الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 931/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 931/الكتب

بتاريخ: 07 - 05 - 1951


ديوان الأعشى الكبير

شرح الدكتور محمد حسين

للأستاذ أحمد بك رمزي

أهدي إلى الدكتور محمد حسين، أستاذ الأدب العربي بجامعة فاروق نسخة من ديوان الأعشى ميمون بن قيس، الذي قام بشرحه والتعليق عليه، وقد وجدت نفسي إزاء هذه اللفتة الكريمة، وأمامي مجلد ضخم من الشعر الجاهلي، تأنق الأستاذ الكريم في إخراجه للناس، بعد أن بذل الجهد في تحقيقه. فهو يقول إن صلته بالأعشى بدأت عام 1934 حينما كان طالبا بقسم اللغة العربية بجامعة فؤاد، فأتخذ العصر الجاهلي ميدانا لدراساته وأبحاثه، وجاء ديوان الأعشى باكورة لعمله العلمي، أرجو أن يتبعها الكثير من تحقيقه، وقد أكبرت فيه همة إخراج هذا العمل العظيم، أقول ذلك وليس الأدب صناعتي، لأني أقر بأن بضاعتي قليلة فيه، أقول هذا من غير تواضع وإنما لأقرر حقيقة واقعة، فأنا أتذوق الأدب العربي وغيره من آداب اللغات الأجنبية، أتذوقه كما أتذوق الموسيقى الحية، ولست من أهل الموسيقى، لأن الأدب في نظري فن رفيع، ولا يمكن للإنسان أن يحيا ويعيش من غير أن يتذوقه، بل أذهب إلى أكثر من هذا فأقول إنني أحب معاشرة الأدباء وأهرع لمجالستهم وترتاح نفسي إليهم، بل أعد كل لحظة أقضيها معهم متعة لي، ويرجع هذا إلى ما ألمسه في الأديب من رقة الإحساس وجمال الطوية، بل إنني أراهم من خيرة الأنام وسط هذا العالم الذي وجدنا أنفسنا ونحن نعيش فيه، فدخلنا في أوساطه وولجنا غمرته، وفيه الحسن والسيء من الناس والأشياء. فهل غريب علينا أن ننعم بما فيه من أطيب الأشياء، والأدب والأدباء هم في الحقيقة من أطيب النعم التي جاء بها هذا الكون على الناس، ولذلك فإني أشكر الأستاذ الدكتور محمد حسين إذ أتاح لي أن أعيش في جو شاعرية الأعشى فترة من الزمن، وسط مشاغل الدنيا ومتاعب الناس. . . أذكر أنني قرأت في كتب الأدب أن الأعشى كان أول من سأل بشعره وانتجع أقاصي البلاد وكان يغني به فسموه (صناجة العرب) ولست أشك في شاعرية الأعشى، ولا أقلل من قوة ومتانة الشعر الجاهلي وأثره في حياة العرب، بل أن الأمة التي أخرجت هذه الثروة الأدبية وقامت عليها دعامة الإسلام، لا بد أن أراضيها وبقاعها كانت أكثر جمالًا وعمراناً مما هي عليه الآن، ولي في هذا الرأي ما يمكن أن يقنعني ويقنع الناس بصحة ما أقول

ومع هذا فإني قد أنست بقراءة جزء كبير من شعر الأعشى وسأعود إلى شعره من آن لآخر، لأنه مورد لا ينضب، فيه كل الدوافع التي تحتاج إليها النفس، لكي تتريض على مواجهة حوادث هذه الحياة المرة

لقد قرأت له قصيدته التي مطلعها:

ذريني لك الويلات آتى الغوانيا ... متى كنت زراعا أسوق السوانيا

فما وصلت إلى البيت السابع الذي يقول فيه:

وإن بشر يوما أحال بوجهه ... عليك فحل عنه وإن كان دانيا

حتى وقفت أمام هذه الفلسفة التي تتمثل في حياتي التي أحياها اليوم، فكأن الأعشى يعبر عن كل ما خالج نفسي وملأ ضميري، وكأنني لم أفقد شيئا من محاسن الدنيا حينما أخذت بهذا الرأي

ويفسر الأستاذ الدكتور هذا البيت بقوله:

(وإن صد عنك رجل من الناس، فاصدد عنه كائنة ما كانت قرابته) كما فسر مطلع القصيدة. يقول:

(ذريني - لك الويل - أمتع نفسي من النساء: فما أنا بصاحب زرع؛ ولا أنا ممن يسوق الجمال)

وأختلف معه في تفسير كلمة زرع هذا التفسير، فأقول أنه يقصد الذرع من باب ذرع، وهو مما يذرع به. أي أنه يسوق الإبل فيقطع بها المسافات البعيدة فيسلمها لأصحابها ويعود ليسوق غيرها، فكأنه ذراع يقيس المسافات ويتلقى أجره عليها، ولا يستقر به مكان، فهو لا يقصد هنا صاحب زرع وقوله (ولعله من ساس الدواب يسوسها سياسة إذا قام عليها وراضها) ويظهر من شعر الأعشى أن المكلفين بإيصال الإبل وقطع الفيافي كانوا يتقاضون أجورا باهظة: ولقد عشت في وقت كانت قطعان الإبل تمر على بلادنا بإقليم الشرقية جماعات طويلة يقودها رجال من نجد يلهجون بلغة بدوية، ولهم مصطلحات في أنواع الإبل وجماعاتها وسيرها وركبها، ولا يزال تجار الجمال في فاقوس وبلبيس يستوردونها من الشام رغم قيام إسرائيل بين مصر وجزيرة العرب، وهم يجمعون الثروات من ذلك

وأقول أنني معجب بطريقة الدكتور محمد حسين في الشرح والتعليق، وأكثر من ذلك أعجب بحله لأشعار الأعشى نثراً وأمام كل بيت، أن هذا المنهج إذا أتبع مع دواوين الشعر لجعل الأدب العربي تحت متناول الناس جميعا: ولذا فمنهج الأستاذ فتح كبير للأدب العربي، ويذكرني هذا بما قرأته في كتاب المثل السائر حين يقول صاحبه: (ولقد مارست الكتابة ممارسة كشفت لي عن أسرارها. . . فما وجدت أعون الأشياء عليها إلا حل آيات القرآن الكريم والأخبار النبوية وحل الأبيات الشعرية)

ثم ذكر أن حل الأبيات الشعرية ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول - أن يأخذ الناثر بيتا من الشعر فينثره بلفظة من غير زيادة

الثاني - وسط بين الأول والثالث

الثالث - أن يؤخذ المعنى فيصاغ بألفاظ غير ألفاظه، ثم يتبين حذق الصائغ في صياغته، ويعلم مقدار تصرفه في صناعته

ثم ساق أمثلة كثيرة على ما يقول. .

وأكرر قولي بأني أعجبت أيما إعجاب بما قام به الأستاذ الدكتور محمد حسين من حل أبيات ديوان الأعشى. فأي طريقة من الطرق الثلاث اتبع؟ أغلب الظن أنه أخذ بالثلاثة منهاج

ولا أخفي على القارئ أنني بدأت القراءة في شعر الأعشى بنثر الأستاذ الدكتور محمد حسين، ولا أبالغ إذا قلت في أن محاسن شعر الأعشى قد بدت في نثر الأستاذ قبل أن أقرأ النظم، بل أن شاعرية الأعشى تضاعفت في ذهني لدى قراءة شعره بعد أن استحضرت المعاني في نثر الأستاذ الشارح، وهذا ما أقول عنه أنه فتح جديد، وتمهيد لدراسة الأدب العربي، وجعله تحت متناول شعوب العرب، وهم ملايين الناس قد انقطعت الصلة بينهم وبين ماضيهم وتراث أسلافهم، فعمل الدكتور إذا سار فيه وقدر لغيره أن يسير على منهاجه، وأن تطبع دواوين الشعر وما جاء في كتب السلف على هذا النحو، سيهز العربية هزا، وسيجعل الآلاف من أبنائها يرتشفون محاسنها، ويعودون إلى جمالها، ويحنون إلى أيامها، ويعرفون من ماضي لغتهم ما يجعلهم يعتزون بها ويغارون عليها،، ويتغنون بها ويتمثلون بشعرها

انظر إلى نثره. .

(قالت سميه، إذ لاح لها البرق من فوق الجبال:

يا حبذا وادي النجير، وحبذا قيس، رجل الخير والإفضال. .

القائد الخيل الجياد الضوامر، تمضي في عدوها كالسهام. .

والمتعفف عن الكسب الخبيث إذا تهيأ للقتال)

يبدو الكلام لي هنا، وقد أخذ الشارح بالطريقة الأولى أي أخذ الناثر بيتا من الشعر فنثره بلفظه، وقد جاء الحل هنا من غير زيادة، ولكنه نثر شعري يحمل قوة الأصل ومتانة لفظه واسترساله، ولا عيب بتاتا فيه

والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد تكون هذه الفقرة أسهلها، ولذا أجزم بوجود فقرات وجمل كثيرة تزيد عليها فصاحة وجمالا،

فلله دره وألف شكر على هديته، وعلى ما بذل من جهد في إخراج شعر الأعشى إلى النور

أحمد رمزي

المدير العم لمصلحة الاقتصاد الدولي