مجلة الرسالة/العدد 910/الغزالي وعلم النفس
→ الإرث التناسلي بين الطب والإسلام | مجلة الرسالة - العدد 910 الغزالي وعلم النفس [[مؤلف:|]] |
فلسفة الوجودية ← |
بتاريخ: 11 - 12 - 1950 |
للأستاذ حمدي الحسيني
- 10 -
السلوك
التقينا بواسطة هذه المجلة الزاهرة مع القراء الكرام تسع مرات تحدثنا خلالها عن شخصية الإمام الجليل حجة الإسلام أبي حامد محمد الطوسي الغزالي وعن معرفته النفسية التي رأيناها تتلاقى مع قواعد علم النفس الحديث فتتآخى، وتتقارب فتتجاذب، فظهر من كل هذا صورة واضحة لنفسية هذا الرجل العظيم وصورة أوضح لعقليته الجبارة وتفكيره الدقيق العميق. وقد وعدنا في مقالنا السابق أن نتحدث هذه المرة عن السلوك في نظر الغزالي وهو ما يسميه الغزالي بالخلق.
والأخلاق الإنسانية هي هذه الصور الكثيرة المتعددة التي تشبع الرغبات بها نفسها فينشأ عن تعددها الفروق بين الناس والتفاوت في أقدارهم وقيم أعمالهم. والغزالي - ولا شك - من أكبر علماء السلوك أو (الخلق) الإنساني وعلى الأخص الخلق الإسلامي بالنسبة لقواعد الدين الحنيف، فبرا بالوعد وحرصاً على الخير نسوق لكم ما يقوله الغزالي في السلوك اللاشعوري أو ما يسميه هو بالخلق، وقوله هذا تحديد دقيق للسلوك اللاشعوري سواء كان هذا السلوك غريزيا أم مكتسبا بالعادة. يقول الخلق والخلق عبارتان مستعملتان معاً يقال فلان حسن الخَلق والخلق أي حسن الظاهر والباطن، يراد بالخَلق الصورة الظاهرة وبالخلق الصورة الباطنة. وذلك لأن الإنسان مركب من جسد مدرك بالبصر ومن روح مدركة بالبصيرة ولكل واحد منها هيئة وصورة إما قبيحة أو جميلة؛ فالخلق إذاً عبارة عن هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية. فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة سميت تلك الهيئة خلقاً حسناً. وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً.
هذا ما يقوله الغزالي في السلوك اللاشعوري وهو قول واضح الجوانب لا غموض فيه ولا إبهام. وهو موافق كل الموافقة لما يقوله علم النفس الحديث من أن الطفل يحس بالفرق الكبير بينه وبين أبيه وأخوته وأقاربه من الرجال في الطول والضخامة والقدرة فيشعر بضعف أمام قوتهم، وبعجزه بالنسبة إلى قدرتهم، وبحقارته بالقياس إلى عظمتهم، ثم ينتقل هذا الشعور إلى عقله الباطن فيستقر فيه ويصبح هذا الشعور هو الحاكم المطلق والمتصرف الذي لا ترد إرادته ولا تعصى إشارته. ينتقل الطفل من دور الطفولة إلى بقية أدوار حياته. ولكن ذلك الشعور بالضعف والعجز والحقارة يظل مستقرا في عقله الباطن يوجهه لاشعوريا ويصرفه باطنيا فقد تراه وهو في شيخوخته طفلاً في سلوكه ينزع في سبيل الحصول على أهدافه نزوعاً طفلياً كالإقدام الشاذ الذي قد يتخذ شكل الاعتداء والتحيز، والإحجام الشاذ الذي هو النكوص والانطواء على النفس وتجاهل المشكلة والتردد والحيرة والذبذبة التي قد تنقلب قلقاً ووسواساً وحصراً نفسياً خبيثاً مما لا يعلم غير الله مداه في السلوك ومدة بقائه في النفس حتى تنحل العقدة (عقدة النقص) بأعجوبة فيشعر الشخص بقوته وقدرته وكرامته ويندس هذا الشعور في عقله الباطن ويتولى قيادته من جديد فيسيره تسييراً يتناسب مع رجولته وقوته وكرامته. يسيره لاشعوريا كما يقول الغزالي (بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية).
ولنرجع الآن إلى الأمثال التي يضربها الغزالي على صحة قواعده والشواهد التي يقدمها لشرح تلك القواعد وتقريبها للأفكار. يقول:
وإنما قلنا إن الأخلاق هيئة راسخة لأن من يصدر منه بذل المال على الندور ولحاجة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه ثبوت رسوخ. وإنما اشترطنا أن تصدر الأفعال بسهولة ومن غير روية لأن من تكلف بذل المال والسكوت عند الغضب بجهد وروية لا يقال خلقه السخاء والحلم، فالسلوك الصحيح عند الغزالي هو السلوك اللاشعوري. وبعبارة أقرب إلى الحقيقة هو السلوك الذي يكون ناشئا عن توافق بين العقل الباطن والعقل الواعي بدليل قوله ليس الخلق عبارة عن الفعل. فرب شخص خلقه السخاء ولا يبذل لفقد المال أو لمانع؛ وربما يكون خلقه البخل وهو يبذل إما لباعث أو لرياء. وليس هو عبارة عن القوة إلى الإمساك والإعطاء بل إلى الضدين واحد. وكل إنسان خلق بالفطرة قادر على الإعطاء والإمساك وذلك لا يوجب خلق البخل ولا السخاء. وليس هو عبارة عن المعرفة فإن المعرفة تتعلق بالجميل والقبيح جميعاً على وجه واحد. بل هو أي الخلق عبارة عن الهيئة التي تستعد النفس لأن يصدر منها الإمساك أو البذل هو عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة.
ونقارن الآن بين هذه الأقوال التي يقولها الغزالي وأقوال علماء النفس المعاصرين وهي أن الرغبات ليست خيراً ولا شراً في ذاتها فإن الخير والشر موجود فقط في ذلك الطريق الخاص الذي يسلكه الفرد لإشباع رغباته.
ومن الحق أن نترك الغزالي يقرر الخير والشر في طريق السلوك لإشباع الرغبات ويضع قيم الأخلاق. وينعت هذه القيم بالحسن والقبح في نور عقيدته الدينية وآدابه الإسلامية. يقول: إن حسن الصورة الظاهرة لا يتم بحسن العينين دون الأنف بل لابد من حسن الجميع ليتم حسن الظاهر. فكذلك في الباطن أربعة أركان لابد من الحسن في جميعها حتى يتم حسن الخلق فإذا استوت الأركان الأربعة واعتدلت وتناسبت حصل حسن الخلق وهو قوة العلم وقوة الغضب وقوة الشهوة وقوة العدل. أما قوة العلم فحسنها في أن تصير بحيث يسهل بها إدراك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال، وبين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الجميل والقبح في الأفعال. فإذا حسنت هذه القوة حصل منها ثمرة الحكمة. وأما قوة الغضب فحسنها في أن يصير انقباضها وانبساطها على ما تقتضيه الحكمة. وكذلك الشهوة، فإن حسنها في أن تكون تحت إشارة الحكمة. وأما قوة العدل فهي ضبط الشهوة والغضب تحت إشارة العقل والشرع.
ونحن نرى الغزالي قد عرف جيداً أن كثيراً ما تتصارع رغباتنا وتتعارض دوافعنا المختلفة فيكون لدينا نزوع أو رغبة في أن نسير على نهج معين من الأعمال. وفي نفس الوقت يكون فينا ميل آخر أو رغبة في أن نسلك طريقا مخالفا للأول كل المخالفة. وقد يكون هذان النوعان من السلوك متناقضين تمام التناقض فنندفع إلى هذا الطريق ثم إلى ذاك إذ لا نستطيع أن نسلك الطريقين معا فينشأ الصراع.
عرف الغزالي كل هذا فانبرى يضع القوى النفسية المصارعة في صفوف معينة ويطلق عليها إذا ما بدت سلوكاً، نعوتاً من الحسن والقبح والخير والشر والفضيلة والرذيلة يقول:
العقل مثاله مثال الناصح المشير وقوة العدل هي المقدرة ومثالها مثال المنفذ المحض لإشارة العقل، والغضب هو الذي تنفذ فيه الإشارة ومثاله مثال كلب الصيد فإنه يحتاج إلى أن يؤدب حتى يكون استرساله وتوقفه بحسب الإشارة لا بحسب هيجان شهوة النفس، والشهوة مثالها مثال الفرس الذي يركب في طلب الصيد فإنه تارة يكون مروضا مؤدبا وتارة يكون حجما؛ فمن استوت فيه هذه الخصال واعتدلت فهو حسن الخلق مطلقا. ومن اعتدل فيه بعضها دون البعض فهو حسن الخلق بالإضافة إلى ذلك المعنى خاصة. كالذي يحسن بعض أجزاء وجهه دون البعض، وحسن القوة العصبية يعبر عنه بالشجاعة، وحسن قوة الشهوة يعبر عنه بالعفة. فإن مالت قوة الغضب عن الاعتدال إلى طرف الزيادة تسمى تهوراً. وإن مالت إلى الضعف والنقصان تسمى جبناً وخوراً. وإن مالت قوة الشهوة إلى طرف الزيادة تسمى شرها. وإن مالت إلى النقصان تسمى جموداً. والمحمود هو الوسط وهو الفضيلة. والطرفان رذيلتان مذمومتان. والعدل إذا فات فليس له طرفاً زيادة ونقصان بل له ضد واحد وهو الجور. وأما الحكمة فيسمى إفراطها عند الاستفحال في الأغراض الفاسدة خبثا ويسمى تفريطها بلها. والوسط هو الذي يختص باسم الحكمة.
فإذاً أمهات الأخلاق وأصولها أربعة: الحكمة والشجاعة والعفة والعدل ونعني بالحكمة حالة النفس وقوة يساس بها الغضب والشهوة، ونعني بالشجاعة قوة الغضب مقادة للعقل في إقدامها وإحجامها، ونعني بالعفة تأدب قوة الشهوة بأدب العقل والشرع. ومن اعتدال هذه الأصول تصدر الأخلاق الجميلة كلها إذ من اعتدال قوة العقل يحصل حسن التدبير وجودة الذهن. ومن إفراطها يحصل المكر والخداع. ومن تفريطها يصدر البله والجنون.
وأما خلق الشجاعة فيصدر عنه الكرم والنجدة. وأما إفراطها وهو التهور فيصدر منه الصلف والكبر. وأما تفريطها فيصدر منه الذلة والصغار والانقباض عن تناول الحق الواجب. وأما خلق العفة فيصدر منه السخاء والحياء. فأمهات الأخلاق إذاً هذه الفضائل الأربعة وهي الحكمة والشجاعة والعفة والعدل.
حمدي الحسيني