الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 927/فن القيادة

مجلة الرسالة/العدد 927/فن القيادة

بتاريخ: 09 - 04 - 1951

3 - فن القيادة

للكاتب الفرنسي أندريه موروا

بقلم الأستاذ محمد أديب العامري

وفي الختام لابد للزعيم من أن يجمع في حسبانه بين والتقاليد والعادات. اجل إن الحياة عنده والبقاء فضيلة، ولكنه يبني بناء المستقبل من مواد الماضي المتينة، فيسكبها في قوالب تخضع لحاجات الحاضر، لكنه لا ينبذها. ولقد أوضح (كبلنغ) في قصة رائعة كيف يعاقب آلهة النهر بنائي الجسور الذين يخرجون على القوانين القديمة في الأعمال. إننا نحن رجال القرن العشرين المسلحون تسليحا عجيبا للتغلب على العالم لكن للعالم أساليب شنيعة في الانتقام لنفسه، ولا يسهل علينا دائما أن نبصر جرائر أعمالنا. ففي الثورة مثلا يقوض الناس وسائل الدفاع المعهودة في البلاد غير أن هذا الرأي لا ينكشف إلا في النهاية. فالثورة الفرنسية انتهت بعهد الرجمة إلى الماضي أما الزعيم الحكيم فلا ينسى أن ما ينشره العراف لا تلتئم أطرافه بعد أن يكون السحر قد فعل أفاعيله.

ومهما يكن مركز الزعيم، وزيرا أو مديرا، أو رئيس مكتب، أو بناء، فأنه يتصل بتابعيه بطرق ثلاث: بالأوامر التي يصدرها والتقارير التي يتلقاها والتفتيش الذي يجربه. أما الأمر فيجب أن يكون واضحا، إن التخيل والتفكر يمكن أن يكون غامضا، والخطة التي لم تنفذ بعد يمكن أن تحمل في تضاعيفها آثار الرؤيا. أما الأمر فيجب أن يكون واضح المعالم، وجميع الأوامر يمكن ان يساء فهمها. لكن الأمر الغامض لا سبيل إلى فهمه قط. قال (نابليون): (إذا أردت أن تقوم بعمل قياما حسنا فأده بنفسك) ولكن هذا غير صحيح. أما القائد الحصيف فيعترف بأن الذين يدركون الأمور من الناس قليل، وأن جميعهم على وجه التقريب ينسون، فليس من الممكن إذن أن يقنع الآمر بإصدار الأمر، وإنما يجب أن يراقب تنفيذه وأن يتبصر عند إصدار الأمر بأي سبب يمكن أن يعوق تنفيذه، ولا جد لبلادة الناس ولا لسوء الطالع، ولذا يتوقع الزعيم دائما حدوث ما لا ينتظر. والزعيم الذي يسعى للحيلولة دون عوامل الخطأ ويحتاط لنقاط الضعف في الخطط؛ أقوى على تنفيذ ما يريد عندما يواجهه الناس بغبائهما وتعارضه الصدف السيئة، من زعيم آخر لا يحتاط لهذه الأمور.

والحاجة إلى هذه الاحتياطات تكون أقل إذا فاز القائد بجماعة من حوله علمته التجارب أنه يستطيع الاعتماد عليهم ولكل زعيم وطني وزارته كما لكل قائد عسكري أركان حربه.

وهؤلاء المساعدون يعرفون خصائص زعيمهم كما يعرفون سبيلهم إلى خدمته، وهم لذلك يدركون تعليماته في سرعة متناهية ويراقبون تنفيذها إلى آخر حرف فيها، غير أن عدد الذين يمكن الاعتماد عليهم من الناس في هذا العالم قليل. وقد روى عن (الرئيس ولسون) قوله: إنه كان يثق بالبشرية، ولكنه كان لا يثق بالرجال جميعا أما القائد الصحيح فيشك بالبشرية ويثق بعدد قليل من الرجال.

وكيف السبيل إلى اختيار هؤلاء الرجال؟ إن أول واجبات الزعيم أن يتعرف إلى جماعات منهم يستطيع أن يختار منها أعوانه، ومن الصفات القوية في (المارشال بيتان) التي برزت عندما تولى قيادة الجيش الفرنسي كانت أستاذيته السابقة في الكلية العسكرية التي مرت على يديه فيها أجيال من الضباط الأحداث وكان (جامبيتا)

يتجول في كل ناحية من فرنسا ليتعرف إلى القضاء في دوائره.

والرجل الذي يكتسب شرف القيام بحكم بلاد يجب أن يحاول اكتشاف أحسن الرجال لأهم الدوائر الحكومية - وليس عليه أن يستفيد مما يجد بين فحسب ولكن واجبه يقضي عليه كما تقضي عليه مصلحته أن يخلق مواد جديدة. وتقوم الأحزاب السياسية خارج فرنسا بهذه المهمة. فالمحافظون مثلا في إنجلترا يصنعون هذا. إنهم يرقبون يقظة الجامعات الكبرى يرجون أن يجدوا فيها شبابا يتحولون في المستقبل إلى ساسة، وهنالك كلية خاصة فإذا أثبتوا ذكائهم فإن الحزب يكسبهم مقاعد في البرلمان كما يحاول رئيس الوزراء أن يقدم للأحسن منهم الفرص الممكنة فيبوئهم مراكز لمساعدة كوكلاء في البرلمان ولابد لزعيم الحزب من أيجند للحزب من حزبه رجالا يصلحون للحكم. وهذا الواجب يقع كذلك على مديري الأعمال الكبيرة ولا ريب أن بعض هؤلاء يدركون هذه الناحية فمدارس (كروسو) مثلا تدار بمهارة تدعوا للإعجاب فتهيئ لكل طالب الفرصة اللازمة ليتبوأ على المراكز التي تؤهله لها ملكاته

ومن الصعب في غالب الأحيان إيجاد التفاهم التام بين المساعدين إذ من الضروري هنا نفي التعصب أو التحزب المحلي في أية دائرة لتنسجم تلك الدائرة مع المصالح الأخرى، ففى السكة الحديد مثلا حيث تنشأ الخلافات بين الإدارة والأقسام الفنية أو في قيادة الجيش حيث ينشأ التشاحن بين مركز القيادة والضباط في الميادين في هذه الحالات يجب أن يدرك كل إنسان أن الجيش أو المعمل أو البلاد تشبه جسماً حياً قائما برأسه وأن أي اضطراب يقع بين أعضائه إنما يكون انتحارا محضا.

وكثيراً ما يقع أن المساعدين الذين يعجبون برؤسائهم ويخلصون في العمل لهم يتغلب عليهم الحسد بعضهم مع بعض بشره عنيف في التماس رضاهم، فيجب أن يحسب لهذه الحالات المتعبة حسابها وأن يعالجها المعالجة اللازمة لأنها ذات خطر كبير في نظام العمل، وكما يستطيع السائق الماهر الخبير أن يعرف بالإصغاء إلى آلة سيارته أن إحدى أسطواناتها لا يقع فيها اشتعال كما يجب، كذلك الزعيم الموهوب يعرف أن مساعديه لا يؤدون الخدمة اللازمة له، فيفتش عن السبب ويتوصل إلى معرفته وكثيراً ما يكون السبب تافها - قد يكون شيئا من الاتساخ في آلة الاشتعال، وقد يكون هزة للأكتاف لا تزيد عند تحليلها على حركة عصبية تؤول على أنها تحقير مقصود.

ويتلقى الرئيس تقارير عن نشاط موظفيه ونتائج التعليمات التي أصدرها إليهم وهو يطالع هذه التقارير في حذر وشك ولقد أعرف رئيسا لمصنع كان يقول أن جميع التقارير كاذبة. وكان على حق لأن كل شيء فيها تقريبا عرضة للمبالغة والتشويه والطريقة الوحيدة لتجنب الخطأ في الحقائق هي أن يجري المسؤول تفتيشا خاصا بنفسه من آن لآخر، ويكون لهذا التفتيش نتائج فعالة للغاية كما تكون الفكرة الناتجة عنه صحيحة ومدعاة لتصحيح للتقارير التي ترد فيما بعد، ويذكر (المارشال بيتان) حكاية وقعت في سنة 1951 عندما عين قائدا في إحدى القطاعات التي طالبت فيها القيادة العامة بالهجوم مرات متوالية كانت البلاغات الصادرة تدل على تقدم بطيء وخسارات فادحة فلما شك (بيتان) في الامر شخص إلى الجبهة ومعه المراصد اللازمة فوجد البلاغات قد شوهت لغاية إرضاء القيادة العليا وأن الانتصارات كانت خيالية لا أساس لها من الصحة والتقارير التي ترفع لأولي الأمر تكون دائما مرضية أو تقدم على شكل يرجع النظريات التي يؤمن بها صاحب التقرير

والقائد الذي يطالب موظفيه بما يريد يستطيع دائما أن يكسب عطفهم أكثر من قائد لا يبالي بالأمور. وأمثل الطرق لفرض الحزم في العمل هو أن يحيط القائد نفسه بالأشخاص الذين يجد فيهم من الصفات ما يرضيه ومن العادة أن يتقبل أي إنسان النقد إذا لم يكن هذا النقد موجها إلى خلفه أو إلى ذكائه والخطة الحكيمة في هذا الصدد أن يعرب المسؤول في سرعة وقوة عما يحس إحساسا قويا. وإذا وجه توبيخ قاس بسرعة فإنه يكون أقل إيلاما من الإبانة عن عدم الرضا المشحون بالكراهية. ويجب أن يدرك المأمورون أنهم عرضة للعقوبة إذا لم يقوموا بتنفيذ الموجه إليهم، كما يجب أن يعلموا حق العلم أنهم معفون من جريرة تنفيذ الأوامر التي تؤودي إلى تهلكة والقائد الحكيم يتحمل دائما المسؤولية الكاملة فيما يقوم من أعمال

والقائد المدافع الطبيعي عن شعبه ضد عدوان المعتدين. ومن اللازم أن يراقب قائد عماله أو جنوده أو يجاريه ليستوثق من أن المعاملة التي توجه إليهم من رؤسائهم عادلة محترمة. وهذا أصعب واجبات القائد، إذ يجب عليه أن لا يضعف من سلطة مساعديه ولا يصبر على التصرفات المسيئة التي يقترفها أصحاب السلطة منهم. وليس من قاعدة هنا يمكن سنها، وإنما يحاول المسؤول أن يرفع كفة ويرجح أخرى حتى يحفظ التوازن المطلوب ومن واجبات الزعيم أن يتنبأ ما استطاع بالتذمر الذي يمكن أن يقع فيعالجه كما يعالج الظلم قبل تقديم الشكايات. وللوصول إلى ذلك من الاتصال المستمر بالرجال الذين يعملون معه وهذا يعنى أن ينزل إلى الخنادق إذا كان قائدا عسكريا وأن يراه العمال قائما بينهم زائرا لهم آونة وأخرى إذا كان مديرا لعمل. ولابد للزعيم من خيال يسعفه فالاطلاع على حياة الآخرين شيء ضروري له لكي يتمكن من حماية الذين يكابدون المتاعب منهم. وسر الوصول إلى محبتهم أن يشعر معهم وأن يستطيع مساعدتهم في أعمالهم بالقدرة التي يستطيعون القيام بها هم أنفسهم. والناس يصبرون على تلقى الأوامر بل يحبون ذلك إذا كانت هذه الأوامر تلقى صحيحة واضحة.

ويختلف الحكم على القيادة في الفن اللازم لهما زمن السلم فالقيادة تعني إيصال جماعة من الناس تحت نظام صارم إلى غاية معلومة. والضابط في الجيش يعلم أن رجاله يطعيون إلا في الحالات النادرة من العصيان الخطير. وهو يحيط إحاطة تامة بالغاية التي يرمي أليها سواء كانت دفاعية أو كانت للاستيلاء على مقاطعة معينة. ورئيس مشروع تجاري كبير مثلا يعلم أنه يجب أن ينتج بضاعة من البضائع بسعر معين ومقادير محددة كما يعلم أن فشله يؤدى إلى دمار المشروع والى تعطل موظفيه وعماله ومن المعتاد أن يكون قادرا على السيطرة على الموقف مادام يتبع الأنظمة إلا في حالات يضطرب فيها النظام الاجتماعي والحاكم المطلق كالقائد العسكري يقود ولا يحكم.

أما رئيس الحكومة في أمة حرة فيوجه البلاد إلى أهداف متغيرة ويدير أعمال جماعات من الناس غير مكلفين بالطاعة ألا بعامل الخوف من الفوضى. وهذا العامل غير موجود في أيام السلم. ولا يستطيع أن يقوم بأي عمل دون أن يوجه أليه خصومه النقد بقصد إحلال رجل آخر مكانه في غير لين ولا رحمة ومساعدوه في هذه الحالة لا يبدون له الاحترام اللازم فإنهم أكفأ له وإن منهم خلفاءه في المستقبل.

وهنا يرد السؤال: ما هي الصفات التي نتطلبها في رجل تلقي أليه أعباء إدارة شؤوننا؟ وأول ما في هذا الباب هو إحساسه بما يمكن وما لا يمكن. وفى الأعمال السياسية يعتبر من العبث أن يخطط القائد لمشاريع عالية عظيمة إذا كانت حالة البلاد لا تأذن بتنفيذها. إن دوافع الشعوب الحرة تشبه متوازي القوى، فالسياسي العظيم يدرك كل الإدراك ماهية القوى ويخاطب نفسه دون أن يرتكب خطأ شنيعا فيقول: (أنني أستطيع أن أمضي إلى هذا الحد لا غير) ولا يسمح لنفسه أن ينحاز إلى طبقة متجاهلا رد فعل الذي يحدث عند الجماعات المهملة. والطبيب الحصيف لا يداوي مريضا من شكوى خفيفة عابرة بعلاج يولد مرض في الكبد. والسياسي العادل لا يرضي الطبقة العاملة على حساب الطبقة البرجوازية، ولا يطلق العنان للبرجوازيين على حساب الطبقة العاملة. وهو يجهد أن ينظر إلى الآمة نظرة إلى جسم حي كبير تعتمد أعضاؤه بعضها على بعض. وهو حرارة الرأي العام كل يوم، فإذا ارتفعت هذه الحرارة أعد العدة لتلافى الأمر وإراحة الأمة.

وهو يدرك الإدراك كله قوة الرأي العام ولكنه كسياسي ماهر يعرف انه يستطيع أن يؤثر فيه بسهولة فأنه يعرف قوة الشعب على عدم الاكتراث بمجهوده، وأن للناس ساعات يبدو فيها منهم العنف، وحق لهم أن يفعلوا إذا كانت الحكومة تجلب لهم الفقر وتحرمهم ما ألفوا من حرية أو تتدخل في حياتهم الخاصة. غير أنهم يرضون أن يسير بهم رجل يعرف إلى أين يتجه ويبدى لهم بوضوح اهتمامه الصميم لمصالح الأمة وأنهم يمكن أن يركنوا أليه ويعتمدوا عليه.

أما القدوة على معرفة ما يمكن وما لا يمكن فليست تعني استحالة بعض الأشياء لأن هذه صفة سالبة، ولكنها تعنى وقوع الأحداث التي تظهر عسيرة جداً. إن الرجل السياسي العظيم لا يقول لنفسه (هذه الأمة حفيفية) ولكنه يقول هذه (الأمة نائمة وأني سأوقظها) إن القوانين والأنظمة والمؤسسات من صنع الناس ولذلك أستطيع أن أغيرها عند الحاجة.

وأهم من ذلك كله أنه يتبع العزيمة والتصميم أعمال لا أقوال فقط. إن صغار الأحلام من السياسيين ينفقون معظم أوقاتهم في رسم الخطط والدعوة إلى المذاهب. إنهم يتحدثون عن الإصلاح والبناء ويخترعون أنظمة اجتماعية معصومة من الخطأ ويسنون خططاً لسم دائم ولقد قلنا عند بحثنا في فن التفكير أن المشروع شيء والعمل شيء آخر إن السياسي الصحيح يعرف عند الحاجة كيف يحترم في خطبه العامة النظريات الحديثة ويصرح بعبارات جذابة بفائدة الرجال الذين يحرسون أبواب المعابد، ولكنه من حيث الواقع إنما يعمل لسد الحاجات الحقيقية التي تحتاج أليها الأمة. فهو يقول مثلا. إن فرنسا سنة 1939 ينبغي أن تؤمن السلام قبل أي شيء آخر وأن تنشئ لنفسها دفاعا جويا بإنشاء عدداً أكبر من الطيارات وأن تزيد إنتاجها من الصناعات الأخرى، وأن تنظم أحوالها المالية تنظيما وطيداً. وهو يعمل على إنجاز هذه الأهداف الواضحة الصحيحة بأحسن الطرق التي يراها فإذا صادف عقبات في سبيله فأنه يدور حول هذه العقبات أما الغرور والكبرياء الثقافي والشعور بالحاجة الشديدة إلى نظام شديد زائد فأنها موانع خطيرة في وجه السياسي. وبعض زعماء الأحزاب على استعداد لتضحية بلادهم من أجل نظرية أو مجموعة من المبادئ. أما الزعيم الحقيقي فيقول: فلنتنح عن المبادئ ولنخلص البلاد) هل يكون علمه مبتورا؟ هل يعقب ذلك ظلم؟ إنه يدرك أن هذه ممكنات، وكل عمل معقد لا يتم بكامله. وفي كتاب (لجورج برنادو) يحاول كاهن مسن أن يعلم كاهنا صغيرا أن القديسين أنفسهم لا يستطيعون أن يحولوا ديرا إلى مجموعة من الأولياء ذوى الاستقامة والصدق التامين ولكي يدلل على هذا يروى الشيخ حكاية امرأة بلجيكية أرادت أن تحول كنيسة غير نظيفة إلى معبد نظيف مشرق النظافة فقامت على مهمتها وأخذت تزيل الغبار المتراكم ولكن طبقة من الغبار الجديد كانت تتراكم كل صباح كما كان العشب يبت هنا وهناك وتنسج العناكب خيوطها في الزوايا غير أن المرأة لم تيأس واستمرت في التنظيف والغسل، فأخذ الطحلب ينمو على رؤوس الأعمدة وتراكم الوسخ في الكنيسة أيام الآحاد. أما أيام الأعياد فقد أرهقتها وذهبت بقوتها واستمر الرجل المسن يقول (ولقد كانت مجاهدة ولا شك، ولكنها كانت مخطئة، وخطؤها لم يكمن في حملتها في سبيل النظافة ولكن محاولتها التخلص من الوسخ بتاتا، كأن شيئا مثل ذلك ممكن. إن الكنيسة مكان لابد من أن يظل متسخا.

والقارة أشد اتساخا من ذلك،

وخاصة إذا كانت قارة عجوزا مثل أوربا، غزتها طوال أجيال عديدة أعشاب والنمال بالكراهية والمرارة. وكان (ولسون) أشبه ما يكون بالمرأة البلجيكية فقد أراد أن يحيل هذه الأرض العتيقة المغبرة في سرعة مفاجئة إلى حلف من المحامين، كانت فكرة بديعة ولا ريب ولكنها كانت مستحيلة التنفيذ كما يستحيل اليوم أن نحاول تنظيف أوربا على أساس الواقع فيها مرة واحدة والى الأبد. والسياسي العظيم مثل الخادم البارع يعلم أن التنظيف عملية يجب أتتم كل صباح وهو يرى الشجار شيء طبيعي فيتحمله بصبر لأن شجارا آخر سيحدث على أثر ما يهدأ الشجار الأول، وهو يوافق على إجراء تسوية مؤقتة وإن كانت لا تكفل له ما يرد، لأنه يعلم أن لاشيء في الحياة البشرية يكفل لأي إنسان كل ما يريد بصورة دائمة. والسلم عالمية أو اجتماعية لابد أن تجئ وإن حالت ذلك عقبات متكررة فتمر سنوات عشر أو عشرون يتم خلالها عمل الجيل ثم يتبع ذلك جيل آخر يمارس حياته اليومية من جديد.

ومن حق الزعيم الذي ينال لقبه عن جدارة أن يكون مطاعا. فالمجتمع البشري الذي لا يستطيع أن يولي زعماءه الذين أختارهم الاحترام اللازم مجتمع مقضي عليه، لأنه لا يستطيع العمل. ولا مانع بالطبع من أن يفضل المجتمع نظاما من الحكم على نظام ففي زمن الحرب مثلا يضطر إلى أن يستبدل بالنظام المدني النظام العسكري، فإذا تم ذلك وجبت الطاعة للزعماء الجدد. أما عدم النظام فيحتم الهزيمة في الجيش والدمار في الصناعة وأما المجتمعات التي تقع تحت رحمة الأنظمة المتضاربة فتنظيمها سيئ فمن ذلك أن يتقسم العمال داعيتان مختلفان، صاحب العمل والنقابة. وهنا يجب أن تعرف حدود صاحب العمل وحدود النقابة معرفة واضحة. فإذا تم ذلك كان لكل منهما سلطان مطلق في الناحية التي يختص بها: وقد دلت التجربة في إنجلترا والبلاد الاسكندنافية على أن ذلك ممكن.

ومن حق الزعيم أيضا أن يحافظ على زعامته، إذ كيف يستطيع زعيم أن يصل إلى نتائج حسنة دون أن يكون لديه الوقت الكافي. وقبل أن يعهد إلى رجل بإعادة تنظيم مستعمرة أو تأسيس مصنع للطيران، من المحتم أن يجرى بحثا واسعا وأن نثق أن هذا الرجل هو أحسن الناس للمركز المطلوب: لكن إذا اختير الرجل كان من الواجب إفساح المجال له وإطلاق يده إلا في الحالات إلى يتضح فيها أن خطأ وقع في الاختيار، وأن الرجل غير جدير بالثقة. إن الوقت يتيح للإنسان إنشاء علاقات لا حصر لها ويسهل له الاضطلاع بأعباء السلطة.

وكيف يستطيع المرء أن يوفق بين الإدارة الحازمة والوقت اللازم لها وبين حق الناس في الانتقاد بحرية؟ ألا يتحول قائد له سلطات مطلقة لا كابح لها إلى رجل عسوف أو مجنون؟ أما (الدوس هلسكي) فقد أخترع أخبار (لعبة القيصر) فنظر في أصدقائه على أساس ما يصنع منهم كقيصر لو أسندت إليه السلطة العليا فلم ينجح في الاختبار إلا عدد قليل. ومن الواضح أن النقد ضروري ولكن السؤال هنا هو ماذا يستطيع النقد أن يفعل وإلى أي حد أن يذهب؟

أما في الجيش وفى الأعمال التي تتطلب أجراء مباشرا فتجب الطاعة العمياء ويجئ النقد هاهنا. من القادة أنفسهم أما في الحالات العادية من حياة الناس الحرة فإن كل إنسان يملك حق النقد في حدود يعينها الاختبار، فإذا أجمعت الأمة كان من الواجب أن يتغير قادتها من وقت إلى أخر لكن يجب أن لا يشهر بهم ولا أن يتغيرا مرات عديدة أو يسيرهم رجل الشارع وفى إنشاء الحرية الصحيحة يجب أن يقوم ذلك لا على قوانين عادلة فحسب ولكن على أخلاقية قويمة أيضا وعلى درجة استحقاقنا للحرية كشعب تقررها قدرتنا على احترام الزعيم النظامي وعلى الموافقة على المعارضة والإصغاء إلى ما تقول به وأن نضع صالح الأمة فوق صالح الأحزاب والنفع الخاص وليست الحرية شيئاً غير قابل للضياع إنها منحة هامة ولكنها عسيرة المنال ويجب أن نتمسك بها دائما أبداً.

هذه التربية الخلقية التي أشرنا أليها أشد ضرورة للذين كتب لهم أن يقودوا الناس إذ بالإضافة إلى قدرة الزعيم على ضبط رفاقه فإنه يجب أن يكون ذا إحساس قوى بالواجب وهو لا يستطيع الاحتفاظ بمركزه إلا إذا أثبت كل يوم أنه جدير به. وليس زعيما قط من إذا وضع على رأس جماعة أو مشروع حاول أن يجلب النفع لنفسه وليس زعيما من يرضي بقيادة في جيش ويجعل لذاته فوق واجباته. وليس زعيما كذلك من يقع فريسة الغضب أو التحيز، ولا من يضحي وهو ممثل دبلوماسي بمنفعة بلاده الخارجية في سبيل المؤامرات والمشاحنات الداخلية. إن مجال الطبقة الحاكمة هو الإدارة أي توجيه البلاد في سبيل الشرف والعمل. والقيادة ليست ميزة ولكنها أمانة وشرف.

محمد أديب العامري