الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 931/الحاج خواجة كمال الدين

مجلة الرسالة/العدد 931/الحاج خواجة كمال الدين

بتاريخ: 07 - 05 - 1951

3 - الحاج خواجة كمال الدين

(187 - 1932)

للأستاذ أرسلان بوهانووكز

بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي

ذكريات حزينة

شاع الحزن في البلاد الإسلامية عندما وصل النبأ المفزع - مات خواجة كمال الدين - والحملة العنيفة المركزة التي كانت عليه في إنجلترا قد هدأت، وأخذ الناس في جميع بلاد الإسلام. ينظرون إليه نظرة الإكبار والإجلال، وكان الشعور بالحزن بالغا عليه أقصى مداه في تلك البلاد. . . فتلقت أسرته وإمامة المسجد في وكنج سيلا من الرسائل التي تفيض بالحزن العميق، وتعبر عن الخسارة الفادحة التي أصابت المسلمين

أما في لاهور، فقد احتشد جم غفير من المسلمين في قاعة الكلية الإسلامية في الثامن من كانون الثاني 1933، ورأس ذلك الاجتماع السر شهاب الدين صاحب، رئيس الجمعية التشريعية في البنجاب. وقد أجمع الخطباء في ثنائهم على السياسة الحكيمة التي سار عليها في وكنج، وأشادوا بالأعمال التي أداها في ديار الغرب للإسلام، وأهابوا بالناس أن يثابروا على العمل العظيم الذي بدأه في بلاد الإنجليز

وفي اليوم السابع عشر من آذار 1933 جرى احتفال رائع بافتتاح المكتبة التذكارية وقاعة المطالعة الملحقة بها، وقد أطلق عليها اسمه، وقد أقيم لهما بناء ضخم، آية في الجمال، وألحقتا بمسجد بيجام شاند بورتيرا في البنغال. وقد كانت هذه المؤسسة الأولى من نوعها في ذلك الوقت، وسن لها نظام يشابه نظام وكنج للسير بموجبه في أعمالها ومناهجها

وعقدت عشرات من الاجتماعات في البلاد الإسلامية بعد عام 1932 للاحتفال بذكرى وفاته، ونشرت الصحف عشرات المقالات في هذه الذكرى، وقد جمع عدد كبير من هذه المقالات، ووصفت تلك الاحتفالات في عدد تذكاري من إسلامك ريفيو صدر في أبريل - أيار 1933، ومما ورد في ذلك العدد ملخص لمقال نشرته مجلة (ليث) قالت فيه:

لقد عودنا القراء في مطلع كل سنة جديدة أن نقدم لهم رسالة ترفع أعينهم إلى النور، ونحسب أننا في هذه السنة لا نجد رسالة أروع من قصة موت جندي الإسلام الشهيد العظيم خواجة كمال الدين. إن قصة حياته لأبناء وبنات المسلمين أروع أمثلة البطولة، ولكم نرجو لو أن كل نقطة من دم الراحل الذي سقط شهيدا تحت راية الجهاد، تتحول إلى ينبوع في القلوب يملؤها بحب الإسلام وإعلاء كلمته، والتفاني في خدمته

سجاياه العالية

كل ما ذكرناه عن شخصية خواجة كمال الدين لم يكن غير المظهر الخارجي الذي نستطيع أن نلمحه من وراء آثاره المكتوبة ومن النتائج الخطيرة التي انتهت إليها تلك الأعمال. وهذه الشخصية الجبارة لم يستطع النفوذ إلى بعض أسرار العظمة فيها غير اؤلئك الذين كانت لهم صلات مباشرة معه في حياته وأعماله ولكي نفتح الباب الذي يؤدي إلى هذه الشخصية نقبس بعض الفقرات التي كتبها عنه أصدقاؤه المقربون. كتب المحامي الإنجليزي الشهير المستر بكتال في سبيل التحدث عن رقته، وجلده، وحنانه، وإنسانيته، يقول: (لقد ولد بالفطرة محاربا من الطراز النادر في سبيل القضية التي وقف عليها حياته، ولم يعترف بالهزيمة أبدا، وكانت الابتسامة لا تفارق شفتيه، وكان لا يرى غير الناحية المشرفة من الأشياء والناس، سائرا في طريقه قدما لا يلتفت وراءه، يقابل كل خيبة أو فشل بإعادة آية من كلام الله. . لقد كان وفيا في صداقته إلى أبعد حدود الوفاء، لبقا، كريم السجايا، وفوق كل شيء كان متزنا جداً)

وكتب عنه زميله في العمل الدكتور جيلان محمد من لاهور بالباكستان يقول: (وحتى وهو تحت وطأة المرض الشديد، لا يستطيع الحراك من فراشه، لم يتحلل من العمل المضني الذي فرضه على نفسه. لقد كان صورة رائعة للجلد والاحتمال والصبر - وكأنه عمود من القوة والجبروت، أو برج شاهق من النور يشع على ما حوله. . . كان وديعا، رائعا، يفيض قلبه بالحب، وكان الإحساس يتدفق من طبيعة عميقة. . . .)

ولعل اللورد هدلي قد وفق في التعبير عن عواطف الحزن العميقة حين فجعه الموت في صديقه الحميم؛ فعبر عن كل ذلك الحزن أو بعضه بكلمات تنفذ إلى مواطن الشعور من النفس الإنسانية، فيها بساطة التعبير وعمق الإحساس. (نحن نبكي اليوم لفقد مسلم لا مثيل له في العصر الذي نعيش فيه. . . فلقد ترك أخونا العزيز وراءه مثلا جميلا لحياة طاهرة، قضاها في منفعة الآخرين فإن روح الإسلام قد أشرقت على جوانب تلك الشخصية العظيمة فغدت فوق الأرض نموذجا رائعا في حياتها اليومية، في خشوعها نحو الخالق. . . لقد تلاقى في تلك الشخصية النادرة، قلب رحيم وعقل عبقري. . . لا أذكر أنني سمعته مرة يتفوه بكلمة تمس شعور أي إنسان. . . وأولئك الذين كانت الظروف تسعدني بتقديمه إليهم؛ لم يلمسوا في حديثه أو سلوكه أي شيء من التعب). . . وبعد أن يحدث اللورد هدلي عن المجهود الجبار الذي بذله في التعليق على آي الكتاب الكريم؛ ختم ذلك الحديث الرائع بهذه الكلمات. . . (لقد واتتني الظروف فاطلعت على طريقته في تفسير كلام الله، وكيف كانت حياته صورة حية لتلك المعاني الألمعية)

جهاده في سبيل الإسلام

إن ما تركه اللورد هدلي في آخر حديثه لينطبق تمام الانطباق على الطريقة التي سار عليها خواجة كمال الدين في الخدمات الجلي التي قام بها لرفع لواء الإسلام. لقد أدرك جيدا أن نجاح أجدادنا في صدر الإسلام لم ينبعث إلا من السير وراء تعاليم الدين، وإن الأحفاد حينما استظلوا بغير لواء هذا الدين انقلبوا من غزاة تهتز الدنيا رعبا وهلعا من سيوفهم، إلى جيل من العبيد، لا يقام لهم وزن في حساب الكرامة بين البشر، وغدوا مجموعة من الجهلة المتأخرين، بعد أن كانوا ينيرون ظلام العالم بمشعل العلم والعرفان. . .

ولكن الخدمة التي أداها خواجة كمال الدين للإسلام لم تقتصر على فتحه الطريق المغلق إلى مرضاة الله في وجوهنا، وإنما دفعنا بسرعة فوق هذا الطريق بما بذل من جهود جبارة مستمرة جعلت هذا الطريق صالحا للسير، وبما وضع في بصائرنا من زاد التقوى. والوسائل التي مهد بها ذلك الطريق الوعر لم تكن غير آثاره الفكرية الرائعة التي لم نعرف عنها حتى الآن إلا القليل، ومن أبرز تلك الآثار الحية مجلة إسلامك ريفيو، والجمعية الإسلامية لإشاعة الإسلام في وكنج

لقد حاول آخرون قبله نشر الإسلام في أوروبا، ولكن الله أراد أن لا يتم النجاح إلا على يد خواجة كمال الدين. وعلى الرغم من مرور سبعة عشر عاما على وفاته فإن ثمرة ذلك العمل ما تزال في جدتها، وكأنها من عمل الحاضر تتجدد على مرور الزمان ماثلة أمام أعيننا لقد ذكر المستر مارما دوك بكتال مترجم القرآن إلى الإنجليزية وهو يتحدث عن هذا الأمر فيما يتصل ببلاد الهند. . . (أن أعماله في إنجلترا ليست غير جزء من عمله العظيم، ولم أستطع إدراك ذلك حتى أتيت إلى الهند فلمست الأثر المباشر لكتاباته عن مبادئ الدين، وعملها في بعث الحياة في العالم الإسلامي الذي يغط في سبات الغفلة، ليس في الهند فحسب وإنما في كل جزء من أجزاء العالم الإسلامي، حيث أخذت الحمية والحماسة والوعي تأخذ طريقها إلى قلوب الأجيال الجديدة من المسلمين. . .)

وقال المستر يعقوب خان (إن الأجيال الجديدة من المسلمين الذين تتلمذوا على الحضارة الغربية، وقفوا مندهشين وهم يرون مبادئ الإسلام تنحني لها رقاب الطبقات التي تحكمهم خشوعاً وإكباراً، وتدخل في دين الله أفواجا، فراحت تذوب من نفوسها رذائل الشعور بالنقص، وأخذت تدرك أن الإسلام ليس الدين الذي يخجل الإنسان من اعتناقه. هذا هو العامل الأساسي الذي حفظ للإسلام شبابه من التدهور في مادية الغرب الإلحادية، وأعادهم إلى حظيرة الدين الحنيف. . .)

أما في بلاد الإنجليز. فقد أتم الله على يدي خواجة كمال الدين نصر الإسلام، وأضحى دين الإنسانية الذي يعتز الناس بالانتساب إليه، وجعل الإنجليز يدركون في سهولة ويسر المشاكل التي يتعرض لها العالم الإسلامي في علاقاته معهم

والباكستان - مسقط رأس خواجة كمال الدين - الدولة الإسلامية الفتية التي تسير في الطليعة رافعة علم الإسلام عاليا أمام العالم الإسلامي، ليس لأنها أكبر دولة إسلامية، بل لأن المسلمين فيها تدفعهم جميعا رغبة عنيفة ملحة لخدمة مبادئ الدين بأوسع ما في الخدمة من معنى، والباكستان نفسها مدينة بما يضطرم في نفوس أبنائها المسلمين من الحماس الديني - إلى حد بعيد - إلى خواجة كمال الدين

لقد قدر لبعض الناس في سير الحياة أن يؤسسوا الممالك ويشيدوا أمجادا طواها التاريخ وألقاها في نهر الحياة المتدفق ليحملها إلى ما وراء الحياة مع أصحابها، ولكن الله أراد أن يكون خواجة كمال الدين الدعامة التي قامت عليها نهضة الدين الحنيف، ذلك الدين الذي يدعونا إلى محبة الذين حولنا، وهذا الشعور هو أثمن ما ربحته الإنسانية في مسيرها الطويل من تراث خالد عظيم. .

رحم الله خواجة كمال الدين رحمة واسعة. بما قدم للإسلام من خدمات ستبقى ما بقي الدين مشرقة مع الشمس والقمر. ذلك المجاهد الذي كان يقنع من دنياه بمائدة يستعملها في النهار للكتابة والطعام، وينام عليها إذا أقبل الليل في وكنج

وحيا الله الأمة الباكستانية العظيمة التي أنجبت خواجة كمال الدين، ومكن لها في دنياها ودينها، ونصر بها الحق، وأمدها بروح من عنده

بغداد - أعظمية

علي محمد سرطاوي