الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 931/الفارابي في العالم الإسلامي وفي أوربا

مجلة الرسالة/العدد 931/الفارابي في العالم الإسلامي وفي أوربا

مجلة الرسالة - العدد 931
الفارابي في العالم الإسلامي وفي أوربا
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 07 - 05 - 1951

5 - الفارابي في العالم الإسلامي وفي أوربا

بمناسبة مرور ألف عام على وفاته

للأستاذ ضياء الدخيلي

ويحدثنا أبن خلكان عن أسلوب الفارابي في التأليف فيقول (وكان أكثر تصنيفه في الرقاع ولم يصنف في الكراريس إلا القليل؛ فلذلك جاءت أكثر تصانيفه فصولا وتعاليق، ويوجد بعضها ناقصا منثورا) ولعل هذا الذي ذكره أبن خلكان هو علة ما وجده صاحب (التمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) من غموض واضطراب في بعض الأحايين

وهذا أندلسي من القرن السادس الهجري يثني على الفارابي ويفضله على أبن سينا والغزالي، فقد جاء في عيون الأنباء في ترجمة أبن باجة أن أبا الحسن عليا بن عبد العزيز بن الإمام من غرناطة وكان كاتبا فاضلا متميزا في العلوم وصحب أبن باجة مدة واشتغل عليه - إن أبا الحسن هذا قال في صدر المجموع الذي نقله من أقوال أبن باجة الفيلسوف الأندلسي - في العلوم الفلسفية - قال ويشبه أنه لم يكن بعد أبي نصر الفارابي مثله في الفنون التي تكلم عليها من تلك العلوم، فإنه إذا قرنت أقاويله بأقاويل أبن سينا والغزالي وهما اللذان فتح عليهما بعد أبي نصر بالمشرق في فهم تلك العلوم ودونا فيها - بان لك الرجحان في أقاويله وفي حسن فهمه لأقاويل أرسطو، والثلاثة أئمة بلا ريب

وكان أبن باجة السرقسطي من رجال القرن السادس الهجري وقد توفى شاباً بمدينة فاس ودفن بها، وكان من جملة تلاميذه أبن رشد. وذكروا في مؤلفات محمد بن باجة تعاليق على كتاب أبي نصر في الصناعة الذهنية (أي علم المنطق)

فها أنت ترى كيف أن شهرة الفارابي كانت قد طبقت العالم الإسلامي وعبرت البحر إلى الأندلس. وقد ذكر أبن أبي أصيبعة في عيون الأنباء في جملة مؤلفات أبي الوليد بن رشد كتابا فيما خالف فيه أبو نصر الفارابي أرسطوطاليس في كتاب البرهان من ترتيبه وقوانين البراهين والحدود

ومن مصر الطبيب أبن رضوان عام 459هـ وكان في عهد الحاكم - تحدث عن كتب العارفين التي يشهد بفضلها ويعتز بها، فذكر كتب أفلاطون وأرسطوطاليس والإسكندر وثامطيوس ومحمد الفارابي، قال وما انتفع موجود به فيها وما سوى ذلك إما أبيعه بأي ثمن اتفق، وإما أن أخزنه في صناديق، وبيعه أجود من خزنه

وهذا الشيخ موفق الدين عدنان بن العين زربي كان من أهل عين زرية وأقام ببغداد مدة، واشتغل بصناعة الطب والعلوم الحكمية ومهر فيها وخصوصا في علم النجوم، ثم بعد ذلك انتقل من بغداد إلى الديار المصرية وتميز في دولتهم، وكان من أجل المشايخ وأكثرهم علما في صناعة الطب فيما يقوله ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء - ولقد ذكر له الرسالة المقنعة في المنطق وبين أنه ألفها من كلام أبي نصر الفارابي والرئيس ابن سينا، وقد توفى ابن العين زربي سنة 548هـ بالقاهرة، فهو من القرن السادس الهجري

ولنقفز الآن قفزة عريضة إلى أوربا فنسمع دي بوير في جامعة أمستردام في هولندا يقول في كتابه (تاريخ الفلسفة في الإسلام) كان الفارابي رجلا ممن يخلدون إلى السكينة والهدوء وقد وقف حياته على التأمل الفلسفي يظله الملوك بسلطانهم، ولد في (وسيج) وهي قرية صغيرة حصينة تقع في ولاية فاراب من بلاد الترك فيما وراء النهر، وقد حصل على علومه في بغداد وقرأ بعضها على معلم مسيحي وهو يوحنا بن جيلان الذي توفى بمدينة السلام في أيام المقتدر، وقد ألم الفارابي في دراسته بالأدب والرياضيات، ويدلنا بعض مؤلفاته ولا سيما في الموسيقى على أنه درس الرياضيات، وتقول الأساطير إنه كان يتكلم بلغات العالم كلها (سبعين لغة) وقالوا أنه من براعته في الموسيقى أضحك الجالسين ثم أبكاهم ثم أنامهم وانصرف. ويرى (دي بوير) أن الفلسفة التي تدرب عليها الفارابي يرجع أصلها إلى مدرسة مرو، والظاهر أن أعضاء هذه المدرسة كانوا يعنون بمسائل الإلاهيات أكثر مما عني بها أهل حران والبصرة، فقد كان ميل هؤلاء متجها إلى الفلسفة الطبيعية

وكل حديثنا السابق أو جله كان يدور حول فلسفة الفارابي، ولكن كم لهذا الرجل الفاضل من مزايا أخرى يجدر بنا الوقوف عندها، فمنها عبقريته في الموسيقى التي أشار إليها (دي بوير) وقد قال أبن أبي أصيبعة في عيون الأنباء إن الفارابي كان في علم صناعة الموسيقى وعملها قد وصل إلى غاياتها وأتقنها إتقانا لا مزيد عليه، ويذكر أنه صنع آلة غريبة يسمع منها ألحانا بديعة يحرك بها الانفعالات. وقال (كارادفو في دائرة المعارف الإسلامية: وكان الفارابي موسيقاراُ معروفاً ونحن مدينون لقلمه في تدبيجه رسالة ذات أهمية بالغة في الناحية النظرية من الموسيقى الشرقية، وكان هو بنفسه موسيقاراً فنانا هاويا وفنانا مؤلفا، وأن نبوغه أثار إعجاب سيف الدولة الحمداني، وأن الدراويش المولوية لا يزالون يرتلون الأغاني القديمة المنسوبة إلى الفارابي (راجع مادة من دائرة المعارف الإسلامية) ويقول زكي علي تحت عنوان (أوربا مدينة للحضارة الإسلامية) من رسالة نشرتها دار المكشوف في بيروت باسم (أوربا والإسلام) - وساهم المطربون والموسيقيون العرب في تقدم الفن الغنائي وتحسين آلة الطرب. ويعود الفضل إلى الفارابي (من القرن العاشر الميلادي) في القضاء على النظريات الموسيقية القديمة، وفي تفسير الإيقاع وكيفية حصول الأنغام. وقد اخترع الموسيقيون العرب الموسيقى الموقعة. وعنهم أخذت شبه الجزيرة الأيبرية وبالتالي أوربا كلها آلات الطرب؛ ومنها العود والرباب والقيثارة والطبل. ويظهر أن بعض فلاسفة العرب كان يملك اطلاعا واسعا وغريبا على الموسيقى وأثرها في الإنسان. وقد كانوا يستخدمونها في الطب وتنقل عنهم في هذا الباب قصص نقف بين يديها حائرين، فقد نقل القفطي في أخبار الحكماء في ترجمة يعقوب بن اسحق الكندي الفيلسوف العربي الشهير أنه استدعاه جاره للنظر في أبنه الذي اعترته سكتة فجأة فأجاب وصار إلى منزل التاجر، فلما رأى أبنه وأخذ مجسه أمر بأن يحضر إليه من تلامذته في علم الموسيقى من قد أنعم الحذق بضرب العود، وعن الطرائق المخزنة والمزعجة والمقوية للقلوب والنفوس، فحضر إليه منهم أربعة فأمرهم أن يديموا الضرب عند رأسه وأن يأخذوا في طريقة أوقفهم عليها، وأراهم مواقع النغم بها من أصابعهم على الدسانين ونقلها، فلم يزالوا يضربون في تلك الطريقة والكندي آخذ مجس (نبض) الغلام، وهو في خلال ذلك يمتد نفسه ويقوى نبضه، ويراجع إليه نفسه شيئا بعد شيء إلى أن تحرك ثم جلس وتكلم، وأولئك يضربون في تلك الطريقة دائما لا يفترون، فقال الكندي لأبي الولد: سل أبنك عن علم ما تحتاج إلى علمه، فجعل الرجل يسأل وهو يخبره، ويكتب شيئا بعد شيء فلما أتى على جميع ما يحتاج إليه غفل الضاربون عن تلك الطريقة التي كانوا يضربونها وفتروا، فعاد الصبي إلى الحالة الأولى وغشيه السكوت فسأله أبوه أن يأمرهم بمعاودة ما كانوا يضربون به، فقال هيهات، إنما كانت صبابة قد بقيت من حياته. ولا سبيل لي ولا لأحد من البشر إلى الزيادة في مدة من قد انقطعت مدته، وقد كان ذلك التاجر من كبار التجار موسعا عليه في تجارته وكان أبنه هذا قد كفاه أمر بيعه وشرائه، وضبط دخله وخرجه، فعرضت لأبنه السكتة فجأة فورد عليه من ذلك ما أدهله وبقي لا يدري ما الذي في أيدي الناس وما لهم عليه، مع ما دخله من الجزع على أبنه فلم يدع بمدينة السلام طبيبا إلا ركب إليه واستركبه لينظر أبنه ويشير عليه من أمره بعلاج، فلم يجبه كثير من الأطباء - لكبر العلة وخطرها - إلى الحضور معه، ومن أجابه منهم فلم يجد عنده كبير غناه، فقيل له أنت في جوار فيلسوف زمانه، وأعلم الناس بعلاج هذه العلة فلو قصدته لوجدت عنده ما تحب، فدعته الضرورة إلى أن تحمل علي الكندي بأحد إخوانه، فأجاب وصار إلى منزل التاجر بالرغم من أنه كان كثير الازدراء بالكندي والطعن عليه، مدمنا لتعكيره والإغراء به وقد أسعف الكندي طلبه وقام بما تقدم ذكره استجابة لداعي الإنسانية، وما تحتمه آداب مهنة الطب المقدسة. وتنقل عن الفارابي قصص مماثلة في الموسيقى معروفة

وبعد فقد أطلنا الحديث عن أبي الفلسفة الإسلامية ومؤسسها ومشيد مدرستها الأول (المعلم الثاني) وأرى أن نقطع الحديث مؤقتا، وإن بقيت لدي صبابة في الكأس وثمالة نرجئ عرضها إلى عودة ثانية للموضوع فإلى الملتقى

بغداد

تم البحث

ضياء الدخيلي