الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 910/الإرث التناسلي بين الطب والإسلام

مجلة الرسالة/العدد 910/الإرث التناسلي بين الطب والإسلام

مجلة الرسالة - العدد 910
الإرث التناسلي بين الطب والإسلام
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 11 - 12 - 1950


للدكتور حامد الغوابي

أما بعد فإن القرآن الكريم منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً قد أبدى من التوجيهات الطبية ما لم يعرفها الطب إلا حديثاً ولم يصل إلى كنهها إلا بعد فحص وتمحيص.

ولست هنا لأتكلم عن نضارة القول وفصاحة الكلام ودقة الأداء وحلاوة التعبير في كتاب الله فهذا قد خاض فيه رجال الأدب وما بلغوا منه ساحلا، إنما أتكلم من وجهة الطب بعد أن كشف الطب ودائع الغيب في كتاب الله الكريم فانجلت الرغوة عن الصريح ووضح الحق لذي عينين. فإلى الذين انصرفوا عن نور الإيمان وانحسرت نواظرهم عن طريق الهداية أقول: اسمعوا وعوا عسى أن يذكر ما أقول منكم ناسيا وينبه فبكم لاهيا.

وإلى الذين نبت الإيمان في حنايا ضلوعهم وامتلأت به أرجاء قلوبهم أقول: اسمعوه تجدوا فيه روحا على قلوبكم وبردا على صدوركم وزيادة اطمئنان وحلاوة إيمان.

يقول الله تعالى (فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) هنا تعجب قوم مريم كيف تأتي أمرا فريا وأبوها لم يكن امرأ سوء وأمها لم تكن بغيا فبين الله تعالى في هذه الآية على لسان قومها أن الأخلاق تنتقل بالوراثة وأن الأب إن كان غير حميد الخلق والأم إن كانت فاسدة نقلا إلى ذريتهما سوء الأخلاق بالتوريث.

وقال تعالى (قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلى فاجراً كفارا)

ومعنى ذلك أن الخلف يأخذ من السلف صفاتهم بالوراثة؛ فهؤلاء الكفار الفجر لا يلدون إلا أمثالهم. ولا جرم أن الولد سر أبيه ولا تلد الحية إلى حية.

هذا وفي أحاديث رسول الله (ص) ما يؤيد تأثير المرأة في توريث أخلاقها لأنسالها فيقول في الحديث (تزوجوا في الحجر الصالح فإن العرق دساس) ويقول (تخيروا لنطفكم ولا تضعوها في غير الأكفاء).

فنرى في هذين الحديثين أن رسول الله قد وضع أسس علم الوراثة فحذر من زواج المرأة إن لم تكن في الحجر الصالح أو لم تكن من الأكفاء لأن العرق دساس ينقل إلى فيها من خير وما فيها من شر. وحقاً إن تكن المرأة سيئة الخلق، لوثت بويضتها نطفة الرجل فيخرج الجنين كأمه سيئ الخلق أو إن تكن غير كفء بأن تكون ضعيفة العقل أو ذات بله فتنقل بويضتها وراثة البله والجنون وغير ذلك من الأمراض إلى نسلها.

وأمر لذلك رسول الله باختيار المرأة ذات الدين والخلق فقال في حديث آخر (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين والخلق تربت يداك) فإن النسل سيرث منها خلقها فيكون ملكاً رحيماً إن صلحت وشيطاناً رجيماً إن فسدت وهي مرآة أبنائها وهم صورة مصغرة منها ولم يهتم الرسول بغير دينها وخلقها.

هذه وجهة نظر في الوراثة من الأبوين وسنرى رأي الطب في ذلك.

الطب والوراثة

يقول الطب إن الجنين يعتمد في خلقته وتكوينه على نوع الحيوان المنوي في الرجل ونوع البويضة في المرأة فيخرج يشبه الأبوين جسماً وعقلاً، فإن اختلف عنهما كان موضع غرابة وشذوذ قاعدة.

وقانون (مندل) يقول بأن هناك وحدات تمثل صفات خاصة موجودة في الحيوان المنوي وفي البويضة، وهذه الوحدات تنتقل بعضها أو كلها إلى النسل، وعندما تتحد وحدات الأبوين المختلفة مع بعضهما باتحاد الحيوان المنوي والبويضة تتغلب وحدة على الأخرى أو بمعنىآخر قد تطغى إحدى خواص الوحدات من إحداهما على الأخرى في الذرية ولنضرب لذلك مثلاً يسهل علينا فيه هذه النظرية.

إذا توالد خنزيران بريان (وقد اختير هذا الحيوان لسهولة عمل التجارب عليه في المعامل) وكان أحدهما أبيض اللون والثاني أسود كان أول نسل منهما أسود اللون كأحد الأبوين وذلك لأن اللون الأسود يطغى ويمسح اللون الأبيض.

وليس معنى ذلك أن يذهب اللون الأبيض لغير رجعة فإن هذا النسل الأسود سوف ينتج إذا تناسل مع بعض نسلاً بعضه أسود وبعضه أبيض وقد وجد أن ثلاثة أرباع النسل في هذه الحالة يكون أسود كأحد الأجداد السود والربع أبيض كالجد الأبيض.

رأينا من المثل السابق كيف يطغى اللون الأسود على الأبيض في الإرث التناسلي فكذلك الخلق الفاسد يطغى على الخلق الحسن كما يطغى اللون القاتم الأسود على الأبيض الأزهر.

فإن كان أحد الأبوين فاسد الخلق نشأ النسل أكثر ميلاً إلى الفساد وجرى ذلك في أنسال متعاقبة ينشأ جيلهم إن لم يكن كلهم وقد التوت طرقهم وسقطت مروءتهم وضلت عقولهم. والأمثلة من واقع الحياة وسجل الأطباء كثيرة في ذلك، وأبدأ بإرث الجنين من الأب فأذكر قصة أسرة بأكملها هي أسرة جيوكس في نيويورك (عن كتاب الطب الوقائي لمؤلفه رزينو) بدأت هذه الأسرة برجل كانت مهنته صيد السمك وكان شريراً فاسد الأخلاق نزاعاً إلى الشر كسولاً في عمله وقد ولد سنة 1720 وقد رزق خمس بنات فتزوجت هذه الفتيات فأتين في ستة أنسال متعاقبة بحوالي 1200 شخص وقد عرف تاريخ 540 شخصاً منهم تمام المعرفة وعرف عن 500 آخرين جزء من تاريخهم وكان سجل هذه الأسرة أن 300 ماتوا في سن الطفولة و310 التزموا مهنة التسول و400 رجال ونساء فاسدات وأكثر من نصف النساء عاهرات و130 حذقوا أساليب الإجرام و60 لصاً اعتادوا الإجرام. ولم يعثر في سجل هذه الأسرة على واحد تعلم في مدرسة أو تخرج في جامعة ولكن وجد فيها 20 شخصاً تعلموا صناعات ولكن أين تعلموها؟ لقد تعلموها بين جدران السجون.

وسبب هذا النسل الفاسد كله رجل واحد فاسد قد لقحت نطفته الفاسدة المرأة فنقلت إلى بويضتها الفساد فورَّث البنات والبنين الشر والخنا المبين.

هذا مثل طبي أوردته كتب الطب وأثبتت كيف ينشأ النسل فاسدا كأبيه. وقد سبق إلى ذلك القرآن فقال (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء) حتى تأتي شيئاً فريا.

كما أن للجنين إرثا تناسليا من الأم ويصف (بويلمان) حالة أسرة بدأت بفتاتين أنسلتهما امرأة شرير سكير وأعقبا في خمسة أو ستة أنسال 834 منها 107 نغلاً (ولد زنا) و64 في الملاجئ و162 اتخذوا التسول مهنة و164 عاهرات و17 بين قواد وقرنان (لا غيرة له) و76 حكم عليهم بالإعدام والباقون بين لصوص وقتلة.

وهناك أمثلة عديدة لا يتسع المجال لذكرها الآن ولكن قد يسأل سائل لماذا نرى في بعض الأحيان من قد ينحدر مريضاً من أب سليم؟ فالجواب على ذلك أن السبب في مرض الأجداد السابقين كما رأينا أن الخنزير البري الأبيض قد نشأ في ثالث دور من التناسل من أبوين أسودين راجعاً إلى لون جده الأبيض الأول.

فالأب والأم والأجداد ينقشون صفحاتهم في الأولاد، ويورثونهم ما فيهم من عناد، حتى ليرى المولود كأنه نسخة طبعت مرة أخرى من صحيفة لوح موجود.

أجل. ألم تروا سادتي إلى أسر قد انتشر في أفرادها جميعاً شمم الأنوف، وإلى أسر غيرها قد تفشى فيهم فطس الأنوف؟ أم لم تروا مثلاً إلى أسر قد انتقل فيها نسلاً بعد نسل مرض البول السكري وإلى غيرها قد انتقل فيها الميل إلى الانتحار حتى إن أفرادها ليتشابهون في طريقة الانتحار.

ألم تروا إلى بني إسرائيل وقد توارث فيهم حب المال ينتقل فيهم جيلاً بعد جيل؟ أم لم تشهدوا العرب الرحل وقد كرهوا سكنى المدن ونزئوا تحب الخيام يتوارث الأبناء منهم ذلك عن الآباء؟

أليس فيما سبق أدلة على أن الوراثة تنتقل من الآباء إلى الأبناء وأن هذه الوراثة جسمانية وعقلية ونفسية، فكما تتجلى في الجسم في خلقته وقامته وصوره وحركاته

تتجلى في العقل في نموه أو ضعفه، وصحته أو مرضه، وذكائه أو بلاهته، وتتجلى كذلك في النفس في صفاتها وسجاياها وطباعها.

هذا وقد رأينا أن النطفة هي العامل على ذلك والناقل لما في الأب إلى النسل وكيف أن الدين الإسلامي قد ألم من قبل بتأثير الوراثة ثم رأينا كيف عبر القرآن عن النطفة بأنها أمشاج فقال تعالى (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيرا)

فالنطفة إن تكن بسيطة شكلاً فهي مركبة أصلاً وهي خليط من المواد في تكوينها، فهذه الحيوانات المنوية وهي ترى متشابهة شكلاً، فإذا بها قد أخرجت بعد تلقيح البويضات أجنة مختلفي الأنواع متبايني الصفات متنوعي الأشكال، فهذا ذكر وتلك أنثى وهذا أبيض وذاك أسود وهذا جميل وذاك دميم وهذا عاقل ذاك مجنون وهذا مستقيم وذاك مجرم أثيم.

فما هذا الذي يغير الأجنة وقد بدءوا متشابهين، وما هذا الذي ينوع الناس وقد كانوا في مبدأ الخليقة متماثلين؟ ألا إنه شيء في النطفة وفي البويضة كمين، وخبئ هو فيها دفين، ذلك صنع الله رب العالمين الذي خلق النطفة الأمشاج وجعلها في قرار مكين فتبارك الله أحسن الخالقين.

أرأيتم كيف ثبت القرآن الإرث التناسلي من قديم ثم جاء الطب فأيد القرآن بالأدلة والبرهان؟ وفي فرصة أخرى سنتكلم في موضوعات الطب والإسلام التي نرى لزاماً علينا أن ننشر بيانها على الناس هدى وإرشاداً.

حامد الغوابي

طبيب أول مستشفى رعاية الطفل بالجيزة