الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 927/جي دي موبسان

مجلة الرسالة/العدد 927/جي دي موبسان

مجلة الرسالة - العدد 927
جي دي موبسان
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 09 - 04 - 1951


بمناسبة مرور مائة عام على ولادته

للأستاذ إسكنندر كرباج

ولد جي دي موبسان في قصر ميرومنسيل في نور منديا. وهو من جهة أبيه ينتسب إلى أسرة شريفة مفلسة، ومن جهة أمه إلى عيلة وضيعة من الفنانين. وكان والده رجلا فاسقا وأمه امرأة فاضلة. وعندما أخذ الابن يلاحظ ما بين أبيه وأمه من التناقض في الأخلاق والنزعات، أدرك وهن اتحادهما الذي هو إحدى ثمراته وراح يرتاد البحر ويود اقتحام غمرتنه، لاعتقاده أنه يمثل كل ما في الحياة من خير وشر، وبؤس ونعيم، فكان يقضي معظم أوقاته متجولا في السواحل برفقة كلبين كبيرين وكان من أحب الأشياء إليه الاشتراك مع قرويي نور منديا في الألعاب الرياضية تحت سماء غائمة وفي مهب الرياح الباردة، والرقص مع الصبايا على نغمات الرباب وفى ظل أشجار التفاح المزهرة وكان يجلس مع النوتية على صخور الشاطئ، ويقضي وقتا طويلا وهو ينظر بمنظاره إلى الأفق البعيد، متمنيا أن يتجه بزورقه في صباح نير من أيام فصل الربيع إلى ما وراء تلك الشواسع المائية من الموانئ المجهولة.

وأرادت أمه أن يترهب فأدخلته أحد الأديرة إلا أن موبسان لم يكن راغباً في الترهب فصرف المدة التي قضاها في الدير ثائراً متمرداً، لا يخضع لنظام ولا يتقيد بقاعدة وفى ذات يوم كسر غطاء أحد دنان الخمر وراح يكرع منها مع رفاقه التلامذة وعندئذ عيل صبر رئيس الدير فأمر بطرده.

ثم انصرف موبسان إلى درس الحقوق غير أن نشوب الحرب بين فرنسا وألمانيا عام 1870 اضطر إلى هجر المدرسة ودخل في دائرة تموين الجيش. وبينما كان الجيش الفرنسي يتراجع أمام هجوم الألمان العنيف، وكان موبسان يطالع كتب شوينهور وينظم الأشعار في الحب، ويعلل النفس بالانتقام من العدو الذي أجتاح أرض بلاده، وداس حرمة أمته. ومن برودة الانتقام وحرارة الحب تكون مزاج هذا الكتاب الفني ولما انتهت الحرب بانتصار ألمانيا، قصد موبسان باريس على أمل أن يجيد عملا يساعده على متابعة دروسه فدخل موظفا في إحدى الدوائر البحرية ولم يكن بين رؤسائه ورفاقه من يعتقد بأن ذلك الأسد الثائر يتحول إلى حمل وديع.

أما باريس وشعبها وأنديتها وكبار شخصيتها فكانوا لا يعرفون عن هذا الفتى شيئا وعبثا كان يقصد ليلا إلى البوليفار، ويأخذ في التطلع إلى أوجه المارة، وعلى نور مصابيح الغاز الضئيل لعله يكتشف بينهم روحا شقيقة لروحه، فيأنس إليها ويبثها ما في قلبه من حنين وشجن. وأخيرا وجد نهر السين ضالته المنشودة فأحبه وأنس به وركن إليه، لاعتقاده إنه الصديق الذي لا يخون، والرفيق الذي لا يراوغ.

فكان يقضي أيام الآحاد بكاملها ماخرا بزورقه في مياه نهر السين محاولا تبريد ما يستمر في نفسه من ميول وأهواء وكانت برودة رياح ذلك النهر الذي هو أشبه بقطعة من البحر تنسيه غبار المصلحة التي يشتغل فيها، ورائحة المقاهي التي يرتادها وضمات الغواني اللواتي يجتمع بهن وجملة القول أنه اتخذ من ذلك النهر عشيقة ورفيقه ونجيه ومهدهد أحلامه ومن قفوله في انصرافه إلى تلك الحياة البوهيمية: (لا عمل لي سوى التجديف والاستحمام، وقد اعتادت الجرذان والضفادع رؤية نور مصباح زورقي الضئيل كل ساعات الليل، وعندما أقبل عليها ترفع أصواتها لاستقبالي أما أصدقائي المجدفون فكان يدهشون عندما أطل عليهم في منتصف الليل، وأشاركهم في احتساء كأس من الشراب)

ثم تعرف مومبسان إلى الكاتب المشهور جوستاف فلوبير وكان هذا الأديب العبقري قد حوكم وقوطع بسبب روايته (مدام بوفاري) وبات منعزلا في بيته كركب فرضت عليه المراقبة الصحية، لا أحد يجسر على الدنو منه. غير أن هذا الكاتب الكبير ولم يحزن لما أصابه، أو يهتم لأنه أصبح وقتئذ لا يرسم من صور الحياة إلا بقايا ما في شخصيته التعبة من رؤى وأشباح لقد كان كملك مخلوع، قبع في هيكل للفن لا أحد يعرف مدخله سواه.

وكان فلوبير في ذلك العهد يفتش عن تلميذ نبيه، وموبسان يفتش عن أستاذ خبير يمكنه الاتكال عليه. فتفاهما وتصادقا ومزجا روحيهما في روح واحدة. وظل موبسان خلال سبعة أيام يرتاد بيت أستاذه في أيام الآحاد، حاملا إليه ما يكون قد حبره في أيام الأسبوع لكي يصلحه له. وكان الأستاذ يقلب نظره في تلك الأوراق المكتوبة، وهو يشطب بقلمه الرصاصي الأزرق ما يراه شاذا أو خطأ. ولم يطل أن اكتشف التلميذ سر فن الأستاذ، وراح ينشب سهام سخريته السامة في أكاذيب الحياة ورياء المجتمع.

وفي خلال السنوات السبع التي قضاها موبسان صديقا لفلوبير، وأرشده هذا إلى طريقة تضمن له الفوز في حياته الأدبية، وهذه الطريقة هي أن يلاحظ، أولا وثانيا وثالثا، وكل ما يحيط به ويقع تحت نظره، من مشاهد الحياة وحوادث المجتمع ولما توفي فلوبير قصد موبسان إلى بيت صديقه وأستاذه المتوفي، وعملا بوصيته له أخذ يلاحظ أولا وثانيا وثالثا، غسل الجثمان وإعداده للدفن، وحمله إلى المقبرة وإنزال التابوت إلى الحفرة. كان موبسان يقاسي صداعا لا يحتمل، ولكي يخفف من هذا الألم كان يلقى بنفسه في مياه نهر السين الباردة. ثم كان يقترب من الشاطئ ليسمع الذين تجمعوا هناك للتفرج عليه كل كلام بذيء. وكان يروي لرفاقه الموظفين قصصاً يحمر لها وجه الفضيلة خجلا، ويلقى في مسامع السيدات والأوانس اللواتي يجتمع بهن في الحفلات والمراقص كل قول ملتبس. وكانوا يتحدثون عنه ويقولون أنه أوقح رجل عرفته باريس. نعم لقد كان أوقح رجل عرفته باريس، ولكنه كان في الوقت نفسه من أكثر رجال تلك المدينة ذكاء وعبقرية. ولربما كانت هذه العبقرية نفسها سبب ما كان يعانيه في حياته المضطربة من ألم وضيق. وكان الباريسيون يتحاشونه، ويتخلفون عن مشاهدة ما كان يمثله من الروايات المشبوهة في مختبر لرسام عرف بتعشقه هذا النوع من التمثيل، ورجال الأمن يعنفونه بشدة كلما أطلعوا له على قصيده مجونية منشورة في مجلة تعني بمثل هذه المواضيع وكان كلما أشتد صداعه، ولا سيما في أيام الشتاء الباردة، يقف أمام المرأة ساعات كاملة، محدقاً إلى عينيه كأنه يريد أن يكتشف فيهما أسباب ذلك الألم وقد كتب مرة إلى أمه قائلا: (إن شهر ديسمبر يخفيني ويبعث قلبي في اليأس. إنه شهر قاتم ومشؤوم ولا سيما في منتصف ليلة آخر السنة وعندما أجلس وحيدا إلى منضدتي ومصباحي أمامي يلقي علي نوره الكئيب أشعر بانحطاط قواي إلى درجة لا أعرف معها إلى أين أتجه) ولكنه كان يتجه دائما إلى روايته وقصصه، ملتقطا مواضيعها من أفواه الصيادين والقرويين والممثلات والغواني والموظفين وغيرهم.

وأجتمع مرة بفئة من رجال الفكر والقلم في منزل إميل زولا وكانوا يتباحثون في مبادئ المذهب الأدبي الجديد الذين يريدون اعتناقه والتبشير به. وفي أثناء ذلك اقترح أحدهم وضع كتاب عن الحرب التي نشبت بين فرنسا وألمانيا، ولكن ليس كالذي اعتاد المؤرخين والسياسيون وضعه عن الحروب، بل كالذي يضعه الألبسة في الجحيم، وينقضه البشر على الأرض، أي أن يكون خاليا من الأوهام والمزاعم، لا غرض منه سوى إظهار البطولة الحقيقية. وكان من نتائج هذا الاقتراح صدور رواية لموبسان بعنوان (كرة الشحم) وقد جاءت كما أرادها صاحب الاقتراح.

لقد أظهر موبسان في هذه الرواية احتقاره وبغضه لبلادة الرجل. ولكن هذا البغض يتحول إلى شفقة في الروايات الأخرى، ولاسيما في روايته (الحلية) التي هي في نظر أئمة النقد من روائع الفن القصصي الفرنسي

كان موبسان يكثر من تنشق الأثير لكي ينسى آلامه المبرحة بما تحدثه أبخرته في رأسه من الأحلام. وكان ينفق ما يقتصده لقضاء أيام عطلة الصيف خارج باريس على شراء المسكنات. وقد كان لجوئه إلى هذه الواسطة للتخلص من أوجاعه الدائمة صورة جلية للجمال الوثني. ومن قوله: ومن قوله: (أحب الفضاء كالعصفور، والغاب كالذئب، والصخور كالغزال، والمروج كالجواد، وأحب المياه الصافية التي تطيب لنا فيها السباحة. كالسمك وأحب العالم كما تحبه هذه كلها، لا كما تحبونه أنتم أيها البشر أحبه دون إعجاب، وأنشده وأتغنى به دون شعوذة. إني أحبه حبا عميقا وحيوانيا، حبا دنيويا ومقدسا في وقت معا) وكان يظهر قلة شفقته على البشر مع أن رواياته تكذبه.

ومن قوله: (أريد أن أفتح رأس أحد الشعراء لكي أرى ما فيه).

ولكنه كان يبكي لآلام الحيوانات الخرساء ويشقي. فصياح الذئب الجريح يدمى قلبه، ومشهد جثة البغل مطروحة على بضع خطوات من المرج، الذي كثيرا ما تمنى أن يرعى فيه ويسرح، يذيب حشاشته، ونباح الكلب الجائع يسيل عبراته. وله في شقاء الكلب قصة جد مؤثرة.

ومن قوله عن مملكة الإنسان، أو الحيوان الأصغر، أن القدر يتسلط على الإنسانية

بوحشية الإنسانية في تسلطها على البغال والكلاب.

وقد نفخ في نفوس قرويي روح نورمنديا روح الحياة، وكان يتصل بهذه النفوس البسيطة لا عن طريق الروح، بل بالشعور والفطرة والشم، وقد كانت هذه الحاسة الأخيرة قوية فيه كما هي في بعض الحيوانات البرية. فكان يقف بواسطتها على تأثراتهم وغرائزهم وأفكارهم ونوع معيشتهم. حتى إن الحياة التي تختلج في صفحات كتبه كانت عابقة بمختلف الروائح ولا سيما المنتنة منها. لأن موبسان لم يكن ينظر إلى الحياة إلا من ناحيتها المنتنة فيقبض على هذه الناحية بكلتا يديه، في دعكها وعصرها إلى أن يمسخها أو يدميها.

وكان يستخدم في إعداد قصصه، حتى الشنيع منها، أسلوبا خاصا، لأنه لم يكن يرى فيما يريد أن يكتبه سواء أكان عن الأمراء أم القرويين، شيئا من التفكه أو الزهور، ومع ذلك فقد أرتفع في وصفه الألم والبلادة والسخافة إلى أعلى ذرى الفن. وكانت قصصه شبيهة بامتثال لافونتين وراويات بوكاسيو الرائعة ومن خصائص فنه القصصي تجريد أشخاص رواياته من النفس ومن أية تعزية دينية. ومع ذلك فتشاؤمه وضآلة علمه وأسلوبه المدرسي البسيط، كل ذلك يدل بأجلى بيان على أنه خير ممثل لجيله الجديد.

لم يتقيد موبسان في حياته بأي مذهب من المذاهب الفلسفية المعروفة. ومن قوله في هذا الصدد: (في العالم من الحقائق بقدر ما فيه من البشر فلكل منا فكرة خيالية للعالم. من هذا الفكر ما هو عاطفي، ومنها ما هو فرح وكئيب ودنس، أي حسب طبيعة كل واحد. ففكرة الجمال هي اصطلاح إنساني بسيط، وفكرة القبح رأى بسيط قابل للتغيير، وكذلك فكرة الحقارة التي يتعشقها الكثيرون، وأعاظم الفنانين هم الذين يستطيعون إرغام الإنسانية على اعتناق أفكارهم الخاصة)

كان موبسان كثير التخوف من الموت ومن قوله فيه: (أنا لا اعتقد باضمحلال كل كائن يموت)

وكان يخاف من الجنون وقد قال مرة لمدعويه: (يهمني كثيرا أمر الجنون، وسأكتب قصة عن رجل جن تدريجيا) ولشدة خوفه من هذا المرض كان يقضى لياليه عند عشيقاته كي لا ينام في غرفته وحيدا. وليس ما نطالعه في رواياته وقصصه من مواقف شاذة وأشباح مرعبة، سوى صورة جلية لما كان يقاسيه في سويعاته السرية من خوف وإرتعاب.

وعكف على درس كتب الطب وكان كلما اجتمع بطبيب يرهقه بالأسئلة عن أعراض بعض الأمراض حتى تبادر إلى أذهان الكثيرين من الأطباء أن موبسان يجمع معلوماته عن الطب لكي يضع رواية يحمل فيها عليهم وعلى علومهم.

وتسلط عليه أخيرا مرض رؤية نفسه فكان يرى ذاته أحيانا كما لو ينظر في المرأة ودخل فأبصر طيفه جالسا على كرسيه يطالع كتابا كان قد تركه منذ دقائق قليلة وألف قصة عن رجل كان طيفه يتعقبه بصورة دائمة وفيما يكتب ذات يوم جاء طيفه وجلس أمامه بالذات، وأخذ يملي عليه ما كان يكتبه فأرتاع من شدة الخوف وصاح رافعا يده يريد طرد تلك الرؤية الغريبة.

وكان في أيام الشتاء يجلس إلى الموقد وهو يرتعش من شدة البرد حتى إنه أيام الحر كان يحتفظ بنار موقده مستعرة. وكان يفكر في الذباب الذي يعيش بضع ساعات، وفي الحيوانات التي تعيش بضعة أيام، وفى البشر الذين يعيشون بضع سنوات وفي العوالم التي تعيش بضعة قرون. ثم كان يتساءل: فما الفرق بين الحشرة والكون؟

بضعة شروق شمس لا أكثر ولا أقل!

وكان لشدة خوفه من الموت يقول: (إن الموت يقترب مني أريد أن أمد إليه يدي وأبعده عني. إني أراه في كل مكان: ففي الحشرات المدوسة على الطريق، وفى الأوراق المتساقطة على الأرض، وفى الشيب الذي يجلل رأس هذا الصديق! إن هذا كله يدمي قلبي ويصيح قائلا لي: أنظر! إنه يقضي على كل ما تفعله وكل ما تنظره وتأكله وتشربه وتحبه! إنه يحرمني رؤية شروق الشمس، وبزوغ البدر، وتقلب أمواج البحار، وجريان مياه الأنهار ونسمات العصر البليلة التي ينعشنا تتنشقها!)

وساءت حالته الروحية بعد فقد أخيه (هرفه) على أثر نوبة جنون أنتابته. ولكنه ازداد نشاطا وانعكافا على الكتابة وتأليف القصص والروايات، حتى إن هذا الدور كان من أكثر أدوار حياته إنتاجا، كما لو لأن السموم التي تفسد دمه، استخرجت أفضل ما فيه قبل أن تقضي عليه. وكان يترآى له كل ما في منزله من أثاث وأدوات يتحول إلى حيوانات كانت تدخل غرفته ثم تخرج منها وتنزل الدرج إلى الشارع. ووقف مرة أمام صليب كبير كان قائما في إحدى الساحات وقال لخادمه: أنظر يافرنسوا لقد كان في الثالثة والثلاثين عندما صلب، وأنا الآن أقترب الحادية والأربعين!

لقد كان موبسان رسام النفس البشرية الأكبر. كان يرسم بدون بغض وبدون حب وبدون غضب وبدون شفقة كان يرينا ما في هذه النفس من شوائب وعاهات بلباقة وإتقان يحملاننا على الاعتقاد بأنها حقائق ننظرها بأعيننا ونلمسها بأيدينا.

وبعد منتصف ليل رأس السنة بساعات قليلة، تناول مسدسا وأطلقه على رأسه بحركة جنونية. ولما رأى أن المسدس كان فارغا أخذ يطعن عنقه بشفرة للحلاقة إلى أن سالت دماؤه ثم أخذ ينظر إلى فعلته هذه بصورة تدل على قلة الاكتراث ولما أسرع الخادم إليه صارخا قال له: أتنظر يافرنسوا ماذا فعلت؟ إنه الجنون بعينه!

وقدم الأطباء وضمدوا جراحه وفي اليوم التالي حملوه إلى البحر لعل رؤية يخته تعيد إليه وعيه. فحدق قليلا في اليخت، ثم حرك شفتيه كطفل ولم يقل شيئا وعادوا به إلى البيت حيث توفى، وقد كان ذلك في عام 1893.

(العصبة)

إسكندر كرباج