مجلة الرسالة/العدد 921/الكتب
→ الأدب والفن في أسبوع | مجلة الرسالة - العدد 921 الكتب [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 26 - 02 - 1951 |
معركة الإسلام والرأسمالية
تأليف الأستاذ سيد قطب
للأستاذ إبراهيم الوائلي
إن النكسة التي أصابت الإسلام في تطبيق نظمه على منهجها الصحيح ترجع إلى اكثر من ثلاثمائة وألف سنة. أي: منذ تحول الحكم المقيد بالشورى إلى ملك مطلق يورث كما تورث القصور والبساتين والأموال، وقد بعدت الشقة بين النظم الإسلامية وبين تطبيقها يوم أن تساقط على رقاب المسلمين عناصر لا تعرف من الحياة غير البذخ والملذات والشهوات، وتعقدت المشكلة أكثر من ذلك يوم أريد لهذا الدين الواضح السهل أن تنصب فيه تيارات غريبة عنه من التقاليد والعادات التي لا عهد للمسلمين بها. وفي بداية النكسة قام أبو ذر يبث الدعوة للإسلام الاشتراكي حتى تحمل الأذى في سبيل مبادئه. ولم تكن دعوته إلا صدى للدعوة الأولى عند انبثاق الفجر، واستجابة للحد من تلك الطفرة البعيدة التي مني بها الإسلام في مرحلته الأولى حتى أفلت الزمام في المراحل التي بعدها.
ولا نغالي إذا قلنا: إن تلك القصور على الغوطتين أيام الأمويين، وفي بغداد وسامراء أيام العباسيين، وعلى البسفور والدردنيل أيام العثمانيين، لم تكن إلا من الأمثلة السيئة في تاريخ الإسلام الصحيح. أما في عرف التبجح والأرستقراطية فهي رمز للمكانة الكبرى التي كان يتمتع بها أولئك الخلفاء كما يسميهم التاريخ!!. نعم: التاريخ العاطفي المقلوب. . . خذ مثلاً من أمثلة هذا التاريخ المقلوب عن حاكم عباسي عربيد يهب في إحدى لياليه للخمار ألف دينار ولزوجة الخمار مثلها، ولكل واحدة من بناته خمسمائة، ويطلب من شاعره أن يصف هذه الليلة فيقول الشاعر:
يا حانة الشط قد أكرمت مثوانا ... عودي بيوم سرور كالذي كانا
لا تحرمينا دعابات الإمام ولا ... طيب البطالة إسراراً وإعلانا
هذا الحاكم السكير الواهب يسميه التاريخ خليفة للمسلمين ويسميه الشاعر (إماماً): وما أبعد هذا عن الخليفة القائل: وحسبك عاراً أن تبيت ببطنة ... وحولك أكباد تن إلى القد
أتعلم من ذلك (الخليفة الإمام)؟ إنه الواثق العباسي، أما الثاني فهو علي بن أبي طالب، وليس تاريخ المسلمين غير (علي) واحد يحمي الحديدة لأخيه عقيل من أجل حفنة من الشعير اقتصدها من قوته اليومي، ولكن كم في تاريخ المسلمين من (واثق) مسرف سكير! إن أمثال هذا هم الذين أشاعوا التفسخ في دنيا الإسلام، وها نحن أولاء نقاسي تبعات هذا التفسخ في عصرنا الحاضر، الذي لم يرث عن عصر علي وعمر أي شيء، كما أنه لم يرث عن الأمويين قوتهم وفتوحاتهم ولا عن العباسيين علومهم وآدابهم، وإنما ورث عن هؤلاء وأولئك البذخ والترف والقصور والأقطاع، كما ورث عن العثمانيين والمماليك كل ما اتصفوا به من الاستبداد المطلق والجشع الماحق، والرشوة والنهب والسلب وبيع الوظائف في سوق (المزاد) السري وإغداقها على الأنصار والذيول. ورث عنهم هذه الفروق الشاسعة بين طبقات الناس، فإلى جانب القصور المحلقة بأجنحتها تعشعش الهياكل الآدمية في أكواخ وبيوت كأنها القبور ليس فيها إلا الدود والعظام. وإلى جانب الأكراش المترهلة بألوان الطعام بطون وبطون تنطوي على الجوع والحرمان. وإلى جانب الأكتاف والنحور المثقلة بالفرو والسنجاب والماس والجواهر أجساد عارية لا تجد الكساء. وإلى جانب الإقطاعيات المترامية مشردون لا يجدون مفحص قطاة. وإلى جانب الحكام والمتنفذين محكومون يلوذون بالصمت حيناً وبالتذمر حيناً آخر، وكلا الحالين أحلاهما مر؛ ففي الأول جوع، وحرمان وفي الثاني سجن وتعذيب، وإلى جانب الاستعمار المستشري شعوب ذليلة خاضعة تأتيها الصفعة من كل جانب،!! هذا هو التفسخ السياسي والاجتماعي في البلاد العربي والإسلامية يصوره لنا الأستاذ الكبير سيد قطب في كتابه الجديد (معركة الإسلام والرأسمالية) ففي هذا الكتاب دعوة صارخة إلى الحق والكف عن الفوضى التي دهورت المجتمع العربي الإسلامي وجعلت منه ميداناً فسيحاً لعبث العابثين وألعوبة بين المستعمرين حتى تساوى معلموه وجهاله في ضعف الذاتية وتبلد الفكر والتواء الطريق وسخف الهدف والاتجاه. وكثيراً ما نسمع في هذه الأيام من الكلمات الفارغة هنا وهناك في الإصلاح والتكتل الإسلامي وما شابه ورادف. . كلمات لا تجدي شيئاً لأن قائليها عبيد مأجورون قد انعدمت ذاتيتهم وضؤلت نفوسهم. أما الأستاذ قطب فليس من أولئك لأنه ليس بسياسي (مأجور) ولا معمماً يتجر بالدين، وإنما هو واحد من أحرار الفكر والضمير.
ومن الخير أن أسوق بعض الأمثلة من هذا الكتاب الذي بين أيدينا. قال الأستاذ قطب في ص7:
(إن الإسلام ليصرخ في وجه الظلم الاجتماعي والاسترقاق الإقطاعي وسوء الجزاء، وإنه ليمد المكافحين لهذه الأوضاع القائمة. وما من إثم أكبر من إثم الذين يدينون بالإسلام ثم يقبلون مثل هذه الأوضاع أو يبررونها باسم الإسلام، والإسلام من مثلها براء).
ويتحدث عن الكتلة الإسلامية فيقول في ص33:
(في هذا العالم رقعة فسيحة متصلة الحدود من شواطئ الأطلنطي إلى جوانب الباسفيكي تضم أكثر من مائتي مليون من الناس يشتركون في عقيدة واحدة ونظام معيشي واحد، وتقاليد متقاربة ولغة إن لا تكن واحدة فهي في طريقها لأن تصبح لغة التفاهم للجميع. . . فأي عقل يمكن أن يغفل هذه الكتابة الضخمة من الحساب؟).
وفي ص38 يتحدث عن العالم العربي وموقفه من النزاع الدولي فيقول:
(إن هذا العالم العربي الممزق في برثن الاستعمار الغربي ليستحق اللعنة والاحتقار إذا مد يده الذليلة ليسند الغرب الفاجر في بأسائه مرة أخرى).
قد يقال: إن الأستاذ قطب يدعو إلى فكرة رجعية تحرمنا (لذه) الاتصال بالغرب ولكن الشأن غير ذلك فهو يقول في ص35و36:
(نحن لا ندعو إلى عزلة فكرية أو اجتماعية عن ركب الإنسانية المندفع فنحن شركاء في القافلة، شركاء في الحضارة البشرية. . . ولكننا ننعى هذا التسول الدائم الذي نزاوله وهذا الاستجداء المزري الذي نحن عاكفون عليه. . . وما دمنا نستجدي دائماً ولا نعطي شيئاً فنحن على مائدة الإنسانية في موضع الشحاذ المتسول لا في موضع الواهب الكريم).
هذه بعض الأمثلة من هذا الكتاب؛ وكله على مثل هذا النسج وقد كتب بأسلوب مؤثر تمكن في طياته حرارة القلب المؤمن بوطنه ودينه وأمته، ونضج المفكر الحر الذي يشعر بكرامته وكرامة جنسه، وصدق الداعي الذي يؤمن برسالته أحر الإيمان. ولعل هذا الوصف الشامل الدقيق للحالة الاجتماعية والسياسية يعود ويكون مقدمة لما في الكتاب من استيحاء للنظم الإسلامية في مختلف نواحي الحياة، وقد عالج الأستاذ قطب هذه النظم بدقة وطبقها من الوجه النظرية على شؤون المجتمع.
هناك كلمة أقولها للصديق الكبير على صفحات الرسالة ولعلي قلتها له في معارض الحديث أكثر من مرة: إن هذه الدعوة التي يدعو إليها حق لا مراء فيه ولكن أين هي القوة المنفذة التي تستطيع أن تطبق الأحكام والنظم الإسلامية بدقة. وهل باستطاعتنا أن نخرج من الحدود النظرية إلى العملية في وقت تتولى السلطة فيه طبقات تحارب الإسلام لأنه يحاربها. . .؟ وهل بإمكاننا أن نقيم صرحاً متيناً على دعائم متآكلة وجدران متداعية؟ إن لحظة من الزمن وكلمة من لسان لا تستطيعان استخلاص الإسلام من الشوائب التي علقت به طيلة ثلاثة عشر قرناً، ولكن بعد أن تنقي التربة وتصفي المياه يمكن أن نعيد غرس هذه الشجرة من جديد وأن ننعم بظلها وثمرها.
ولعلي أتجنى على الأستاذ قطب بهذه الكلمة لأنه لم يغفل هذه الناحية التي تعترض طريق التطبيق بل ألح عليها كثيراً واستعرضها استعراضاً شاملاً وأهاب بالشعوب الخاضعة والجماهير المغلوبة أن تعيد غلى نفسها حقاً فرضه الدين وجحده المسلطون.
وبعد فقد قرأت للأستاذ قطب في معظم كتبه التي تفضل بها علي ورافقته في الكثير من إنتاجه؛ ولكني أحسست بعنف الهزة حين قرأت هذا الكتاب الجديد لأنه منطق الشعور العام لا منطق الأذناب والعبيد. . .
هذه كلمة لا أظنها تكفي لتسجيل ما في هذا الكتاب من قوة وتفكير وصدق وإيمان.
إبراهيم الوائلي