مجلة الرسالة/العدد 913/من شئون المساكين وتخطيط البلدان
→ غزوة بدر بين القرآن والشعر | مجلة الرسالة - العدد 913 من شئون المساكين وتخطيط البلدان [[مؤلف:|]] |
عهود الظلام ← |
بتاريخ: 01 - 01 - 1951 |
في النظم الإسلامية
للأستاذ لبيب السعيد
لما انعقدت بالقاهرة أخيراً الدراسات الاجتماعية للدول العربية ناقشت المساكن وتخطيط القرى في الريف، وفي رأينا أنه كان يجمل بالمؤتمرين - وهم مندوبو دول عربية إسلامية - يلتفتوا إلى آراء النظم الإسلامية في هذا الشأن، ولكنهم لم يفعلوا، والظن أنهم في غمرة التقدير المسرف لنظم الغرب وأفكاره وتشريعاته شغلوا عن الإفادة من النظر في تضاعيف التاريخ الإسلامي ما يحوى من ثروات اجتماعية فكرية وتشريعية، وهي ثروات يمكن الانتفاع منها في الطلب للمشكلة والملاءمة عند الاقتضاء بين بعضها وبين الزمن. وربما كان من دواعي هذا الإغفال أن الإسلامية لم يستخرج بع الكثير من غرائب نصوصها، ولم تدرس بعد على نحو علمي عميق يجلوها نصوصاً وروحاً ومعقولاً.
وفي موضوع المساكن، تسبق النظم الإسلامية إلى مبدأ بالغ لأهمية هو إلزام الدولة بتدبير مساكن للفقراء، ذلك أن الشريعة تقتضي أغنياء كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، وأن يجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم. والقيام بالفقراء لا يكون بتدبير القوت وكسوة الشتاء والصيف فحسب، ولكنأيضاًبتجهيز مساكن لهم يصفها ابن حزم بأنها (تكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة)
وتوفير المساكن أمر عمرانيتستهدفه النظم الإسلامية، فليس لمالك دار أن يهدمها إذا كان في ذلك - كما يعبر المفتون - (ضرر لأهل السكة بخراب المحلة)
والمسلمون في سياستهم المسكنية يعنون بقوانين الصحة الوقائية، فهم مثلا لا يغفلون عن وجوب نقاء ماء الشرب، ويعرفون للماء خطرة في توفير النظافة، ولذلك فهم حين تواتيهم الفرصة بفضل الظروف الطبيعية يزيدون البيوت كبيرها وصغيرها بالمياه النقية. يتحدث المرحوم الأستاذ أمير على عن مياه الشرب في دمشق أيام فيقول: (ومع أن نهر (بردي) كان يجهز المدينة ولا شك بالمياه الكافية إلا أن الأمويين أبدوا مهارة منقطعة النظير في تجهيز حتى أحقر دور المدينة بأحواض خاصة تنبثق منها المياه الصافية، كما حفروا سبعة جداول رئيسية تنساب في أنحاء المدينة، وعلاوة على المجاري العديدة الأخرى تربط كل منزل بالمجرى الرئيسي.) ولقد زار ناصر خسروا المسجد الأقصى فرأى هناك (ميازيب من الرصاص ينزل منها الماء إلى أحواض حجرية تحتها هذه الأحواض ليخرج منها الماء وبصب ي الصهاريج قنوات بينها غير ملوث أو عفن)
ويبدو أن العناية بالمرافق العامة كانت مبذولة في مختلف البلاد الإسلامية صغيرها وكبيرها، فمن وصف ناصر خسروا لمسجد (ميافارقين) في فارس أن (لميضأته أربعين مرحاضا تمر أمامنا قناتان كبيرتان: الأولى ظاهرة ليستعمل ماؤها، والثانية نحن الأرض لحمل الثقل والصرف) ومن صفة لمسجد (آمد) (أن به ميضأة عظيمة جميلة الصنع بحيث لا يوجد أحسن منها) وكذلك من وصفة لسوق طرابلس الشام أن فيها مشرعة ذات خمسة صنابير يخرج منها ماء كثير، ويأخذ منه الناس حاجتهم) ويذكر ابن دقماق عن وزير لآل طولون أنه (عمل المجاري في سنة 304 أو 303 هـ. وكشفت حفريات الفسطاط عن كثرة المعدات الصحية وانتشارها فيها؛ يقول صاحبا هذه الحفريات المرحوم علي بك بهجت والمسيو ألبير جبرييل في هذا الشأن: (يستدل من كثرة المعدات الصحية وانتشارها على زيادة العناية بأمور الصحة العمومية لأنا لم نر داراً خلت من وجود مجارير للمراجعة حيض متسلطة على بيارة تنصرف إليها مياه الدار) وقد وصف هذان الأثريان تفضلاً نظم بناء المراحيض والمجاري بالفسطاط ونظم توزيع الماء في هذا البلد، سواء بالآبار أو بالقنوات والأنابيب أو بالفساقي وأحواض غسل الأيدي فنستدل من هذا الوصف على تقدم في الهندسة الصحية. ونقل المؤلفان عن مخطوطات في الحسبة بمكتبة الجامعة الفرنسية ببيروت نصا مؤداه أنه لا يجوز لأحد إخراج كل ما فيه أذية وأضرار على السالكين في الشوارع كمجاري الأوساخ الخارجة من الدار في زمن الصيف إلى وسط الطريق، كما نقلاأيضاًنصا يفيد أن على من ينقلون السماد إلى ظاهر البلدان أن يحفروا له حفائر، فإذا نقل إليها يطم عليه حتى تنقطع رائحته، فلا يتأذى منه أحد، ويمنعون من نقل ذلك إلى الماء وطرحه فيه أو ما حوله.
ومن القواعد الشرعية الإسلامية أنه كان لدار مسيل قذر في الطريق العام، وكان مضرا بالعامة، أو حتى الطريق الخاص وكان ضرره ولو كان قديماً ولا يعتبر قدمه.
وهكذا تتظاهر أدلة التاريخ الآثار والشريعة في الشهادة بأن النظم الإسلامية أولت الصحة الوقائية عناية تامة.
وتلتفت النظم الإسلامية إلى الأماكن الموصوفة في مصطلح وزارة الصحةالآنبأنها (مقلقة للراحة أو ضارة بالصحة) وتتصرف تلقاءها على نحو يشبهه ما تجري عليه اللوائح المتعارفة حالياً فلا يجوز مثلاً إقامة مخبز أو مطحن أو مدق في (الحيطان) التي كانت وقتئذ بمثابة مرافق صحية. ويمنع نصب المنوال لاستخراج الحرير من دود القز إذا تضرر الجيران بالدخان ورائحة الديدان. بل أن حق الجيران منع يتخذ داره حماماً إذا تأذوا من دخانه. ويمنع دقائق الذهب من دقة بعد العشاء إلى طلوع الفجر إذا تضرر الجيران من ذلك. ليس لأحد أن ينشئ بستاناً في أرض يتعدى ضررها إلى جدار الجيران، وكذا يمنع من يجعل دكانه طاحونة أو معصرة أو حماماً أو إسطبلا، وليس لأحد أن يقيم تنوراً في وسط تجار الأقمشة إذا كان يضرهم دخانه.
وقد كان المسلمون أول الأمر يكرهون المغالاة في البيان والإسراف فيه، ولكنهم بعد سايروا مقتضيات الزمن. كتب عمر بن الخطاب إلى عتبة بن مروان وأصحابه بالبصرة لنا بنوا باللبن: فقد كنت أكره لكم ذلك، فإذا ما فعلتم فعرضوا الحيطان وارفعوا السمك وقاربوا بين الخشب).
والاجتماع الإسلامي يعرف راشداً ما تحب مراعاته في أوضاع البلدان. فقول لبن خلدون: (ومما يراعي في ذلك للحماية على الآفات السماوية طيب الهواء للسلامة من الأمراض، فإن الهواء إذا كان راكداً خبيثاً للمياه الفاسدة أو منافع متعفنة أو مروج خبيثة أسرع إليها العفن من تجاوزها، فأسرع المرض للحيوان الكائن فيه لا محاولة. . والمدن التي لم يراع فيها طيب الهواء كثيرة الأمراض في الغالب) ويمضي لبن خلدون فيتحدث عن المرافق العامة التي يستلزمها نفع البلد ودفع الشقة عن أهله، فيشير إلى أهمية قرب الماء وطيب المرعى للساعة.
وعناية النظم الإسلامية باتساع الطرق عناية بالغة. بذكر الماوردي - وهو بسبيل تعداد مواضع ولاية القاضي - أن منها (النظر في مصارع عمله من الكف عن التعدي في الطرقات والأفنية وإخراج ما لا يستحق من الأجنحة والأبنية) ويذكر أن للقاضي أن ينفرد بالنظر فيها وإن لم يحضره خصم لأنها من حقوق الله تعالى التي يستوي وغير المستعدي، فكان تفرد الولاية بها أخص)
وآية نضج ذوقي وتقدم حضاري أن من أوقاف المسلمين ما كان على تعدل الطرق، (ويأخذهم بهدم ما بنوة ولو كان المبنى مسجداً، لأن مرافق الطرق للسلوك لا للأبنية)
والفقه يحرص حرصاً المثالية على حق الجمهور في الانتفاع بالطرق العامة، فليس لأهل سكة أن يسدوا رأسها، ولا أن يبيعوها ولو كانوا أصحابها وأنفقوا عليها، ولا أن يقتسموها فيما بينهم، ذلك أن الطريق الأعظم - كما يقول أبو حنيفة - (إذا كثر فيه الناس كان لهم أن يدخلوا هذه السكة حتى يخف الزحام) وإخراج مصاطب الدكاكين إلى الجمهور عدوان على المارة يجب على المحتسب وإزالة والمنع من فعله. ولا يجوز لأحد أن بيني ظله تضر الطريق، (ومن خاصة من المسلمين قبل البناء فله أن يمنعه، وبعد البناء له أن يهدمه.
وتمضي الحسبة الإسلامية في النهوض بما تنهض بهالآنمصلحة التنظيم والمجالس البلدية، فالميازيب الظاهرة من الحيطان في زمن الشتاء يأمر المحتسب أصحابها (أن يجعلوا عوضها مسيلاً محفوراً في الحائط مكلساً يجري فيه ماء السطح؛ وكل من كان في داره مخرج للرسخ إلى الطريق فإنه يكلف سدة)
وعلى المحتسب أن يأمر الأسواق بكنسها وتنظيفها من الأوساخ والطين والمجتمع وغير ذلك مما يضر بالناس.
ومن قول الرسول: إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وهو - صلوات الله عليه - يقرر أن من قضى حاجته تحت شجرة مثمرة أو على طريق للسير أو على حافة النهر فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. والمسلمون بعده يتناهون عن توسيع الطرقات، فالسمر قندي مثلا يقول: (ولا ينبغي للعاقل أن يتمخط أو يبزق في ممر الناس كيلا يصيب أقدامهم).
لذلك، كانت نظافة الطرقات لافتة، وقد رأى ناصر خسروا شوارع طرابلس الشام وأسواقها من الجمال والنظافة بحيث ظن أن كل سوق قصر مزين. وفي صيدا رأى سوقا جميلة نظيفة ظن أنها زينب لمقدم السلطان أو بمناسبة بشرى سعيدة، ثم ما لبث أن عرف أنها عادة المدينة دائماً.
ومن اللفتات الفقهية الكبيرة الدلالة أن شغل البائع للطريق الضيق على نحو يتضرر منه الماس يوجب عدم الشراء منه (لأن القعود على الطريق بغير عذر مكروه. ولهذا لو عثر به إنسان وهلك كان ضامنا، فالشراء منه يكون حملاً له على المعصية وإعانة له على ذلك).
والمرور في الطريق له قواعده، فيستحب للراجل مشيه في جانب الطريق، وللركب في وسطه إذا كان في مصر، وإن كان في الفضاء فوسط الطريق للراجل وحافتاه للراكب. ويستحب للمتنقل أن يوسع للحافي عن سهل الطريق. وقد أشار لبن بطوطة إلى أن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليها المترجلون ويمر الركبان بين ذلك.
وترى الشريعة الإسلامية أن المنافع العامة كالقناطر والطرق النافذة والشوارع العامة التي ليست بملك لعين لا يجوز لأحد أن يختص بها ولا أن يمنع غيره الانتفاع بها بل تبقى لمنفعة عامة.
ولا شك أن الشريعة تستهدف من هذا أن يكون نفع الشطوط ومتعتها مشاعاً بين الأهلين غنيهم وفقيرهم. وقد ذكر ابن إياس في أخبار ستة 866هـ أن الشيخ جلال الدين الأسيوطي أفتى بأنه لا يجوز البناء على ساحل الروضة بناء على ذلك الإجماع، وأن ما ذكر من جواز ذلك في مذهب الشافعي باطل وليس له صحة في كتب الشافعية قاطبة.
والبيوت لا تترك الحرية المطلقة لأصحابها في تعليقات على حساب مصلحة الجيران. قيل: يا رسول الله، ما حق الجار على الجار؟ قال: - وعدا أموراً -. . وأن لا تطيل بناءك عليه إلا بطيبة من نفسه.
ولا يفوت النظم الإسلامية أن تهتم بمطارح الحصائد أو ما نسميه الأجران، فهي تقر حاجة القرية إليها وتعدها (بمنزلة الطريق والنهر، ولذلك لا تعتبر مواتا، بل تعتبر للعامر لأنها من مرافقه).
بقى أن نسأل استيفاء للبحث: كيف كانت حال المساكن وتخطيط البلدان في حواضر أوربا بل في ريعها؟ سندع العلامة
هنا نقص