مجلة الرسالة/العدد 931/الأدب والفن في أسبوع
→ الفارابي في العالم الإسلامي وفي أوربا | مجلة الرسالة - العدد 931 الأدب والفن في أسبوع [[مؤلف:|]] |
الكتب ← |
بتاريخ: 07 - 05 - 1951 |
للأستاذ عباس خضر
براعم الفصحى:
ذهبت إلى مدرسة محمود فهمي النقراشي باشا النموذجية الابتدائية بحدائق القبة، وبي شوق إلى رؤية تلاميذها وسماعهم يتحدثون باللغة العربية الفصحى؛ وكان هذا هو الداعي إلى زيارتي للمدرسة، وكأني يئست أن أسمع العربية في التخاطب بين الكبار وفيهم من تلقى من خواص المتعلمين والمثقفين، فشاقني أن أجد طلبتي لدى أولئك الصغار الفصحاء. . .
كنت على موعد مع ناظر المدرسة الأستاذ عبد الفتاح المنياوي الذي تفضل فرحب بهذه الزيارة، وأخذت مكاني في حجرة الناظر، وكان هناك الأستاذ عبد الحميد السيد المفتش العام للغة العربية بالمدارس الابتدائية، وبعد قليل دخل الحجرة تلميذ صغير لا يبلغ العاشرة من عمره - دخل هذا التلميذ يقول:
أين حضرة المفتش؟
قالها بنبر عربي جميل، فشغلت بتأمله في إعجاب، وكأنني ألقف أول ثمرة من هذه الدوحة، وهش له المفتش وأجابه:
- أنا. . .
- كلفني الأستاذ. . . أن أحضر لك هذه الكراسات
ودلفت في صحبة الأستاذ أحمد عبيد إلى إحدى حجرات الدراسة، وكان التلاميذ في زئاط، فقال الأستاذ رافعا صوته في لهجة المعلم الحازم الحاني:
ما هذا؟ إني أسمع لغطا يا شريف
قال شريف - وهو (بوليس الفصل) - ٍإن هذا التلميذ يزعق. . فنهض تلميذ آخر ليضبط الشرطي متلبسا بالخطأ. . . قال: إنه أخطأ إذ قال: (يزعق) ويجب أن يقول (يصيح)
والمدرسون يجتهدون في تعريب ما يرد على ألسنة التلاميذ من الكلمات العامية، أو بعبارة أخرى يردونها إلى أصلها العربي فيسيرون على النهج التربوي في الانتقال من المعلوم إلى المجهول، فهذا التلميذ يعمل (غلبة) وبنقاش قليل تقلب الغين جيما فتصير (جلبة) وذاك التلميذ يصر على دعواه قائلا: هذا القلم (بتاعي) ولا بأس أن يكون القلم متاعه. . .
ومهد الأستاذ لأن يتحدث التلاميذ، فوصف أحدهم الاحتفال بـ (سبوع) أخيه المولود، فكان مما قاله: وأمسك أحد المدعوين بالهاون وجعل يدقه ويخاطب الطفل: أسمع كلام أبيك. . . أسمع كلام أمك. . . قال التلميذ: فضحكت لأن هذا كلام ليس له معنى!
وحدثنا آخر عن قضية مراكش حديث الفاهم الواعي، ولحظت حماسة في الكلام فقلت له: وماذا يسيئك من الاعتداء على مراكش؟ لأنها بلاد عربية إسلامية مثل بلادنا يؤلمنا ما يؤلمها. . .
وتحدث تلميذ عن المجتمع المصري وسوء حاله، فحميت أفكار التلاميذ واشتدت المناقشة بينهم. . . سأل أحدهم: أليس الشعب يحكم نفسه؟ قال المتحدث: بلى، ولكن البرلمان يتكون من الأغنياء الذين يشترون أصوات الناخبين. . . وسأل آخر: مادام الأمر بيد الأغنياء الذين لا تهمهم مصالح الناخبين فما العمل؟ قال التلميذ المتحدث: العمل أن يتعلم الشعب ويفهم حقوقه وواجباته، ويستطيع أن يختار من يمثله ويعمل من أجله، ولا شك أن مجانية التعليم تحقق هذا الغرض. . .
دارت هذه الأحاديث بين تلاميذ تقع أعمارهم بين العاشرة والثانية عشرة. . . وأكثر تلك العبارات من نص كلامهم، والعجيب المعجب أن ألسنتهم تنطلق بالعربية في يسر وانطلاق وبعضهم رقباء على بعض، فإذا أخطأ أحدهم أسرع أحد زملائه إلى تصويبه، والعناية بصحة اللغة تصحبها قوة الفكر وانتباه الذهن، يتمثل ذلك في الأسئلة والأجوبة التي يتبادلون في موضوع الحديث. . .
وتسير التربية والدراسة في هذه المدرسة النموذجية على طريقة (المشروع) الأمريكية التي تقوم على تهيئة مجتمع كاملداخل المدرسة، يكون صورة مصغرة للحياة خارجها، وأساس الدراسة في هذه الطريقة أن يشعر التلاميذ بالحاجة إلى دراسة موضوع ما، وليس للمعلم إلا انتهاز الفرصة والإشراف، أي يحس التلاميذ أن الموضوع موضوعهم، وما الملمون إلا معاونون ومرشدون لهم. مثال ذلك أن تلميذا بدت عليه أعراض الألم فجعل ممسك بطنه ويتلوى ويتأوه، فأسرع إليه زملاؤه التلاميذ وأسعفوه بما استطاعوا من العلاج. وسأله المعلم عما أكله في هذا اليوم، فقال: لقد أتت سيارة المدرسة إلى منزلنا في الصباح ولم أكن تناولت الطعام بعد، فأسرعت وركبت السيارة، وعندما نزلت منها قرب باب المدرسة رأيت بائع شطائر، فاشتريت منه شطيرة وأكلتها. . . هنا عرف الجميع أن الشطيرة هي سبب الألم، وهنا انتهز المعلم الفرصة وناقش التلاميذ فيما يجب عمله حتى لا يتكرر هذا الحادث، ثم اتفق الرأي على القيام ب (مشروع المقصف) ثم أخذوا في إقامة مقصف بالمدرسة يشتمل على كل ما يحتاجون إليه من حلوى وشطائر وما إليها. وراحوا يقيسون الأبعاد ويحسبون النفقات، ويرجعون في ذلك إلى مدرس الهندسة والحساب. . . وأخذ المشروع يتفتق عن حاجة التلاميذ إلى سائر مواد الدراسة، ففرصة اللغة - مثلا - كتابة التقريرات عن نواحي المشروع كتابة عربية سليمة، حتى تحسين الخط وجد فرصته، فقد شعر التلاميذ بالحاجة إلى الإعلان عن المشروع في بيئة المدرسة، فكان الحل أن يكتب مدرس الخط الإعلان بخط نموذجي هكذا (ساهموا في مشروع المقصف) وجعل التلاميذ يحاكون هذا النموذج، حتى كتبوا عشرات منه، ثم قاموا بتوزيعها. . . وهكذا يختارون سائر المشروعات ويفتنون في دراستها
ومجتمع المدرسة - كما سبق - صورة للمجتمع الخارجي، والتلاميذ هم وحدهم أفراد هذا المجتمع، تحت إشراف المشرفين، فهناك فرقة للإسعاف سرعان ما ينشط أفرادها إلى العلاج اليسير بما يستطيعون من وسائل الإسعاف، وهناك شرط يقومون بحفظ النظام ويعملون على استتباب الأمن ويقومون بضبط الحالات التي يخالف فيها المخالفون، ويكتبون تقريرات عنها ترفع إلى (الأسرة) التي تتولى عقاب المخالف. وبالمدرسة أربع أسرات، هي: أسرة أحمس، وأسرة المعز، وأسرة صلاح الدين، وأسرة محمد علي وكلها مكونة من التلاميذ بطبيعة الحال. ويشرف على هذه الحركة مشرف المدرسة وهو الأستاذ محمود رضوان شرف وقد جلست معه في فناء المدرسة نشاهد التلاميذ من بعيد. وقد استرعت نظري حركة (رجال الشرطة) إذ رأيتهم يسرعون إلى كل حالة تستدعي عملهم، وقد رغبت إلى الأستاذ رضوان أن يطلعني على التقريرات التي كتبوها عن هذه الحالات، فرأيت فيها ما يستدعي الإعجاب. كتب أحدهم: (تكرر من التلميذ. . . شراء بعض المأكولات من خارج المدرسة وقد عملنا مراراً على منعه ولكنه أبى، وقد بينا له أضرار هذه المأكولات فلم يستمع إلى كلامنا فاضطررنا إلى تسجيل هذا) وكتب آخر: (بينما كنت أسير في فناء المدرسة بجانب المطعم وجدت التلاميذ. . . و. . . و. . . يلعبون بالكرات الزجاجية (البلى) فأخذتها منهم ثم سألتهم عن أسمائهم ولكنهم أخذوا يقولون أسماء مستعارة، وبعد قليل وجدت تلميذاً يعرفهم فكتبت أسماءهم) وكتب ثالث: (أثناء مروري في فسحة الصباح رأيت أحد التلاميذ قد دخل حديقة المدرسة وقطف وردة فأمسكته وأخذت أسمه وهو. . .)
ولا شك أن رجال الشرطة الكبار في حاجة إلى أن يطلعوا على هذه (المحاضر) ويحاكوها. . .
وللمدرسة مجلة يحررها كلها التلاميذ، وهي سجل شامل لنواحي النشاط في المدرسة، على ما في هذه النواحي من تنوع واتساع، وهي تدلنا على جانب ثقافي عام تهتم به المدرسة أو يهتم به تلاميذها. . ذلك غير المحاضرات والمناظرات التي تتناول مختلف الشؤون العامة. ويدعى إليها ويحضرها أقرباء التلاميذ وغيرهم، ولا أقول أولياء أمورهم. فما يليق بهؤلاء (الرجال الصغار) إلا أن يكونوا أولياء أنفسهم: يكتب التلاميذ عن هذه المحاضرات والمناظرات في مجلتهم كما أصنع في هذا الباب من (الرسالة) ولا فخر! هذا زميل صغير يكتب عن مناظرة أقيمت بين السنة الرابعة الابتدائية وبين السنة الأولى من المدرسة الثانوية بحدائق القبة، وهي نموذجية أيضا، وكان موضوع المناظرة (هل الأصلح لمصر أن تكون بلدا زراعيا أو صناعيا؟) يعلق التلميذ الكاتب (إسماعيل زكي) على المناظرة فيقول: (وكانت كل الكلمات محل إعجاب المدرسين وناظري المدرستين وخصوصا أيهاب كمال الذي أثر على التلاميذ بإنشائه لا بحججه وهو من مؤيدي رأي الصناعة. وفي النهاية أخذت الأصوات، وفاز فريق مؤيدي الصناعة لإنشاء الطالب أيهاب كمال فقط لا غير. . وانتهت المناظرة)
ويحدثنا (عادل أمام) في المجلة فيذكر كيف اختاروا (مشروع الحشرات) للدراسة، وذلك أن المدرس سأل تلميذا عن حرفة والده، فقال: دكتور في الحشرات، فضحك عادل من هذا الذي ظنه يعالج القمل والصرصور، ولكن المدرس قال له: ليس الأمر كما تظن، فإنه نال الدكتوراه في علم الحشرات فيقترح عادل أن يدرسوا مشروع الحشرات
وما أجمل هذا المقال الصغير لكاتبه الصغير (شريف عمر) وهو كما يلي (في يوم من الأيام قال لنا الأستاذ عبيد نريد أن نعين أميناً للمكتبة، فأجرينا انتخابا ففزت أنا. وبعد ذلك علمني الأستاذ عبيد كيفية الاستعارة وسرنا بنظام جيد، ثم انتهت كراسة الاستعارة فسطرت غيرها، وخصصت لكل واحد من التلاميذ صحيفة تحمل اسمه ورقمه، وطلبت من المدرس أن يختار أميناً غيري فقال: إن الشخص الذي يحبه الناس يجب أن يدفع ثمن هذا الحب من راحته. فقلت له: إني تعبت جداً فقال لي: لا تتعجل وتحدث في هذا مع زملائك أولا. ولكني ما زلت مصرا على الاستقالة) وعنوان الموضوع (هذا ذنبي) وهو ذنب نرجو أن يكثر الله منه بين كبار الرجال. . .
وقال لي تلميذ إنه كتب في المجلة (العدد الذي تحت الطبع) (مناظر مؤذية) منها (بوليس المدرسة الذي يأتي مثل ما ينهى عنه) وقد داخلني الإشفاق على المدرسين من عيون هؤلاء التلاميذ. . أخشى أن تقع أنظار هؤلاء على أساتذتهم وهم يتخاطبون بالعامية، فلا يكون هناك منظر أشد إيذاء من هذا المنظر!
ولا يخفى علي أن بنفسك سؤالا هو: هل كل المدرسين في المدرسة يتحدثون إلى التلاميذ باللغة العربية؟ الواقع أن مدرسي اللغة العربية يحرصون على ذلك كل الحرص، ويجتهد باقي المدرسين أن يسايروا هذا الجو، ولكن بعضهم - مع الأسف لا يحسن التكلم بالعربية، فقد حدث مرة أن أراد أحدهم أن يبدي للتلميذ استحسانه فقال (لم بطال!) فيا ليت الوزارة تتنبه إلى هذه النقطة عند اختيار المدرسين لمثل هذه المدرسة
وبعد فمن الواضح أن أول ما يلاحظه المرء على أولئك التلاميذ الصغر الواعد. . والرجولة المبكرة. وأرى أن هذا يرجع إلى الطريقة التربوية وهي (طريقة المشروع) التي يسيرون عليها، وإلى اللغة الفصيحة التي تحملهم على التفكير، وكأنها حين تجري على ألسنتهم تستحث القوى المفكرة، ثم هي تكسبهم سمتا يدعو إلى الاحترام والإعجاب
ويا ليت لمصر جبلا من هذا الطراز! لقد اتفقوا على أن خير طريقة لترقية المجتمع المصري أن يتعلم الشعب ويعرف حقوقه وواجباته، فهل يتاح للشعب أن يتعلم مثل ما يتعلمون؛ ويستنير كما يستنيرون؟
إن لهذه المدرسة أختاً واحدة فقط هي مدرسة الأورمان بالجيزة وليس في البلاد كلها من هذا النوع غيرهما، وهما تسيران على تلك الطريقة في السنوات الأولى والثانية والثالثة، فإذا وصل التلاميذ إلى السنة الرابعة ساروا على المنهج العام ليدخلوا امتحان الشهادة الابتدائية، وقد دلت التجربة على تفوقهم وعلى أنهم يحصلون في دراساتهم للمشروعات معلومات أوفى مما يحصله التلاميذ في المدارس العادية؛ إلى ما في الطريقة نفسها من حسن الهضم والتمثيل
وأستطيع أن أقول أن المسألة بهذا الوضع لا تخرج عن أن المدرستين حقل للتجربة التربوية أكثر منها قصدا إلى إعداد جيل وذلك لضيق الحدود وانحصار الفائدة، حتى التلاميذ الذين تضمهم المدرستان ليس مستقبلهم مضمونا، من حيث السير على هذه الخطة في مراحل تعليمهم المختلفة، ومن حيث ظروف المكان، فقد ينتقل أهل أحدهم إلى بلد آخر فتضيع عليه الفرصة
وأعتقد أننا الآن في الطور الذي يقصد فيه إلى تعميم الفائدة في تكوين المواطنين، وقد نجحت تلك التجربة فلم يبق إلا الأمل في إتاحة الفرصة للجميع كي ينتفعوا بها. وأعتقد أيضا أن الجهود التي تبذل في التعليم الآلي المجهد العقيم يمكن توجيهها إلى تلك الوجهة النافعة.
عباس خضر