مجلة الرسالة/العدد 925/من شعر القوة في بلاد الشام
→ الشعراء المجازون | مجلة الرسالة - العدد 925 من شعر القوة في بلاد الشام [[مؤلف:|]] |
فتح القسطنطينية ← |
بتاريخ: 26 - 03 - 1951 |
للأستاذ حمدي الحسيني
إن خلايا الحياة في جسم الأمة العربية بدأت تتحرك منذ أعلن الدستور العثماني؛ فكانت هذه البقعة العربية من طورس إلى رفح أحفل البقاع العربية بمظاهر الحياة والنضال في سبيل الحياة. وقد كان فريق من شعراء هذه البقعة المباركة - ولا يزال أكثرهم والحمد لله أحياء - من أكثر الخلايا العربية تغذية لروح الأمة بالقوة المتدفقة والأمل الهادي، ومن أقواها حركة واندفاعا في ميادين النضال في سبيل الحرية والاستقلال. ولا شك في أن الشيخ فؤاد الخطيب شاعر الثورة العربية - حفظه الله - كان ولا يزال في الرعيل الأول من شعراء العرب الذين أحسوا برغبة الأمة العربية في الحرية وتطلعها إلى الاستقلال. فأخذ ينظم لها هذه الرغبة الصادقة شعرا صادقا فتنشره له الصحف العربية في مصر والآستانة، حتى تقدم الشريف حسين بن علي رحمه الله في الحرب الماضية فأعلن الثورة العربية بإطلاق الرصاصة الأولى في وجه الظلم فما كاد العالم العربي يسمع دوي هذه الرصاصة في سماء البلاد العربية حتى دوى بجانبها صوت الشيخ فؤاد الخطيب بقصيدة عصماء فكان دويها أيضاً واسع المدى قوي الصدى؛ حيا الشريف حسينا وحيا البيت الحرام، وطلب من الشريف أن ينهض للأمر الخطير نهضة قوية عنيفة لأن الظلم لم يعد يطاق، وأن الأذى لم يعد يحتمل. ومن أولى من ابن النبي يحمل هذا العبء الكبير، وينهض بهذا الأمر الخطير؟
والتف حولك أبطال غطارفة ... شم الأنوف يرون الموت مغتنما
فاصدم بهم حدثان الدهر مخترقا ... سدا من الظلم إن تعرض له انهدما
ثم التفت إلى العرب يستفز حميتهم ويستنهض همتهم:
إيه بني العرب الأحرار إن لكم ... فجرا أطل على الأكوان مبتسما
يستقبل الناس من أنفاسه أرج ... ما هب في الشرق حتى أنشر الرمما
من ذلك البيت من تلك البطاح على ... تلك الطريق مشت أجدادنا قدما
لستم بنيهم ولستم من سلالتهم إن لم يكن سعيكم من سعيهم أمما
وقد ظل الشيخ فؤاد متصلا ببني هاشم في دور ملكهم في الحجاز والشام وشرق الأردن والعراق ملامسا للقضية العربية العامة في أكثر نواحيها. وقد أخرج للمسرح فتح الأندلس، رأينا فيها روحه مشرقة على كل قطعة منها، ولا ننسى ذلك الموقف الذي اصطدمت فيه همة الشيخوخة الفانية بهمة الشباب المتوثب:
يا شيخنا اسلم وذرنا نحن في محن ... ماذا يضيرك أن نستقصي المحنا
تالله ما الموت إلا العيش في ضعة ... من يرض بالثوب يجعل ثوبه الكفنا
إن يعوز العرب في بنيان دولتهم ... هدم الحياة بذلنا الروح والبدنا
وليجعلوا من بقايانا ومن دمنا ... طينا وماء فيبنوا الملك والوطنا
وأما السيد خير الدين الزركلي شاعر القومية العربية أطال الله بقاءه فقد كان من أسبق شباب سوريا دعوة للقوة ومجاهرة برغبة الحرية:
ما منال الحياة بالمطلب السهل ... ولكنني أرى النهج وعرا
كل عز فباطل غير عز ... شيدته الظباة وخزا وهبرا
واللبيب اللبيب من يؤثر المو ... ت على أن يعيش في الذل دهرا
وهو يعتقد بأن أماني الأمم في الحرية والحياة لا تتحقق إلا إذا أصبحت في النفوس إيمانا دافعا:
من كان يؤمن إيمانا بدعوته ... أجابه الفلك الدوار آمينا
ومن إذا خلصت للمجد همته ... أصاب نجما على الأيام مضمونا
وهل الإيمان إلا الإرادة القوية الحازمة التي تأبى على الدهر إلا أن تتحقق على رغم الصعوبات والعقبات:
إرادة تستذل العصم ماضية ... وعزمة تصدع الأطواد توهينا
وللعظائم ما ترضى فإن وهنت ... خابت وإن تمض آبت في المجلينا
كل امرئ طامح للمجد يطلبه ... لولا العظائم ما خاب المرجونا
وما دامت الإرادة ماضية في العمل فيجب أن يكون العمل ثابتا قويا لا يتزعزع ولا يتضعضع.
ابن علي الصخر وإلا فما ... شيد علي المنهار يصدع
وخشي الزركلي أن يظن الضعفاء بأن الحق المهضوم يمكن الحصول عليه بالهوادة واللين والهوان والذل، فراح يحذرهم هذا الظن الآثم بأقصى حدود الصراحة والصرامة: من خال أن المجد يدرك هينا ... فلينتظر بعد الهوان هوانا
ما شاد ملكا أو أعز قبيلة ... من آثر الإخلاد والإذعانا
قال الزركلي هذا ولكنه لم يطمئن فقد خشي ألا يفهم الضعفاء وسيلة النضال الحقيقية فيظلوا في هوانهم سادرين فأخذ بأيديهم ووضعها على السلاح:
ابن مجدا ولو بحد المواضي ... ما أرى الدهر عن مهين براض
وأخو العزم من بيت وكلتا ... مقلتيه لم تكتحل باغتماض
أفلح الخائض الغمار بعيد الغور ... رأياً وأخفق المتغاضي
ليس بالندب من إذا مسه ... الضيم تولى أو لاذ بالأرباض
إنما ابن العلاء من ليس بالمحجم ... عن خصمه ولا الركاض
من إذا استل باليمين حساما ... شغل البرق عن سنا الإيماض
وما كاد الزركلي يرى أمته اهتدت إلى الطريق السوي الموصل إلى الحق المهضوم حتى اطمأنت نفسه وزال قلقه: واسمعه الآن في مكة بين يدي الملك حسين يصيح هذه الصيحة القوية على أثر خطب من الخطوب التي أصابت سوريا في ميدان جهادها:
إن في الشام أمة لا تطيق ... الضيم، تأبى العلا لها أن تطيقا
أنذرونا بالموت، ما أعذب المو ... ت إذا كان للحياة طريقا
إن للباطل اضطرابا على الح ... ق وعقباه أن يكون زهوقا
وأما السيد بشارة الخوري - الأخطل الصغير - ففي شعره وثبات قوية وحفزات ثائرة، ونفثات محرقة تجعله في نظرنا شاعرا من شعراء القوة كما هو شاعر من شعراء الحب والجمال. وهل القوة والحب والجمال إلا شيء واحد معناه الحياة السعيدة الهانئة؟ واسمع الآن الأخطل الصغير يزف هذه البشرى الغالية بسقوط عبد الحميد - ليس للأمم العثمانية فحسب بل لأمم الأرض قاطبة
زال عصر السجود يا أمم الأرض ... وهذا عصر الإخاء الوطيد
ظمئت هذه النفوس إلى المجد ... فلا تمنعوا سبيل الورود
وخذ هذه الحملة القوية التي يحمل بها الأخطل الصغير على الضعف الذي يبدو على الأمة العربية أحيانا عند نزول الخطوب بساحتها: لا يثور المجد في أعراقها ... أمة تغدو على النوح وتمسي
يخطب المدفع في محفلها ... طاهر الألفاظ معسول التأسي
خاب من شيد حريته ... دون أن يدعم ركنيها برمس
مهروها أنفسا غالية ... لا بأحلام وأقلام وطرس
وخذ هذه القطعة القوية التي يوجهها إلى الشباب هذا التوجيه القوي الجميل المحبب
يا دماء الشباب ما أنت إلا ... ذائب الطيب يا دماء الشباب
لا تضني على الحراب وإن آذ ... تك بل عطري رءوس الحراب
املئيها شذا كما يملأ الورد ... يد الجارحيه بالأطياب
قطرة منك بسمة في فم الرفق ... وسوط على يد القرضاب
كم سياج من الحديد تقضي ... وسياج باق من الآداب
وأما الشيخ سليمان التاجي الفاروقي فهو شاعر فلسطيني مقل ولكن قليله قوي صادع كانت تتفجر به عواطفه المكبوتة بعد الدستور العثماني تفجرا قويا عنيفا. وقد وقعت في يدنا إحدى صوادعه وهي التي كان قد أنشدها في الآستانة في أواخر الحرب العالمية الأولى فكانت نفثة تنم عما تستشعره نفسه المرتمضة وتحس به عواطفه المتألمة. وإليكم هذه القطعة القوية من هذه القصيدة العامرة:
بيد أنا بعد ما قد نالنا ... لا يرى اليأس إلينا مذهبا
نحن للحرب خلقنا وبنا ... يضرب الأمثال من قد ضربا
عدة الناشئ منا سيفه ... وفؤاد منه أمضى مضربا
إن للعرب لجيشا إن مشى ... زلزل الشرق وراع المغربا
تسجد الأحكام إجلالا له ... ويدك الأرض دكا والربى
كتب النصر على راياته ... كيف والله الذي قد كتبا
أيها الطامع في إذلالنا ... إن من دون مناك الشهبا
قد أبى الله لنا إذلالنا ... كيف ترجو أنت ما الله أبى
الشيخ إبراهيم الدباغ رحمه الله: شاعر فلسطيني عاش في مصر منذ حداثته؛ قد اتصل بالحركة الوطنية في مصر وساهم في خدمتها عن طريق الصحافة والسياسة، انتسب للحزب الوطني ثم ظاهر حزب الوفد، في شعره رغبة في الحرية وأملا في تحقيقها للعرب وللشرقيين عامة:
غلت فغلي في كل صدر وجيها ... ولست لها إن كان غيري مجيها
تعود منها المستبدون هدنة ... وسلما وردتهم لرشد حروبها
ممنعة لا تبتغي عند أمة ... موزعة أهواؤها وقلوبها
بنو الشرق أبطال لها في بلادهم ... وما دك دور العز إلا غريبها
وفي شعره ثورة على الظلم وتبرم بالظالمين:
أغرب ما شاهدت في ... حكم الشعوب والأمم
مسلط يطاع فيها ... أمره، وإن ظلم
وخادم يعطى له السي ... د أجر ما اجترم
السيد إبراهيم طوقان رحمه الله، من شعراء الشباب في فلسطين، في شعره حيوية وقوة تهيجها الذكريات الخالدة، وتحركها الحوادث العظيمة، فذكرى خالدة كذكرى واقعة حطين تعصف في نفسه عصفا قويا ولا تنفك تعصف حتى يقول:
قف على حطين واخشع ... يشج قلبك ما شجاني
وانظر هنالك هل ترى ... آثار يوسف في المكان
من كل خطار على الأخ ... طار صبار الجنان
حلقات أدرعهم قيو ... د الموت في درك الطعان
وسيوفهم ماء الحميم ... على مضاربهن قان
والخيل طوع كماتها ... في النقع مرخاة العنان
لا تنثني أو تحرز القصبا ... ت في يوم الرهان
وخذ هذه القطعة القوية التي يصف بها من يخاطر بحياته في سبيل عقيدته:
لا تسل عن سلامته ... روحه فوق راحته
بدلته همومه ... كفنا من وسادته
بين جنيه خافق ... يتلظى لغايته
صامت لو تكلما ... لفظ النار والدما قل لمن عاب صمته ... خلق الحزم أبكما
وأخو الحزم لم تزل ... يده تسبق الفما
وخذ هذه القطعة أيضاً يصف بها الشهيد:
عبس الخطب فابتسم ... وطغى الهول فاقتحم
رابط الجأش والنهى ... ثابت القلب والقدم
لا يبالي الأذى ولم ... يثنه طارئ ألم
لا تقل أين جسمه ... واسمه في فم الزمن
إنه كوكب الهدى ... لاح في غيهب المحن
أرسل النور في العي ... ون فما تعرف الوسن
حمدي الحسيني