذة الذين اعتادت الوزارة أن توفدهم إلى هناك.

وهذا الكلام يحتاج إلى شئ من البسط.

جرت وزارة المعارف على أن تختار أولئك المحاضرين من موظفيها كمفتشي التعليم، وأحيانا تضم إليهم بعض الموظفين في مكتب معالي الوزير، وهؤلاء لهم خصائص معينة فيما يعدون من محاضرات، هي خصائص مدرسية مكررة لا ابتكار بها ولا يتميز فيها جهد بارز، وأذكر أن بعض الصحف السودانية وصفت هذه المحاضرات بأنها معلومات تدرس في المدارس الثانوية وليس في هذا الوصف مجانبة للحقيقة، فإن المحاضرين من المدرسين الذين قضوا سنين كثيرة مشغولين بما في مناهج المدارس لا يكادون يخرجون عنه. . وبعضهم من مؤلفي الكتب المدرسية المعروفة في مدارس السودان كما هي معروفة في مصر. ولا شك أن إخواننا السودانيين الذين يقرءون الإنتاج المصري الحر، ويطالعون ما فيه من روائع، ثم يسمعون تلك المحاضرات التقليدية (الرسمية) - معذورون إذا هم صدموا بالفارق بين هذه وتلك، كما أنهم محقون إذا وصفوا الأشياء بصفاتها.

وهناك نوع من أولئك المحاضرين، يحب أن يدل على (تجديده) أو على (عمقه) أو على (وطنيته) فيشوب الموضوعات الثقافية بإشارات سياسية، تفسد الثقافة، وتفسد السياسة، أما إفسادها الثقافة فتأتي من ناحية التكلف الذي يحرف الأمور عن مواضعها والذي يفسد كل شئ، وأما الجانب السياسي فنحن لا نجني من هذه الإشارات إلا ما نجنيه في مصر من المهاترات الحزبية، ويجب أن يعلم هؤلاء الأساتذة أنهم مبعوثون إلى إخواننا الجنوبيين جميعا على اختلاف أحزابهم وطوائفهم، وأن مهمتهم الثقافية الخالصة هي التي تخدم الوحدة، أما ما يبغونه من الظهور بمظهر البطولة فإن عاد إليهم بشيء من (الوجاهة) في نظر السطحين، فإنه يجر إلى جانب ذلك كثيرا من الحزازات ويغرس النفور في النفوس.

وليت وزارة المعارف تخرج عن تلك (الرسمية) المقفرة فتختار بعض الأدباء المعروفين بآثارهم القلمية الناضجة ليشاركوا في موسم المحاضرات المصرية بالسودان فتتيح لأهله أن يروا الوجوه التي يقرؤون لأصحابها، ويصلوا ما يقرؤون بما يسمعون، ولعل في هؤلاء من يطلع بما يفتقدونه في أولئك.

توصيات اللجنة الثقافية:

تجتمع بالإسكندرية الجنة الثقافية لجامعة الدول العربية، وقد بدأت اجتماعاتها يوم 20 أغسطس الماضي، ولا تزال توالي هذه الاجتماعات حتى كتابة هذا. وقد فرغت من النظر في بعض الموضوعات المعروضة عليها، فقررت توصياتها فيها.

نظرت في موضوع ترجمة الكتب العالمية التي تهم العالم العربي فأوصت الإدارة الثقافية باتباع الوسائل التي تراها كفيلة بعدم تكرار الجهود في الحكومات العربية وبين المترجمين الأحرار في الترجمة العربية.

ونظرت في تشجيع التأليف، فرأت أن تخصص الجامعة العربية جائزتين لهذا الغرض تمنحان سنويا، على أن تؤلف لجنة خاصة لوضع شروط هذا المنح، وقد رؤى أن تخصص الجائزة الأولى لأحسن كتاب عربي علمي أو أدبي يخدم فكرة تتصل بتحقيق غايات الجامعة العربية وأهدافها العامة، وأن تخصص الجائزة الثانية لتكليف مؤلف عربي أو أكثر وضع كتاب يستكمل وجها من اوجه النقص في مجال التأليف العربي المتصل بدراسة حياة العرب وفكرهم وحضارتهم، وترى اللجنة أن في حياة العرب وتراثهم القديم ونهضتهم الحديثة كثيرا ما يستحق التسجيل بالوسائل العصرية كالسينما، ولذلك توصي بأن تعني الدول العربية بتصوير أفلام تعليمية وتعريفية عن حياة كل منها لتعريف العرب بعضهم ببعض، وتعريف العالم الخارجي بالحياة العربية ونهضتها في العهد الحديث.

ونظرت اللجنة في موضوع نشر الثقافة بين الكبار، فسجلت بالتقدير ما أصابته تجربة تثقيف الكبار في مصر من نجاح، وأوصت سائر الدول العربية بتعميمها، على أن تتبع في ذلك المبادئ الآتية:

1 - أن يبدأ تثقيف الكبار بعد المرحلة الإجبارية من التعليم وحيث تنتهي فترة التعليم الأساسي.

2 - يعهد إلى المختصين في وضع كتب في الحد الأدنى لما يلزم المواطن العربي الصالح لتعريفه حقوقه وواجباته الأساسية. ووضع كتب لمعالجة مشاكل الحياة اليومية كالصحة والاجتماع والتدبير المنزلي وبعض الحرف البسيطة للرجال والنساء.

3 - تعد أشرطة سينمائية للتثقيف والإرشاد.

4 - إعداد دراسات ثقافية في دورات معينة لخريجي المدارس الثانوية الذين حالت ظروف الحياة دون إكمال تحصيلهم. .

عباس خصر