مجلة الرسالة/العدد 913/الإسلام نظام عالمي
→ نجوى الرسول الأعظم | مجلة الرسالة - العدد 913 الإسلام نظام عالمي [[مؤلف:|]] |
غزوة بدر بين القرآن والشعر ← |
بتاريخ: 01 - 01 - 1951 |
للأستاذ عباس خضر
شاع بيننا - منذ غزتنا أوربا بجيوشها وحضارتها - أن الحياة الدينية شيء آخر غير الحياة العلمية، وحرص الغزاة على أن يقروا هذا الوهم في نفوسنا، وأردنا نحن ذلك وسعينا إليه وعملنا له، عند ما رأينا الحياة الأوربية نفسها قائمة على ذلك الوضع، إذا بدا لنا أن ننهض كما نهضت أوربا، وقد قامت النهضة الأوربية بمعزل عن الحياة الدينية بعد أن اجتازت دور الصراع بينها وبين الكنيسة، ذلك الصراع الذي انتهى إلى جعل الدين في وضع صلاحي يتفق مع مبادئ المسيحية التي تنحصر في شعائر العبادة والتهذيب الروحي وتدع ما ليقصر لقيصر وما لله لله، ولم تهتم بأن نلائم بين نهضتنا الحديثة وبين شريعتنا الإسلامية، وساعد على ذلك جمود علما الإسلام ونفورهم أو توجسهم الشر من دخول الحضارة الأوربية إلى حياتنا، وكان التيار - ولا يزال - جارفا، ولم تكن مقاومته مستطاعة ولم تكن من الخير لتقدمنا، وكان الخير كله، أن نتقبله ونحيله إلى ما يوافقنا، وكان هذا يقتضي نشاطاً عقلياً متجدداً، وكان أيضاً يقتضي جواً من الحرية خالصاً من أعراض الاستعمار.
ولندع ما كان وما كان أن يكون، لنعود إلى ما جرنا إليه، وهو تقليد الأوربيين في التفرقة بين الدين والمجتمع. الحقيقة التي يعرفها كل متبصر في الإسلام أن هذا الدين نظام كامل للحياة من نواحيها المختلفة، وهو ينظر إليها على أنها (مركب) - كما يعبر الكيمائيون - فليس هناك ناحية روحية منفصلة عن سبيل التبرك به، وليس الدين رجال معنيون دون سائر المسلمين، فكل مسلم رجل دين، وقد جرى المجتمع الإسلامي - قبل تقليد الأوربيين - على تسمية الدارسين للشريعة الإسلامية بأسماء مختلفة ليس من بينها (رجال الدين) كانوا: أئمة، علماء، فقهاء، الخ وكان لفظ (الإسلام) لا (الدين) هو الذي يطلق غالباً على هذه الشريعة الكاملة التي تشمل نواحي الحياة جميعاً، كما تطلقالآنكلمة (الديمقراطية) أو (الاشتراكية) أو (الشيوعية) لتدل على مبادئها ووسائلها في تنظيم الحياة.
كنا إذن (إسلاميين) ثم تحولنا عن (إسلامية) في أكثر نظمنا السياسة والاجتماعية والاقتصادية، وأرضينا ضميرنا الديني أو خدعناه بأنه يكفي لإسلامنا أن نؤدي بعض الشعائر ونخضع للكثير من الأباطيل والخرافات التي تلتبس بشعائر الدين، وضربنا سوراً حول المشتغلين بالدراسات الإسلامية وعرفناهم بزي خاص وسيماء معينة وسميناهم روحانيين. ثم سمينا أنفسنا (ديمقراطيين) وأخيراً حلا لنا لفظ (الاشتراكية) فاتخذناه أو ادعيناه كما ادعينا الديمقراطية من قبل.
ولنفرض أننا الآن أردنا أن نعود إلى الإسلام بمعناه الحقيقي الكامل، مع استمرار سيرنا في ركب الحضارة العالمي، فهل يمكن ذلك؟ وماذا ينبغي أن نفعل؟
اعتقد أولا أنه لا يقف في سبيل ذلك إلا فهمنا المخطئ لحقيقة الإسلام، وأول شئ أن نصلح هذا الخطأ في عقولنا، ثم نعمل بمقتضى هذا الإصلاح.
والعجيب أن كثيراً منا يدافعون عن الإسلام بما لا يجعله صالحاً لمسايرة التقدم الإنساني، فيثلبون النظم الغربية لأنها مادية وأما نحن فقد صفت قلوبنا من المادية لأننا روحانيون. .! فهل نحن كذلك، أو هل ينبغي لما أن نكون كذلك؟ لقد أشرت قيما تقدم إلى أن لإسلام ينظر إلى الحياة كوحدة كاملة، حياة تسودها الضرورات المادية ويحكمها الضمير أو الوازع الذي ينظم التكامل الاجتماعي ويربطه برباط مكين.
إن الإسلام لم يهمل الجانب العملي في الحياة، بل حث عليه ودعا إليه، قال الله تعالى: (يا أيُها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسمعوا إلى ذكر الله وذروا البيع. ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) وقال النبي ﷺ: (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده).
بل أن الإسلام قدم الجانب العملي في الحياة على الجانب التعبدي، ورفع الأول على الثاني في بعض المواطن. روى أنس: كنا مع النبي في سفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلا في يوم حار، أكثرنا ظلا صاحب الكساء، فمنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوام، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال الرسول صلوات الله عليه وسلامه: ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله.
وذكر للنبي ﷺ رجل كثير العبادة فقال: من يقوم به؟ قالوا: أخوه. قال: أخوه أعبد منه.
وشهد شاهد عند عمر ين الخطاب، فقال: اثنتي بمن يعرفك، فاتاه برجل، فإنني عليه خيراً، فقال له عمر: أنت جاره الأدنى الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا، كنت رفيقه في السفر الذي يستدل به مكارم الأخلاق؟ قال: لا. قال: أظنك رأيته قائماً في المسجد يهمهم بالقرآن، يخفض رأسه تارة ويرفعه أخرى؟ قال: نعم. فقال: اذهب فلست تعرفه. وقال للرجل: اذهب فائتني بمن يعرفك.
هذا هو الإسلام في حقيقته، يحض على العمل، ويقدر القيم بالنتائج العملية، ويعرف أقدار الناس بأعمالهم وسلوكهم في المجتمع لا بمظاهر النسك والعبادة. وهو يقيس هذه الأقدار أيضاً بكفايات أصحابها وما يحسنون من أعمال. كتب أبو بكر إلى أبي عبيدة ما يلي:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله بنأبيقحافة إلىأبيعبيده بن الجراح. سلام الله عليك، أما بعد فقد وليت خالاً قتال العدو في الشام، فلا تخالفه وأسمع له وأطع، فإني فقد وليته عليك وأنا أعلم أنك خير منه وأفضل دينا، ولكن ظننت أن له فطنة في الحرب ليست ذلك، أراد الله بنا وبك سبيل الرشاد).
وهكذا فرق أبو بكر بين الورع والتقوى وبين الكفاية الحربية، وهو في ذلك بصدر عن روح الإسلام العلمية، فهو مع إكباره لأبي عبيده وتقديره لديانته وتقواه، يسند العمل لمن يراه أهلاً له وأقدر على القيام به، وهذا يدل على أن رجال الحكومة في الإسلام لا يصطبغون بالصبغة الدينية المقدسة، فإن الإسلام يقضي بأن يتولى الأمر من يحسنه لا من هو أعلم وأتقى، ومن هنا تبطل دعوى من يصف الحكومات الإسلامية بأنها دينية لا تصلح للقيام بالأمور، لأنها تتسلح بالقداسة الدينية وتمتنع بها على النقد.
وذلك لأن الحكومة التي تسير على نهج الإسلام لا تتصف بالصفة الدينية على النحو الذي يصفونه، وإنما هي حكومة تستمد سلطتها من الأمة لا من حق إلهي، وتعمل بمرقبة من الأمة، وكلنا يعلم ما قاله عمر بن الخطاب، وهو واقف على المنبر: من رأي في اعوجاجاً فليقومه، ورد أحد المسلمين عليه بقوله، والله يا عمر لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا.
أما التكافل الاجتماعي بين الناس فقد بلغ فيه الإسلام الغاية حتى أنه جعل الأمة الإسلامية كلها جسماً واحداً، قال النبي ﷺ (المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس) والأحاديث الواردة في هذا المعنى كثيرة مستفيضة. وقد محت الرابطة الإسلامية الفوارق بين الناس، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى فلا جنسية ولا لون ولا إقليمية ولا شيء مما إلى ذلك يفرق بين الناس، وقف سلمان الفارسي يقسم الغنائم بين المسلمين في إحدى الوقائع بين المسلمين والفرس، وفي الغنائم جواهر فارس وتيجان كسرى، فنظر إليه أحد زعماء الفرس مغيظاً وقال: يا سلمان إنها أمجاد قومك تسلمها لهؤلاء العرب! فقال سلمان: لست من أبناء الفرس، وإنما أنا ابن الإسلام.
وقد كفلت المبادئ الإسلامية السعادة لجميع أفراد المجتمع، وإن كانت هذه المبادئ تحتاج في هذا العصر إلى اجتهاد وتنظيم لتوافق روح العصر وتساير الركب؛ وهي حافلة بالذخائر التي يجب أن نكد في استخراجها ونحسن تطبيقها. هذا هو الضمان الاجتماعي التي تقوم بهالآن وزارة الشؤون الاجتماعية، ليس جديداً على الإسلام، فقد كان يعمل به العصور الإسلامية المتقدمة. ومما يتصل بذلك ما حكى عن عمر أنه يشيخ كبير يسأل الناس فسأله حاله، فلما عرف ضعفه وحاجته، قال له: لقد ظلمناك، أخذنا منك الجزية في شبابك ولم ننصفك في كهولتك وأمر له بدينارين كل شهر من بيت المال.
وأحب أن أنبه إلى نقطة مهمة في هذا الموضوع، وهي أن الإسلام لا يقصد بتشريعه المسلمين وحدهم، وإنما هو يعتبر المواطنين من أهل الأديان الكتابية الأخرى كالمسلمين، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم فهم أفراد من الأمة يظلمهم النظام الإسلامي كما يظل المسلمين، وهم أحرار في عباداتهم، ولكنهم يشاركون المسلمين في الحقوق والواجبات، فكل نظام إسلامي يشمل من يعايش المسلمين في بلادهم من أهل الكتاب، فهو يعتبرهم (إسلاميين) فالإسلام يجمعهم والمسلمين، وإن كان لكل عبادته، وهذه نقطة أخرى تدحض من يصف الدولة الإسلامية بأنها دينية على معنى أنها تقوم على صالح من ينتمي إلى الدين الإسلامي فقط.
الإسلام ذخيرتنا وفيه كل ما نحتاج إليه، وهو نظام عالمي يكفل للناس الحرية والإخاء والمساواة ويجب أن نحرص عليه وندعو إليه لا أن نتركه ونستجيب لدعوات النظم الأخرى.
عباس خضر