الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 910/على حد منكب

مجلة الرسالة/العدد 910/على حد منكب

بتاريخ: 11 - 12 - 1950


للأستاذ محمود محمد شاكر

قلت قديماً في الرسالة إن الشيخ إبراهيم اليازجي ومن لف لفه كالمعلم الشرتوني، هم أصحاب حشد وتخليط في جمع اللغة. وآفة الحشد والاستكثار ترك التبصر ومجافاة التمحيص. ثم يأتي الناس بعد ذلك فيأخذون هذا الحشد على ثقة وأمن، فتزداد بلبلة الناس في شأن اللغة. فما كل أحد يصبر على تتبع الكلام المبعثر في الشعر والنثر، ثم جمعه وتأليفه، ثم النظر في أصوله ومبانيه، ثم تمحيص المعاني المختلطة ورد كل قرينة منها إلى أختها.

وقد قرأت في عدد الرسالة (908) ما نقله الأستاذ محمود أبو ريه من كتاب نجمة الرائد لليازجي: (هو منه على حد منكب: أي منحرف عنه دائم الإعراض) وما عقبت به الرسالة من قول أقرب الموارد: (وفلان معي على حد منكب: أي كلما رآني التوى ولم يتلقني بوجهه، وهو كقولهم: فلان يلقاني على حرف). وأستطيع أن أوسع لليازجي والشرتوني في هذا الموضع مكان العذر، فقد نقلا، ولكنهما لم ينخلا الكلام ولم يمحصاه. والذي أوقعهما في هذا الوهم، هو حب الاستكثار، ثم اطمئنانهما إلى شيخ قديم كان من أئمة العربية، ولكنه كان أيضاً عريض الدعوى، جريئاً على التوهم، كثير التخليط في اجتهاده، بل كان يدلس فيما يكتب، إذ كان يأتي بالشيء يوهمك أنه مما نقله عن الرواة قبله، وهو في الحقيقة مما اخترعه بسوء رأيه وقلة معرفته بغامض كلام العرب - ولا أعني غريبه -، فهو كان قيما بالغريب حفظاً ونقلا. وهذا الشيخ القديم هو الخطيب التبريزي شارح الحماسة. ويدل شرحه للحماسة على ما ذكرت من صفته، وعلى شيء آخر، هو ضعفه الشديد في فهم دقائق الشعر العربي. ثم على شيء آخر أيضاً، هو أنه مشغول بالنحو وما إليه وبالأغراب في بيان وجوهه المختلفة. وهذه الكلمة التي نقلها اليازجي والشرتوني عنه، هو صاحبها، وهو مدعي هذا المعنى لها، ولم ترد في شعر قديم، ولا نثر معروف، على الوجه الذي توهمه التبريزي واحتال له. وإنما أتى الشيخ من سوء فهمه لما تولى شرحه من شعر الحماسة.

جاءت الكلمة في شعر للبعيث بن حريث بن جابر الحنفي، أحد بني الدؤل بن حنيفة لجيم. . بن بكر بن وائل، وهي أبيات جياد مختارة، يذكر فيها طروق طيف صاحبته على بعد الزيارة، ثم مسيره في البلاد، ثم يفخر بنفسه وبمحاماته دون عشيرته وذبه عن مآثرها ومجدها، يقول في مطلعها:

خيال لأم السلسبيل ودونها ... مسيرة شهر للبريد المذبذب!

حتى يفخر بما فعل في نصرة رجلين من قومه هما (يزيد) و (عبس)، كانا استصرخا به في ملمة من ملمات الحروب، فنصرهما وحامى عنهما، واستنقذهما، وهم يومئذ جميعاً في غربة عن ديار عشيرتهم، قال البعيث في ذلك:

وإن مسيري في البلاد ومنزلي ... لباً لمنزل الأقصى إذا لم أقرب

ولست، وإن قربت يوماً ببائع ... خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبب

ويعتده قوم كثير تجارة ... ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي

دعاني يزيد، بعد ما ساء ظنه، ... وعبس، وقد كانا على حد منكب

وقد علما أن العشيرة كلها، ... سوى محضري، من خاذلين وغيب

فكنت أنا الحامي حقيقة وائل=كما كان يحمي عن حقائقها أبي

ويظهر لي أن البعيث كان قد خرج هو وصاحباه (يزيد وعبس) إلى خراسان في ولاية أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، ومن أجل ذلك قال: (ومن دونها مسيرة شهر للبريد المذبذب)

قال التبريزي في شرح البيت: (أي أشرفا على الهلاك. هذا إذا رويت بفتح الكاف. يقال: أصابه نكب من الدهر ومنكب ونكبة ونكوب كثيرة. ومنه حفر نكيب ومنكوب: إذا أثر فيه حجر أو غيره. ويروى (على حد منكب) بكسر الكاف. يعني أنهما كانا مهاجرين له. يقال: فلان معي على حد منكب: أي كلما رآني التوى ولم يتلقني بوجهه. وتنكب عني: أي اجتنبني. والمنكب من كل شيء جانبه وناحيته. ومثله قولهم: فلان يلقاني على حرف. وفي القرآن (ومن الناس من يعبد الله على حرف). ويجوز أن يريد بقوله: (بعد ما ساء ظنه) بعد تسلط اليأس والقنوط من الحياة)

والذي حمل التبريزي على التفسير الذي اجتهد فيه، وادعى فيه دعوى ليس عليها بينة من نفس الشعر، ولا من كلام العرب، بعد أن قارب المعنى الصحيح في الشعر بقوله (أي أشرفا على الهلاك) - أنه أتى من سوء فهمه الذي بدر إليه في معنى قوله: (دعاني يزيد بعد ما ساء ظنه وعبس) فتوهم أنه أراد (بعد ما ساء ظنه في)، ثم ازداد في توهمه فزعم مهاجرة كانت بين البعيث وصاحبيه عبس ويزيد، لكي تتسنى له المداخل إلى دعواه في تأويل الكلام على وجه توهمه واخترعه، ثم أثبته بقوله (يقال: فلان معي على حد منكب). وهو شيء لم يقله غير التبريزي نفسه، بالمعنى الذي فسره به، وكان من حيرته أن عاد في آخر شرحه يقول: (ويجوز أن يريد بقوله (بعد ما ساء ظنه) أي بعد تسلط اليأس والقنوط من الحياة)، وكأن الأول الذي فهمه الصواب وكأن هذا الثاني جائز على تمريض.

وأخطأ التبريزي فيما فهم من قول الشاعر (ساء ظنه)، وأخطأ أيضاً في هذا التفسير الذي قال إنه (يجوز) أن يكون من وجوه تأويلها. فالعرب حين تأتي بقولها (ساء ظنه) في مثل هذا الموضع، إنما تريد بالظن: ذميم الخواطر التي تخامر نفس المحارب حين يحمر البأس، إذ يحدث نفسه بالهرب والفرار حبا للحياة وحرصاً على الأحوال، فيرتكب أخلاق للئام والأنذال والجبناء في ترك المحاماة عن الأعراض مخافة الموت المطبق. فمن ذلك قول أشابة بن سفيان البجلي:

ومستلحم يدعو، وقد ساء ظنه، ... بمهلكة، والخيل تدمى نحورها

كررت عليه، والجياد كأنها ... قناً زاعبي، لم تشنها فطورها

فنهنهت عنه أول الخيل، إنني ... صبور، إذ الأبطال ضج صبورها

والمستلحم: من قولهم: استلحم (بالبناء للمجهول) أي روهق في القتال، واستوحش العدو من هنا وهنا. فهو يدعو باسم عشيرته، وقد حدث نفسه بالفرار. وهذا البيت هو نفس معنى بيت البعيث. إلا أن هذا قال: (بمهلكة)، والآخر قال: (وقد كانا على حد منكب) بفتح الكاف. وهو أيضاً ما قاله التبريزي أولا، ثم أخذه حب الاجتهاد، فظن ظنا خطأ جعله رواية للبيت، بكسر الكاف، ثم توهم وتصنع الاجتهاد، ثم ادعى ما ادعى.

بل لقد قال عروة بن الورد يتمدح بنصرته قومه (بني عوذ) حين اشتد القتال عليهم بمادان فقال:

تدارك عوذاً، بعدما ساء ظنها، ... بمادان، عرق من أسامة أزهر

يعني نفسه حين نصرهم، وقد أوشكوا أن يفروا عن أعدائهم.

ويقول موسى بن جابر الحنفي (عم البعيث صاحب الأبيات المذكورة آنفاً) وجدت بنفس لا يجاد بمثلها ... وقلت: اطمئني، حين ساءت ظنونها

وما خير مال لا يقي الذم ربه ... بنفس امرئ في حقها لا يهينها

أي حين خطر له أن يفر من حومة القتال

هذا أول سوء قصد التبريزي إلى المعاني. أما ثانيهما فما استخف من الفرح باجتهاده، حتى عجل فلم يقف على كلمة (حد) ولم يحاول أن يفهمها، إلا على الوجه الذي بدر إلى عقله، وهو الحد الفاصل بين شيئين. بيد أن العرب تقول: (حد الظهيرة) و (حد المطر) و (حد الخمر) و (حد الموت) وكثير من مثل ذلك، وتعني بالحد الشدة والبأس والصلابة والعنفوان. وقد قال موسى بن جابر الحنفي في أول كلمته التي ذكرناها آنفاً

ألم تريا أني حميت حقيقتي ... وباشرت حد الموت، والموت دونها

وقد روى هذه الأبيات أبو تمام في حماسته، وشرحها التبريزي نفسه، فشغله الاجتهاد في إعراب (دونها) مرفوعة، عن تمحيص العبارة، وعن الوقوف على معنى (حد الموت)، وفر إلى النحو والعروض يسود الصحف بوجوه تأويلها. ونسى أن يفسر (حد الموت)، وهي سورته وشدته وتلهبه في المعترك وهذا هو المعنى الذي جاء في قول البعيث (حد منكب): أي سورة النكبة وشدتها في القتال، ولم يعن الحد الفاصل بين شيئين

وأما ثالث الثلاثة. فإنه عجل كعادته ولم يتثبت من معنى (على) في قوله (على حد منكب) فمعنى (على) في مثل هذه العبارة ينظر إلى معنى (في) أو (عند) ومن ذلك قول الحطيئة:

وإن قال مولاهم، على جل حادث ... من الدهر: ردوا فضل أحلامكم، ردوا

أي عند حادث خليل ينزل بهم. وكذلك قول الفرزدق

على ساعة، لو كان في القوم حاتم ... على جوده، ضنت به نفس حاتم

أي: في ساعة شديدة، لو شهدها حاتم لضن بالماء على أصحابه

ورحم الله إمام العربية شيخنا المرصفي، فإنه لم يعرج على سوء فهم التبريزي واستطالته في الدعوى، وقد قرأت عليه أبيات البعيث هذه أيام قراءتي عليه شرحه لحماسة أبي تمام. وقد جاء في المطبوع من شرحه عند ذكر هذا البيت: (على حد منكب) بفتح الكاف، مصدر ميمي من نكبه الدهر ينكبه بالضم نكباً: أصابه بنكبة. يريد، وقد أرهقهما العدو فبلغ منهما كل مبلغ) هذا، ومعنى الأبيات الثلاثة الأخيرة أن عبساً ويزيد حين حمى القتال، حدثتهما نفسهما بالفرار وهما في سورة نكبة كريهة مستأصلة، فدعوا - كعادة العرب في الاستغاثة والتداعي عند القتال - فقالا (بآل بكر بن وائل)، وقد عجلا فظنا أنهما يدعوان عشيرتهما، وبينهما وبين العشيرة (مسيرة شهر للبريد المذبذب)، إذ كانوا في خراسان كما قلت آنفاً، لا في ديار قومهما وكانت هذه الدعوة وسوسة من وساوس النفس الأمارة، فالعشيرة كلها كما يعلمان، علماً ليس بالظن، غائبة بعيدة، والقليل الذي حضر منها خاذل لهما مشغول بنفسه، إلا أنا، فإني حاضر لم أغب، وإذا دعيت فلا أخذل من دعاني. فإذا دعوا فقالا (بآل بكر بن وائل) فهما لم يدعوا أحداً سواي أنا وحدي

فكنت أنا الحامي حقيقة وائل ... كما كان يحمي عن حقائقها أبي

فالبيت الثاني (وقد علما أن العشيرة كلها) بيان واعتذار عن كذبه في قوله: (دعاني يزيد. . . وعبس) وهما لم يدعواه باسمه هو، بل هتفا باسم عشيرتهم (بكر بن وائل) ومن أجل هذا المعنى قال البيت الأخير الذي بلغ به غاية الفخر بنفسه، وحق له. فقد كان سيداً شريفاً شاعراً، وكان أبوه حريث سيداً شريفاً شاعراً، وكذلك كان سائر أعمامه وبني أعمامه.

وفي البيت رواية أخرى جادلت عنها كتبي في هذين اليومين، فلم أهتد إليها لطول الترك والنسيان. وهي (وقد كانا على حز منكب). أي في ساعة نكبة شديدة. والحز والحزة اليسير من الوقت، لأنه من معنى الحز وهو القطع. يقولون: (على أي حزة أتانا فلان!) أي في أي وقت ضيق حرج أتانا! ويقولان: (جئتنا على حزة منكرة) أي في ساعة منكرة شديدة. (وكيف جئت في هذه الحزة؟). ويقول أبو ذؤيب، يذكر جفاف الماء في شدة الحر، وانقطاعه حين لا يطاق الصبر عنه

حتى إذا جرزت مياه رزونه، ... وبأي حز ملاوة تتقطع!!

يقول: في أي ساعة منكرة شديدة ينقطع الماء، حين لا يستطاع الصبر عنه! فهذه الرواية تؤيد تفسيرنا، وتنفي عنه تحريف التبريزي وانتحاله واختراعه واجتهاده وأرجو أن يفسح لي القارئ العذر في الإطالة، كما أفسح الناس لتخليط التبريزي والناقلين عنه.

محمود محمد شاكر