مجلة الرسالة/العدد 925/الدين والسلوك الإنساني
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 925 الدين والسلوك الإنساني [[مؤلف:|]] |
الشعراء المجازون ← |
بتاريخ: 26 - 03 - 1951 |
للأستاذ عمر حليق
النتائج الاجتماعية للاختيار الديني
1 - الجماعة الدينية
للجماعة الدينية على حد تعبير (أ. هولت) (تاريخ خاص وصعيد خاص، وكيان اجتماعي خاص وخصائص وسلوك وأهداف وغايات خاصة)
ولهذه الجماعة في النظام الاجتماعي وظيفة مزدوجة. فهي بحكم هذا الوضع الخاص تلعب دورا كبيرا في صيانة النظام الاجتماعي الذي تعيش عليه، تدمج بعضه ببعض في تكافل محكم متين، وتوجهه توجيها عمليا إيجابيا على أسس العقيدة والطابع الديني الذي تدين به هذه الجماعة
وهي في الوقت نفسه وبحكم هذا الوضع الخاص تؤثر تأثيرا سليما في ذلك النظام، فهي تضمن التكافل الاجتماعي للفئة التي تندمج في تلك الجماعة تشوب طبائعهم وسلوكهم ومشاريعهم وأهواءهم وحياتهم الروحية والعملية في قالب خاص يتفق والتعاليم الدينية التي تؤمن بها. وبذلك تفصلها عن الفئات الأخرى النظام الاجتماعي الأكبر الذي تعيش فيه وقد تخلق من جراء ذلك تشويشا في العلاقات الإنسانية. وتاريخ الحروب الحديثة شاهد على مبلغ الصدق في هذا التعريف. وقد يكون هذا التشويش في صالح المجتمع الإنساني أو قد لا يكون. وليس المقام مقام شرح سماحة الأديان (والإسلام على وجه الخصوص) إزاء الديانات الأخرى. فلهذه النقطة مجال آخر سنعالجه في مكان آخر من هذا البحث
فلقد سبق ورأينا أن في السلوك الديني عناصر قوية تؤثر في الحقائق الاجتماعية. والجماعة الدينية التي حددناها في مستهل هذا المقال هي المادة الخام التي تتيح لنا دراستها للتعرف على الأثر السلبي والإيجابي التي تتركه في النظام الاجتماعي
فلقد قام الإسلام مثلا في جماعة محدودة من الناس وفي صعيد معين وفي قوم كان لهم خصائصهم ومقوماتهم الخلقية وأساليبهم في حياة الروح والجسد، وكان لهم كذلك أهدافهم وغاياتهم
ولم ينتشر الإسلام في مثل هذه السرعة العجيبة إلا لأمرين: أولهما: تمكنه من صياغة روح الجماعة العربية أهل يثرب ومكة ومن حواليهما في قالب محكم متين كان علما على الجماعة الدينية الإسلامية في أدق معانيها
وثانيهما: - أن العقيدة والتعاليم التي آمنت بها تلك الجماعة العربية إيمانا صادقا وحملتها إلى المشرق والمغرب فيما بعد - هذه التعاليم لم تجد هذا القبول السريع الصادق في المشرق والمغرب إلا لأنها كانت اقرب إلى الحقائق الاجتماعية وأنفع لمعالجتها من التعاليم الدينية الأخرى التي جاءت التعاليم الإسلامية لتنافسها في مجال الإصلاح
والتكافل الاجتماعي الذي يحققه الدين في الجماعة التي تؤمن به يتوقف مدى وثوقه وسرعة نموه على مبلغ الصدق في الاختبار الديني عند تلك الجماعة. فالعزة الإلهية هي محور الأديان السماوية؛ والاختبار الديني الصادق يستمد منها مزيداً من القدرة على تنظيم السلوك الإنساني في شكل يتفق وما أمر الله به وما نهي عنه. فإذا شمل ذلك الاختبار الكثرة من الجماعة استقام سلوكهم وتوارث عناصر الشقاق الاجتماعي من بينهم ليحل مكانها تكافل منسقة أصوله مبينة أهدافه ومراميه لأنها من عند الله خالق الكون ومهندسه الأعظم
وسرعة نمو التكافل الاجتماعي في الجماعة الدينية يتوقف كذلك على تحديد التعاليم الدينية لأسس ذلك التكافل. فمن الأمور التي ينفرد بها الإسلام على غيره من العقائد أن القرآن والحديث قد جددا كثيرا من أوجه السلوك الإنساني تحديدا شاملا دقيقا
ونستشهد بالسيد محمد رشيد رضا معجبين للدلالة على تحديد الإسلام لوظيفة الدين في التكافل الاجتماعي. فقد صنف رحمه الله في كتابه (الوحي المحمدي) مقاصد القرآن في عشرة هي:
المقصد الأول: - في حقيقة أركان الدين وهي الإيمان - العقيدة - البعث والجزاء والعمل الصالح وتهذيب الأخلاق والنهي عن أتباع الهوى والترغيب في التقوى والإرشاد إلى العبادات
المقصد الثاني: - بيان ما جهل البشر من أمور النبوة والرسالة ووظائف الرسول، والإيمان بالقدر والسنن العلمة وآيات الله الخالصة والحظر على البشر من ارتقاء العلم بدون الدين
المقصد الثالث: - كون الإسلام دين الفطرة والصقل والفكر والعلم والبرهان والحجة والضمير والوجدان والحرية والاستقلال المقصد الرابع: - الإصلاح الإنساني والاجتماعي والسياسي الوطني بالوحدات الثمان: - وحدة الأمة و (الإنسانية) والدين والتشريع والأخوة الدينية والجنسية السياسية والقضاء واللغة
المقصد الخامس: - في مزايا الإسلام العامة في التكاليف الواجبة والمحظورة. وقد حصر السيد رضا رحمه الله هذه المزايا في عشر هي: - الأولى كونه جامعا لحقوق الروح والجسد (الثانية) كونه غايته الوصول إلى سعادة الدنيا والآخرة (الثالثة) كون الغرض منه التأليف بين البشر وهو يعني بذلك ما اصطلح علماء الاجتماع على تسميته بالتكافل الاجتماعي (الرابعة) كونه يسرا (الخامسة) منع الغلو في الدين وإباحة الطيبات والزينة (السادسة) قلة تكاليفه وسهولة فهمها (السابعة) انقسام تكاليفه إلى عزائم ورخص (الثامنة) كون نصوصه مراعى فيها درجات تفاوت البشر في العقل والفهم وعلو الهمة وضعفها (التاسعة) معاملة الناس بظواهرهم (العاشرة) مدار العبادات على الأتباع المحض وأحكام المعاملات على الصالح مع مراعاة النص
المقصد السادس: - في حكم الإسلام السياسي نوعه وأساسه وأصوله العامة
المقصد السابع: - في الإصلاح المالي والحقوق المفروضة والمندوبة في المال والإصلاح فيه
المقصد الثامن: - في إصلاح نظم الحرب وفلسفتها
المقصد التاسع: - في إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية الدينية والمدنية
المقصد العاشر: - في هداية الإسلام في تحرير الرقيق
هذه الخطوط الرئيسية التي جعلها السيد رضا رحمه الله محور شرحه لوظيفة الإسلام أشبه بباقة مبعثرة زهورها تحتاج إلى التنسيق في آنية لطيفة المنظر جميلة الصنع يضاف إليها غصون رطبة من الأخضر اليانع ليكسبها عذوبة وسلاسة تتفق والذوق الذي تربى في قرار العربية هذه الأيام
والأسلوب العلمي الحديث في البحث والاستقراء يوفر للباحث هذه الآنية ويسهل عليه تنسيق تلك الزهور وإحاطتها بالغصون الرطبة الخضراء
وقد لمس كاتب هذه الأسطر - كما لمس غيره من الذين أتيح لهم دراسة مناهج البحث المعاصرة - أهمية الذخيرة النافعة التي تتوفر في المراجع الإسلامية القديمة منها والحديثة وما يحيط بتلك الذخيرة من مقصد اللفظ والمنطق بشكل يطمر بعض ما فيها من كنوز ويشوه ما فيها من جمال المغزى والمعنى
على أن الذي يعنينا من استعراض أثر السيد محمد رشيد رضا الجليل هذا هو لفت النظر في إشارة عابرة إلى تحديد الإسلام لأسس التكافل الاجتماعي تحديدا يكاد يكون شاملا؛ وذلك ما مهد لذلك التكافل سرعة النمو في الجماعة الإسلامية، ذلك التكافل الذي لا تزال بعض أسسه تربط العالم الإسلامي برباط اجتماعي وروحي كبير الأهمية. وما التفكك السياسي والاقتصادي الذي لازم تاريخ الشعوب الإسلامية منذ أفول نجم الإمبراطورية الإسلامية إلا وليد الوهن الذي أصاب مفهوم الناس وسوء ممارستهم للتعاليم الإسلامية؛ وليس مرجع هذا التفكك وهن التعاليم نفسها
قلنا إن وظيفة الدين لتحقيق التكافل الاجتماعي في الجماعة الدينية تتوقف على صدق الإيمان والاختبار الديني لدى تلك الجماعة، وعلى تحديد العقيدة الدينية التي تدين بها الجماعة لأسس ذلك التكافل.
ولا شك أن سلامة العقيدة الدينية وصيانتها من التحوير والتبديل شرط أساسي لحفظ ذلك التكافل الاجتماعي وهذا لا يعني الجمود والتعصب وإقفال باب الاجتهاد
نيويورك
(للبحث صلة)
عمر حليق