مجلة الرسالة/العدد 913/غزوة بدر بين القرآن والشعر
→ الإسلام نظام عالمي | مجلة الرسالة - العدد 913 غزوة بدر بين القرآن والشعر [[مؤلف:|]] |
من شئون المساكين وتخطيط البلدان ← |
بتاريخ: 01 - 01 - 1951 |
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 1 -
بين القرآن
لغزوة بدر أثر كبير في حياة الدولة الإسلامية الناشئة ففيها جمع المكيون أمرهم، وحشدوا قوتهم، وأقبلوا بجموعهم، يريدون القضاء على هذه الجماعة التي عابت دينهم، وسفهت أحلامهم، ووجدوا أن الفرصة التي طالما تمنوها في هذه واتتهم بمهاجمة محمد وصحبه، فيمضي دينه معه، ويعودون إلى ما كانوا عليه من قبل، لا ينغص عليهم حياتهم دعوة إلى نبذ ما ألفوه، وطرح ما ورثوه عن آبائهم من عقائد وعادات.
ولكن الدائرة دارت عليهم، على غير ما كانوا يؤملون، وانتصر المسلمون انتصاراً مؤزراً، قتلوا فيه جمعاً من رجالات قريش، وأسروا طائفة أخرى، وعاد الرسول وصحبه فرحين بانتصارهم، مبتهجين بما أفاء الله عليهم، ورجع المكيون يحرقون الأرم على ما نزل من القرآن الكريم في هذه الغزوة المباركة سورة كاملة، هي سورة الأنفال، تنوع فيها القول بين حديث عن المؤمنين، وحديث عن المشركين، وسن أحكام جديدة يقتضيها هذا العهد الجديد من عهود الجهاد.
تحدثت السورة عن هذه الغزوة، فتغلغلت إلى أعماق نفسية المؤمنين، فحدثتنا عن كراهة بعضهم للخروج إلى القتال كراهة مليئة بالخوف والجزع، وقد دفعهم ذلك إلى جدال الرسول جدالاً عنيفاً، برغم ما يسوقه الرسول من حجج، يؤيد بها ما يريده من الخروج إلى حرب القرشيين، ويصور القرآن في صراحة جزع هؤلاء إذ يقول: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون، يجادلونك في الحق بعد ما تبين، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) ولعل قلة المسلمين يومئذ هي التي دفعت هذا الفريق إلى الجدال، وإلى الرغبة في أن يستولوا على أموال المكيين، ويعودوا المدينة بلا قتال. وهنا يذكر القرآن أن الله لم يخرجهم من ديارهم رغبة في مغنم يحصلون عليه، ولكن يريد أن يثبت بهم دعائم هذا الدين الجديد، وينصر الحق (ويقطع دابر الكافرين).
وتصور السورة المؤمنين، وقد وصلوا إلى ميدان المعركة، شاعرين بضعفهم، لاجئين إلى الله أن يمدهم بقوة من عنده، فيمضي الرسول مقوياً من روحهم المعنوية، ويعدهم بأن الله سيمدهم بالملائكة ينصرونهم، حتى تطمئن قلوبهم، ويملأ التفاؤل أنفسهم، وكان لذلك أثره، فثبتوا في المعركة ثابتاً أذهل أعداءهم، وملأ قلبهم بالوهن والرعب، حتى تمكن المسلمون من ضرب أعناقهم وبتر أعضائهم، (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أتى معكم، فثبتوا الذين آمنوا، سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب، فاضربوا فوق الأعناق، واضربوا منهم كل بنان).
ويرسم القتال ميدان القتال، وقد اتخذ فيه المسلمون أماكنهم بالعدوة الدنيا من وادي بدر، واتخذ الأعداء أماكنهم بالعدوة القصوى منه، وكأنما يريد القرآن ألا ينسوا هذا الموقف، وأن يذكروا ما كان يخالطهم فيه من مشاعر واحساسات، ويسجل شعور الطائفتين عندما تراءى الجمعان، فقد خيل للمسلمين أن أعداءهم قلة فأقبلوا مستميتين في القتال حتى هزموهم، وخيل للمشركين أن أصحاب محمد قلة، فخاضوا غمار المعركة مستهينين، وقد ألقى في نفس الطائفتين هذا الشعور، ليتم ما أراده الله من انتهاء المعركة بما انتهت به، انتهاء أوحى إلى نفوس المسلمين الشعور بقوتهم ما داموا ينصرون الحق، ويذودون عن الدين الصحيح، حتى لكأن الله يدافع عنهم، ويذود دونهم، (إذ أنتم بالعدوة الدنيا، وهم بالعدوة القصوى، والركب أسفل منكم، ولو تواعدتم لا اختلفتم في الميعاد، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولا، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم، إذ يريكم الله في منامك قليلاً، ولو أراكهم كثيراً فشلتم، ولتنازعتم في الأمر، ولكن الله سلم، أنه عليم بذات الصدور، وإذ يريكم إذ التقيتم في أعينكم قليلا، ويقلكم في أعينهم، ليقضي الله أمراً كان مفعولا، وإلى الله ترجع الأمور). وهو عندما يذكرهم بالله وقوته، حين يقول: (فلم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت، ولكن الله رمى) - يملأ قلوبهم ثقة بالله، واطمئناناً إلى نصره لهم، فتقوى روحهم المعنوية، ويقدمون على القتال بلا خوف ولا رهبة.
وتحدثت السورة عن المؤمنين، وأخذت تحثهم على طاعة الرسول، بعد أن تبينوا يمن رأيه، والنجاح فيما دعاهم إليه، وهنا ينفر من العصيان، مخرجا العاصين من عداد بني الإنسان، مذكراً إياهم بهذه النعمة الشاملة التي أسبغها عليهم، وهي نعمة أمنهم بعد الخوف، ونصرهم بعد الضعف، فجدير بهم أن استجيبوا لله وللرسول وألا يخونوهما، وألا يدعوا أموالهم وأولادهم تحول بينهم وبين هذه الطاعة، (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم،. . . واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض، تخافون أن يتخطفكم الناس، فآواكم، وأيدكم بنصره، ورزقكم من الطيبات، لعلكم تشكرون، يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول، وتخونوا أماناتكم، وأنتم تعلمون واعلموا إنما أموالكم وأولادكم فتنة، وأن الله عنده أجر عظيم). وإذا كانت السورة قد عنيت بصفة الطاعة هنا، فحثت المؤمنين عليها، فلأن صفة الطاعة أهم صفات الجندي، وأول خلة تطلب فيه، وبدونها لا يمكن كسب معركة، ولا الانتصار في قتال، والسورة تعدهم للجندية، فلا غزو أن دعتهم إلى الاستمساك بأهم صفاتها.
كما تحدثت حديثاً طويلاً عن المشركين، وصفت فيه موقفهم من الرسول، وموقفهم من القرآن، وموقفهم من الدين الجديد وتعاليمه:
أما موقفهم من رسول الله، فقد دبروا له المكايد، يريدون أن يحبسوه، أو يقتلوه أو يخرجوه، وكان موقفهم من هذا الدين الجديد موقف السفهاء الذين يدفعهم سوء تفكيرهم إلى أن يطلبوا آية تؤذيهم. وكان موقفهم من الصلاة سخرية واستهزاء، ويصف القرآن بذلهم الأموال لهدم هذا الدين الجديد، ويسخر من ضياعها سدى، قال سبحانه. (وإذ يمكر بك الذين كفروا، ليثبتوك، أو يقتلوك، أو يخرجوك، ويمكرون، ويمكر الله والله خير الماكرين، وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا: قد سمعنا، لو نشاء لقلنا مثل هذا، إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم،. . . وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصديه، فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، إن الذين كفروا ينفقون أموالهم، ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها، ثم تكون عليهم حسرة، ثم يغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون).
والقرآن في هذه السورة بصور نفسيتهم عندما جاءوا إلى المعركة، فقد كان يملأ أفئدتهم، وكانوا يرغبون رغبة ملحة في أن يطير ذكر خروجهم في العرب، وأن يخنقوا هذا الدين الجديد، وقد أصغوا إلى ما غرهم به الشيطان وعدهم من النصر ولكنه لم يلبث أن تركهم وحدهم في ميدان المعركة لمصيرهم المشئوم. لقد طار غرورهم تحت شدة وطأة الضربات القوية التي كآلها المسلمون لهم، والقرآن يصور ذلك في أسلوب أخاذ، فيقول (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله، والله بما يعملون محيط، وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم، وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإنيجار لكم، فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه، وقال إني برئ منكم، إني أرى مالا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب)
ومع تهديد القران للمشركين، وتوعده لهم قائلا: (إن تستفحوا فقد جاءكم الفتح، وإن تنتهوا فهو خير لكم، وإن تعودوا، نعد، ولن تغنى عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت، وأن الله مع المؤمنين) - يفتح أمامهم باب الأمل، ويمهد أمامهم السبيل للعودة إلى الحق وتركوا اللجاج في الطغيان، (قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر ما قد سلف، وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين) وذكرهم القرآن بآل فرعون ومصيرهم عندما (كفروا بآيات الله، فأخذهم الله بذنوبهم، إن الله قوى شديد العقاب)؛ وصور لهم المصير المؤلم الذي ينتظرهم، إذا هم أصروا على عنادهم، وتمادوا في كفرهم، فإن الملائكة يستقبلونهم شر استقبال، ويدفعونهم إلى عذاب أليم، (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق، ذلك بما قدمت أيديهم، وأن الله ليس بظلام للعبيد)؛ وكل ذلك يدفعهم إلى التفكير العميق، ويثير فيهم غريزة المحافظة على الذات كي لا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، وكي يعدوا منذ اليوم عدتهم للنجاة من هذا المصير.
ولما كانت معركة بدر أولى المعارك الكبرى، فقد ضمت سورتها تعاليم عليها في حروبهم المقبلة.
وأول هذه التعاليم الثبات المستميت في الجهاد، وهو يتوعد شديد الإبعاد من يفر من المعركة، لما للفرار من الأثر في تحطيم وحدة الجيش والذهاب بماله من قوة معنوية، فقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله، ومأواه جهنم، وبئس المصير)
ومن تلك التعاليم ألا يسمحوا للنزاع بأن يدب بينهم، وأن تكون الطاعة لله وللرسول شعارهم، (يا أيها الذين آمنوا، إذا لقيتم فئة فاثبتوا، واذكروا والله كثيرا لعلكم تفلحون، وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا، إن الله مع الصابرين)
ومنها أن تكون العقيدة هي التي تدفعهم إلى الجهاد، لا محبة الاعتداء، ولا الغرور والرياء، وقد سبق أن بيتنا كيف نعى على المشركين غرورهم وبطرهم. وللعقيدة أثرها في الروح المعنوية، حتى لقد جعل القرآن الرجل المؤمن ذا العقيدة يساوي عشرة من المسلمين في الميدان القتال، ثم خفف الله عنهم وجعله يضارب رجلين.
ومنها الحزم في معاملة العدو، وعدم الظهور بمظهر الضعف، لئلا يظن العدو فيهم وهنا، فهؤلاء الذين لا يحترمون عهودهم إذا عقدوا عهدا - جدير، أن يكونوا عظة لغيرهم، وأولئك الذين يضمرون الخيانة حريون بأن ينبذ إليهم عهدهم؛ ويوصي القرآن بإعداد القوة والعناية بأمرها، لما طبعت عليه النفوس البشرية من خوف القوة والجدير منها، فقال: (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرون من دونهم، لا تعلمونهم، الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم، وأنتم لا تظلمون)
وتحدثت السورة كذلك عن تقسيم الغنائم ومعاملة الأسرى، وختمت بالثناء على هؤلاء الذين جاهدوا في تلك الغزوة، وأبلوا فيها أحسن البلاء من المهاجرين والأنصار، ووعدهم بأكرم الوعود، قال سبحانه: (والذين آمنوا، وهاجروا، وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا ونصروا، أولئك هم المؤمنون حقا، لهم مغفرة ورزق كريم)
أرأيت كيف تنوعت أغراض السورة، بين وصف لنفسه الفريقين المتقاتلين، وعمل على تقوية الروح المعنوية في نفوس المؤمنين، وتحطيم هذه القوة عند المشركين، وكيف يقف الدين الجديد إزراء هؤلاء المشركين موقف الحزم المشوب بالرحمة وفتح باب الأمل، وكيف كانت الغزاة سببا في سن تعاليم جديدة توطد للدين الناشئ أقدامه، وتهدم ما بناه المشركون من أوهام وخرافات المهاجرين والأنصار، ويؤلف بين قلوبهم
أحمد أحمد بدوي