مجلة الرسالة/العدد 925/الشعراء المجازون
→ الدين والسلوك الإنساني | مجلة الرسالة - العدد 925 الشعراء المجازون [[مؤلف:|]] |
من شعر القوة في بلاد الشام ← |
بتاريخ: 26 - 03 - 1951 |
الكلمة التي ألقيت في الاحتفال الذي أقامه مجمع فؤاد الأول للغة العربية في قاعة الجمعية الجغرافية الملكية عصر الخميس الماضي لتوزيع جوائزه على الفائزين
أعلن المجمع في العام الماضي مسابقة في الإنتاج الأدبي شملت الشعر والقصص والبحث، فتقدم إلى حلبة القريض منها عشرة من شعراء الشباب أمتعوا لجنة الأدب حينا من الزمن بأغاريد متسقة الوزن منسجمة اللحن صافية الرنين، ولكن في بعضها التوقيع المتنوع. وفي بعضها الترجيع المتجانس. فاستمعت اللجنة إلى الأصوات جميعا؛ ثم أرهفت أسماعها لثلاثة من هؤلاء الشعراء رأت أنهم خرجوا من فناء العش إلى فضاء الأفق، وجاوزوا طور الزقزقة إلى طور الشدو. فسمعت الأول يقول
دهى النيل ليل فاستطال هجوده ... وأورث جنبيه كلالا رقوده
بساتينه باتت نواعس حوله ... وأغفت بها أطياره ووروده
فلا ساجعات الأيك فيها صوادح ... ولا الورد لذ النفح ريانُ عوده
ولا النبت مطراف على الأرض سابغ ... قشيب ولا صوب الربيع يجوده
ولا الصبح طلق الوجه نضر ولا الضحى ... ضحوك السنا ضاحي المحيا سعيده
ولا النيل تأتيه إذا نصل الدجا ... صباياه يملأن الجرار وغيده
فلما دجا ليل الخطوب توثبت ... تهائم واديه وهبت نجوده
وفتح عينا في الدنا فإذا بها ... مضى مجده منها وولى تليده
وأغرى به أهل الطماعة أنهم ... غزوه فلم تزأر عليهم أسوده
فنادى بنيه الغر هبوا فأوقضت ... جحاجحه المستقتلون وصيده
أهاب بشطريه قلباه بيضه ... سيوفا جرى فيها المضاء وسوده
وسمعت الثاني يقول:
أبناء مصر ضنيت مما أكتوى ... لا الصبر في طوقي ولا إجماله
برح الخفاء فما النقاب بمدل ... كلا ولا من حكمة إسداله
أدواء مصر أقلها قتالها ... فزن المصير ولا يفتك وباله
الطير تلهم قبل عصف رياحها ... والقطر ينبئ إن دنا هطاله
وعجيب قومي أن أنوء بنصحهم ... والنصح أدهى ما دهى إهماله
عزت هدايتهم علي بموطن ... المرء فيه جاهه أو ماله
لا أصفراه قلبه ولسانه ... بل أكبراه عمه أو خاله
وسمعت الثالث يقول:
قد صحونا اليوم من طول الهجوع ... ونفضنا النوم عنا والكرى
بعد ما أصبح وادينا المنيع ... مرتعا يرعى به كل الورى
وحسرنا الستر عن أبصارنا ... لنرى الدنيا وما صارت إليه
فإذا المجد الذي كان لنا ... قد طواه الناس واستعلوا عليه
وإذا كان غفلا في الثرى ... قد سما بين الورى وارتفعا
وتوانينا فعدنا القهقرى ... وخسرنا اليوم والأمس معا
فارتقب يا نيل إنا سنعيد ... ما مضى من تالد المجد وغاب
واهتفي يا مصر بالماضي المجيد ... فغدا يحيا على عزم الشباب
نحن أبناء الفراعين الألي ... ملكوا الدنيا وشادوا الهرما
وعلوا بالمجد آفاق العلا ... وتخطوا في الخلود الأمما
وسليل المجد لا يرضي الصغار ... أو يطيق الضيم يطغي في جماه
وإذا ما هاجه الظلم فثار ... هانت الدنيا عليه والحياه
ثلاثة أصوات تتفق في الموضوع والغاية، وتختلف في الشكل والطريقة: شعر الأول جزل اللفظ فخم العبارة محكم السرد، يجري أكثره في البحور الطويلة، ويؤثر لغة الأولين فيذكر التهائم والنجود والجحاجح والصيد. وشعر الثاني والثالث مأنوس الكلم، سلس الأسلوب، متنوع القوافي، حتى ليسبق إلى ظن المقارن أن هناك مذهبين للتعبير: قديما اتبعه صاحب (الأنداء المحترقة) وجديدا اتبعه أخواه صاحب (أدب الثورات القومية) وصاحب (وحي الشباب)، وهي الدواوين الثلاثة التي أجيزت. فهل في تاريخ الشعر العربي ما يسوغ هذا الظن؟ الواقع أن ليس للقديم والجديد في الأدب العربي ما لهما من الدلالة في الآداب العالمية الأخرى: قديم الفرنسية أو الإنجليزية مثلا قد استحال أو اندرس، فلا يستعمل اليوم، وإذا استعمل لا يفهم، وإذا فهم لا يقبل؛ لأن هاتين اللغتين تطورتا مع الزمن تطورا شديدا حتى اتسع الخلاف بين حاضرهما وماضيهما في النطق والنحو والبيان. ثم تغيرت عقلية قوميهما بتقدم العلوم وارتقاء الحضارة فتغيرت الأساليب واختلفت طبيعة أدبيهما لاتصالهما بحياة الناس عن طريق القصص والتمثيل فاختلفت المذاهب. أما قديم العربية فهو جديد أبدا، وأما جديدها فهو قديم أبدا. لا نجد فرقا جوهريا بين أساليب القرن العشرين وأساليب القرن السابع: الألفاظ هي الألفاظ، والنسج هو النسج، والأعراب هو الأعراب. فما يمتعنا من خطب زياد وسحبان وشبيب، هو ما يمتعنا من خطب النديم ومصطفى كامل وسعد زغلول. وما يعجبنا من نثر الجاحظ وأبي حيان والبديع، هو ما يعجبنا من نثر المازني والمنفلوطي والمويلحي. وما يطربنا من شعر البحتري وأبي فراس والمتنبي، هو ما يطربنا من شعر البارودي وشوقي وحافظ! كأنما نشأ هؤلاء جميعا في عصر واحد وشبوا على ثقافة واحدة! ولعل تعليل ذلك أن الشعر الجاهلي بأصالته، والقرآن الكريم ببلاغته، والدين الإسلامي بثقافته، هي العناصر التي يتألف منها المثال الفني الذي يحتذيه الكاتب والشاعر، فما تفرق مفترق إلا اجتمع عليه، وما تباعد متباعد إلا رجع إليه. فالشعر الجاهلي أقام عمود الشعر، والنثر القرآني أقر أسلوب الكتابة، والأدب الديني طبع الفكر العربي بطابع الرزانة والهدوء والسلفية؛ فهو لا ينفك يستهدي الوحي، ويسترشد السنة، ويستمهل الطفرة، ويستريب البدعة، ويصبغ نتائج القرائح المختلفة في الزمان والمكان بلون من التصور والتصوير لا يكاد يختلف ولا يتغير. فلو أن الزمان تأخر بالمتنبي ألف سنة لكان من الممكن أن يكون شاعر الخديوي عباس. ولو أنه تقدم بشوقي ألف سنة لكان من الجائز أن يكون شاعر سيف الدولة. وما نظن المصريين كانوا يقولون إن شعر المتنبي قديم، ولا الحلبيين كانوا يقولون أن شعر شوقي جديد!
إنما كان الاختلاف بين شاعر وشاعر، أو بين عصر وعصر، في الصور التي تلهمها البيئة والثقافة والحضارة، وفي الألفاظ التي تقرب أو تبعد عن لغة الجمهور ومألوف المجتمع. فبعض الشعراء يغترفون من قاموس المكتبة ولغة القرآن؛ وبعضهم يرتشفون من قاموس الجيب ولغة الصحف. والاختلاف على هذا النحو اختلاف في الشكل. والشكل حكمه حكم اللباس والأثاث والآنية، يتغير بتغير المكان والزمان والحالة. وما كان لأحد أن يختلف أو يختصم فيما لا حيلة فيه. ولكن النقاد الأقدمين جعلوا من اختلاف هذه الأشكال معركة بين القديم والجديد أداروها على اللفظ الجزل والركيك، والأسلوب الصفيق والمهلهل، والمعنى المسروق والمطروق، والمطلع الجيد والردئ، والتخلص الحسن والقبيح. وعذرهم في ذلك أن الشعراء لأسباب فطرية واجتماعية لم يقدموا إليهم إلا نوعا واحدا من الشعر هو ما يتصل بالوجدان والعاطفة؛ فكان النقاد أمام وحدة الشعر العربي ونقصه، مسوقين إلى أن يقصروا جهودهم على لفظه. فلو أن الشعراء ألهموا أن ينظموا في القصص الحكائي والتمثيلي، لا اختلفوا في الموضوع وما يصدر عنه من أغراض، وفي الينبوع وما يؤدي إليه من مسالك؛ كما اختلف فيهما الشعراء الفرنسيون فظهر في أدبهم الاتباعية والإبداعية والواقعية والرمزية وغيرها من المذاهب المقبولة والمرذولة. ولم يسمع التاريخ فيما سمع أن العرب اختلفوا يوم تركوا علبة الخشب إلى زرق الجلد وكوز الفخار وقدح الزجاج وجام الفضة، لأن الموضوع وهو الماء أو اللبن لم يتغير بتغير الآنية؛ ولكنه سمع أن الخلاف حدث وأن الرأي تشعب حين تغير الشراب من اللبن إلى الخمر. فالقول بأن في الشعر العربي قديما وجديدا وهو لا يزال واحدا في لغته وطريقته ونوعه ووزنه قول مدفوع بالواقع. ولقد صدق شوقي إذ يقول
ما فيه عصري ولا دارس ... الدهر عمر للقريض الأصيل
على هذا الوجه أيها السادة نظرت لجنة الأدب بالمجمع في أشعار الثلاثة السابقين فرأت الشاعر كمالا النجمي صاحب الأنداء المحترقة يأتي في الحلبة مجليا لفخامة ألفاظه ورصانة أسلوبه ومتانة قوافيه ووضوح معانيه وقلة سقطه وندرة خطأه، وهي الصفات الفنية الجوهرية التي يطمع المجتمع في أن تشيع في شعر الشباب. لذلك خصه بالجائزة الأولى. والأستاذ النجمي يقول أنه من قبيلة أولاد نجم من عرب الصعيد، وإن أباه كان من رجال الدين واللغة والشعر فوجهه هذا التوجيه الأدبي الخالص. وأبى عليه أن يستقي ثقافته الأدبية من غير مشاعرها الصافية الأولى، فحفظ القرآن الكريم، وقرأ كتابي الأغاني والعقد الفريد، ودرس ديواني البحتري والمتنبي. وفي هذه البيئة وتلك النشأة نجد تعليل الجزالة والسلامة اللتين تميز بهما شعره على الرغم من وقوفه في الدراسة عند حدود المرحلة الثانوية. وقد اخذ ينظم ديوانه المجاز وهو في الثامنة عشرة من عمره، ثم أتمه وقد نيف على الثامنة والعشرين. وشعر الديوان وجداني محض، استمده الشاعر من طبعه، ونقله عن قلبه، وعبر به عن شعوره، فليس للقصص والتمثيل منه نصيب. وقد طفى فيه حديث الشاعر عن نفسه، على حديثه عن غيره، فقل في السياسة والوطنية والاجتماع، وكثر في الحب والشوق والحنين والذكرى والألم والحزن. وأفكاره وصوره وأخيلته في كل أولئك جيدة، ولكنها في الوصف والشكوى والرثاء أجود
ثم رأت اللجنة على مسافة قريبة من الشاعر المجلي شاعرين يعدوان جنبا إلى جنب وقد كادا يبلغان الأمد، أحدهما الأستاذ محمود محمد صادق صاحب (أدب الثورات القومية) والآخر الأستاذ فريد عين شوكة صاحب (وحي الشباب)؛ فالشاعر محمود صادق ولد بالقاهرة في العام الأول من هذا القرن، ثم تخرج في مدرسة الحقوق سنة 1924 وكان من الطلاب الأولين الذين أوضعوا خلال الثورة المصرية المباركة، يؤرثون نارها بالخطب، ويسعرون أوارها بالشعر، ويرفعون صوتها بالتظاهر. فنظم فيها ديوانا نشره في سنة 1923. وكان وهو في سن اليفاعة يقول الشعر من غير علم باوزانه، ولا معرفة بقواعده. وقد علل ذلك بعض من كتبوا عنه بخلوص العروبة في دمه، لأن والديه نسبا في بني العباس. وبهذه الروح الثورية المشبوبة نظم النشيد الوطني سنة 1936 ونال عليه الجائزة الأولى. ثم أتجه شعوره إلى العروبة والإسلام حين تجددت في فلسطين مأساة الأندلس، فوضع للعرب نشيدا ونظم في كارثتهم مطولة. ولم نكد نقرأ له في خير الأحداث المصرية والعربية شيئا. الشاعر قوي الشاعرية عصبي الأسلوب حماسي العاطفة نبيل الغرض؛ ولكن قيثارته كربابة الشاعر الشعبي ترسل الأنغام من وتر واحد، وذلك ما بطأ به عن الغاية، والأستاذ صادق يسمي قصائده المطولات التي قالها في الثورة المصرية وفي الكارثة الفلسطينية ملاحم. وهذه التسمية من الوجهة الفنية خطأ؛ لأن القصيدة لا يكفيها أن تكون حماسية الموضوع ضافية الطول لتكون ملحمة، إنما الملحمة مصطلح وضع في الأدب الحديث ليقابل لفظ (ايوبيه) في الأدب الأوربي. وهي بهذا المعنى لا بد أن تكون قصة، أما طبيعية تكونت على طول الزمن مما تنوقل وتوورث من الأقاصيص والأغاني حتى تنتهي إلى شاعر سمح القريحة طويل النفس فينظمها كما فعل هوميروس في الألياذة؛ وإما صناعية تنشأ من عمل فرد واحد يخلق مادتها ويصنع صورتها كما فعل الفردوسي في الشاهنامة. وقصة الملحمة لا بد أن تنتزع من حياة شعب بأسره، لا من حياة شخص بعينه، وبذلك تخرج من الملاحم القصيدة العمرية لحافظ. ولا بد أن تقوم على قواعد الفن القصصي في العرض والعقد والحل، وبذلك تخرج منها أرجوزة (دول العرب) لشوقي. والمطولات التي سماها الأستاذ صادق ملاحم قد خلت من عنصر الحكاية وهو الشرط الأساسي لوجود الملحمة؛ وزخرت بمعاني الشعر الوجداني من حماسة وفخر ومدح ورثاء ووصف وشكوى. وما أسعد المجمع يوم يقدم ويكرم ويجيز الشاعر الموهوب الذي يكمل نقص الشعر العربي في القصص، كما كمل شوقي نقصه في التمثيل. وفي أحداث الفتوح الإسلامية والحروب الصليبية والمعارك الفلسطينية مواقف للبطولة والمروءة والتضحية تنتظر الشاعر العبقري ليجعل منها موضوعا لملحمة العرب
وأما الأستاذ فريد عين شوكة فقد ولد في منوف ثم تخرج في دار العلوم سنة 1936، وزاول تعليم اللغة في مدارس الدولة. وأبناء دار العلوم وإخوانهم أبناء الأزهر هم جنود العربية وحماتها إما بالطبع وأما بالصنعة، فالمصنوعون يخدمون فقهها ونحوها وصرفها وبلاغتها بالبحث والنقد والشرح والتعليم؛ والمطبوعون يمارسون فوق ذلك تنمية أدبها بالكتابة، وتجديد بيانها بالشعر. ومن هذا الفريق الأستاذ فريد. قال الشعر في سن باكرة، ووجد من طبيعة نفسه ومن طبيعة درسه ما يعين عليه فصاغه صياغة حسنة جرى عليها رونق الطبع فهي سلسة، وأثرت فيها صنعة المعلم فهي صحيحة، وأن فعلت مشاعره وخواطره بالنفس والبيئة والطبيعة والمهنة والعقيدة، فتغنى بالشباب والحب، ونظم في التعليم والمدرسة، وأشاد بالنيل والريف، وقال في الإسلام والعروبة. وقد تميز على صاحبيه بمعالجة الشعر التمثيلي وهو أكمل أنواع الشعر الثلاثة، لأنه جماعها بما يشتمل عليه من حرارة الوجدان في وصف المواقف، وجاذبية القصص في سرد الحوادث، وبراعة الحوار في تمثيل الوقائع
هذان الشاعران اللذان جاءا في الحلبة مصليين يجريان في عنان، لانفراد كل منهما بمزية، كانا لقربهما من السابق وبعدهما عن المتخلف موضع تقدير المجمع فدبر لهما جائزة أخرى كالأولى وقسمها بينهما بالسوية
إن المجمع كما ترون يولي شرف السبق في مضمار الشعر من امتاز ببلاغة الأسلوب في جمال صورته وصحة فكرته وشدة أسره؛ ثم لا يغفل بعد ذلك المعنى المبتكر ولا الفن المستحدث ولا الخيال المستطرف ولا الغرض السامي. والشعر على هذا النحو من أرفع الفنون التي يشجع على إنتاجها المجمع؛ لأنه أحد النبعين الذين ينبثقان من روح اللغة فيحملان لموادها النماء ولأساليبها الجدة ولصورها النضارة. والشعر من بعد ذلك خليق بأن نحتفل له ونحتفي به ونعين عليه، لأنه موسيقى المجاهدين في سبيل المجد، وحداء المجهودين في ركب الحياة
والمجمع إذ يؤدي إلى الشعر هذا الواجب في أشخاص أهله، يتقدم إلى الثلاثة المجازين بخالص التهنئة، وإلى السبعة المؤجلين بجميل المعذرة، وإلى السادة الحاضرين بجزيل الشكر
أحمد حسن الزيات