مجلة الرسالة/العدد 892/الأدب والفنّ في أسبوع
→ رسالة الشعر | مجلة الرسالة - العدد 892 الأدب والفنّ في أسبوع [[مؤلف:|]] |
الكتب ← |
بتاريخ: 07 - 08 - 1950 |
للأستاذ عباس خضر
الأدب المصري أدب عربي
كتب صديقي الدكتور عبد الحميد يونس مقالا في صحيفة (المصري) يوم الخميس الماضي، عنوانه (تراثنا الأدبي) نعى فيه إهمالنا الآثار الأدبية التي حلفها بعض أعلام الأدب في العصر الحديث، ثم تحدث عن الفكر التي دعت إلى إنشاء إدارة لإحياء التراث الأدبي في مراقبة الثقافة بوزارة المعارف، فأبدى خشيته من (أن يكون القوامون على الثقافة العامة في الدولة قد تورطوا في الخطأ المنطقي الذي يقع فيه كثيرون من المشتغلين بتوجيه الحياة العقلية، وهو أن مقياس الأصالة في الفن والفكر هو القدم أولا، والعروبة ثانيا) وندد بعناية إدارة التراث التي تابعت فيها (المشتغلين بالحياة العقلية) - بالأدب العربي القديم دون الأدب المصري بعد الفتح الإسلامي كما ندد بإهمال الأدب المصري الحديث.
والاهتمام بالأدب المصري قديمه وحديثه لا يمارى في وجوبه أحد، ولكنني أحب عندما ندعو إلى هذا الاهتمام، أن نفعل دون أن نستشعر العصبية الاقليمية، فقد قامت هذه العصبية للأدب المصري منذ ومن في بعض الأذهان، وكان مما صاحبها إنشاء كرسي للأدب المصري في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول ولم يصنع هذا (الكرسي) شيئاً جديداً في هذا السبيل إلى الآن، ولعل ذلك راجع إلى الشعور بأن فكرة الاهتمام الجزئي الزائد غير طبيعيةلأن الأدب العربي، وفي جملته الأدب المصري، وحدة متماسكة لا تتزايل أجزاؤها.
وقد لمحت تلك العصبية في مقال صديقنا الدكتور عبد الحميد يونس، وهي نزعة أعرفها فيه. وكنت قد قرأت الذي كتبه في مجلة (الأديب المصري) بعنوان (أدب أمة لا أدب لغة) عزز فيه (الفكرة المصرية) وقال:
(مضى الزمن الذي كان الأدب فيه يدرس ويتذوق على أنه ثمرة لغوية لا أكثر ولا أقل، وانطمست النظرية القديمة التي كانت تحتفل بالصورة دون المصور، ولم يعد للفكرة الحرفية التي سيطرت على الآداب والفنون من السلطان ما كان لها في الماض القريب) وهو يذهب بذلك إلى أن اهتمامنا بالأدب العربي غير المصري موجه إلى تذوقه كثمرة لغوية دون أن نحس بما يعبر عنه أو ننفعل بما يصوره، كأننا غرباء في الإحساس عن أهله!
والواقع أننا نحس الإحساس العربي العام ونشعر بالمشاركة والوجدانية لأولئك الأدباء المتقدمين الذين عاشوا في العراق والشام وغيرهما، ولا يقل شعورنا بهذه المشاركة عن شعورنا نحو أدباء مصر الذين عاصروا الدول الإسلامية التي قامت بها، بل أنا أعزم أن المشاركة الوجداني في أدب الأولين أكثر منها في أدب الاخرين، لأن هؤلاء كانت تستهلك الزخارف اللفظية طاقاتهم ويشغلهم التكلف عن صدق التعبير والنفوذ إلى الأعماق
فالأدب العربي، قديما وحديثا، ليسأدب لغة مشتركة فقط، بل هو أيضاً أدب أمة هي الأمة العربية. ولا أنكر الفوارق والسمات الاقليمية، ولكن الروح العام يصهرها جميعاً في بوتقة العروبة.
فالأدب المصري - كما أرى واشعر - جزء من كل، لا ينبغي له أكثر مما ينبغي لأي جزء آخر.
كما أنه يجب الاهتمام به مثل غيره. والحق أنه لم يكن معنيا به مثل غيره، ولكن الحق أيضاً أن ذلك لم يكن سببه أن مقياس الجودة (العروبة) كما يقول الدكتور عبد الحميد، وإنما هو راجع إلى أن النهضة الأدبية الحديثة قامت على أسس منها الرجوع إلى أدب المتقدمين للخروج من ركاكة العصور المتأخرة وهزال آدابها، فاتجهت حركة الإحياء إلى الآداب الأولي التي كانت قبل التكلف والركة، وخاصة آداب العصور الزاهرة كالعصر العباسي في بغداد.
وتصور أي مهزلة تكون لو قامت الآن في العراق مثلا حركة أدبية ترمي إلى الإعراض عن الأدب العربي الحديث في مصر، لأن الأدب العراقي في هذا العصر أولى بالعناية منه! أليس هذا كذاك؟
على أن الفكرة العربية العامة أدنى إلىالفكرة العالمية في الأدب والفن، فهل يريد هؤلاء المواطنون أن ننطوي على أنفسنا أدبيا ونتخلف عن ركب العالم؟ أو يريدون أن نزيح العروبة جانبا ونمشي في الركب. . .؟ ولست أدري ماذا يضيرنا إذا نحن درسنا الأدب المصري وأحيينا آثاره على أنه أدبعربي، في هدوء دون أن نشغل أذهاننا بالفكرة الانفصالية ونتعب أعصابنا بالعصبية الإقليمية؟
الشاعرة (ن. ط. ع)
قرأت بإحدى الصحف اليومية في يوم من هذا الأسبوع نعى فتاة باسمها الكامل، أعرف أنها الآنسة (ن. ط. ع) الشاعرة التي نشرت لها (الرسالة) قصائد وقطعاً من أشعارها ونشرت لها صحيفة البلاغ كثيرا، كما نشرت لها (الأهرام) وكانت قد استرعت انتباهي فعقبت على بعض شعرها في العام الماضي، تعقيبا ختمته بما يلي (والفتاة الآنسة وإن كانت في أول الطريق إلا أنها على الجادة تهديها إلى الغاية موهبة صادقة مخلصة، فهيا يا آنسة ن. من يدري. . .)
أجل من يدري أنها كانت تسير إلىالغاية المحتومة بهذه السرعة، وكنا نرجو أن يكون ما كانت تصبوا إليه من صيد وخلود في عالم الشعر، كما كانت تقول:
هل يأخذ القبر ... مني سوى جسمي
والصيت والشعر ... لن يتركا اسمي
سأصير شاعرة ... من قادة الفكري
أنا لست ساخرة ... يا قلب من يدري
ولكن الموت أعجلها، فاحتطفها وهي على عتبة الخلود، فطوى أملها الذي كانت تعكف على التطلع إليه. وقضى على عالم من الإحساس المرهف كانت تنوء به، فحطت حملها ونامت بجواره، وليتها نامت قريرة بما كانت تؤمل من ترك اسمها وراءها يلمع في دنيا الأدب والشعر، ولكن الموت أعجلها ولعله أطلعها على أن ما كانت تطمح إليه أمر باطل وسراب خادع. . . من يدري!
لقد قرأت قصة هذه الفتاة فيما كانت تنشره من شعر، كانت حبيسة (التقاليد) تطل على الحياة من بين قضبان سجنها. . . تنظر بعين الأدبية الشاعرة إلى المجتمع الحافل الصاخب فتود لو شاركت الركب سيره، ثم لا تلبث أن تثوب إلى ما أخذت به في تربيتها المحافظة، فتقول:
ورجعت أدراجي ... أتجانب الناسا في برجي العاجي ... أتذوق الكاسا
كاس من الطهر ... وهناءة البال
والفن والشعر ... في برجي العاجي
ولكن (البرج العاجي) كان مضروبا عليها في قسوة يظهر اللم بين السطور وإن أظهرت ميلها إلى الاعتصام به مطاوعة لما جرت عليه السرة من الحجاب وشدة التحرز. فكان الصراع دائراً في نفسها بين ذلك الحجاب وبين ألوان الحياة التي تدعو إليها لا باعتبارها أية فتاة، بل لأنها فنانة، والفن يأبى الإسار.
لقد قلت في الكلمة التي كتبتها عنها: إنها في حاجة إلى مزيد من العناية من حيث إخضاع التعبير. ولما تتبعتها بعد ذلك ورأيتها تدر حول ذلك الصراع في نفسها، لا تخرج عنه إلا قليلا، عرفت أنها مشغولة بها عن تأمل ما عداه، فكان ينقصها أيضاً الآفاق الرحيبة التي تنتقل بينها. ولم يكن كل الأمر احتجابها، وإن كان هو بعض الأمر بلا مراء، فكان يمكن لو فرغت من ذلك الهم أو لو تحررت من تسلطه عليها كل التسلط أن تتصفح الحياة من حيث هي ومما تقرأ، ولكن حتى هذا القدر حرمته لانشغالها بالتفكير في آلام نفسها ومنازعتها القيود
ظلت شاعرتنا تكافح تلك النوازع النفسية، تثبها تارة في شعرها، وأحيانا تنطوي عليها، وهي ترجو أن تجد من الشعر والصيت فيه ما يعوضها، حتى كلت فأسلمت للمنية قيادها، وإذا نحن نطلع على وجه كئيب من نعهيا، فيبعث في النفس الألم والأسى، في الوقت الذي كنا نتفقدها، عسى أن تطلع علينا بجديد من الشعر.
وإذا كان القبر قد احتوى على جثمانها فلعل لتلك الروح الشاعرة من هذا الكلمة ما يرضيها بعض الشيء. ولقد كانت (السرالة) مجلتها الحبيبة في دنياها الأدبية، فالآن تبعث الرسالة إليها هذه الباقة، من حبيبة حزينة إلى فقيدة عزيزة.
السياسة العربية والتعاون الثقافي
نشرت (الأهرام) أن وزارة المعارف قررت وقف ندب المدرسين المصريين للعمل في معاهد العراق، وقال المحرر إن الوزارة اتخذت هذا الإجراء بعد دراسة مستفيضة، وإن العراق أساءت معاملة المدرسين المصريين، وإن ذلك القرار أتخذ بتوجهيه من وزارة الخارجية المصرية على ضوء التطورات الأخيرة للعلاقات السياسية بين البلدين.
وذلك كلام غير صحيح، ولا ندري لماذا يكتب! فلم تقرر وزارة المعارف شيئاً في هذا الصدد، ولم يطرأ على خطتها في التعاون الثقافي بينها وبين البلاد العربية أي تغيير. ولم يجد في العلاقات الثقافية بين مصر والعراق ما يجعل وزارة المعارف تدرس هذا الموضوع أية دراسة، لا مستفيضة ولا غير مستفيضة، ولم تتلق الوزارة أية شكوى من أي مدرس أسيء إليه في العراق. ولست أدري من اين أتت هذه الإشاعة العجيبة، فقد لقيت عدداً من إخواننا المدرسين العائدين من العراق فلم أجد عندهم شيئاً من ذلك، بل هم على العكس يذكرون ما لقوا هناك من تقدير وتكريم.
كل ما في الأمر أن وزارة الخارجية المصرية تلوح بهذا الموضوع في محادثاتها التي تتعلق بالشئون السياسية مع العراق. . . ووزارة المعارف ترى ذلك فتسكت، على سبيل التضامن السياسي.
والمأمول ألا يتعدى الأمر ذلك التلويح، فلا ينبغي للسياسة أن تتجاوز دائرتها إلى الشئون الثقافية، وخاصة أن ميثاق الجامعة العربية يكفل التعاون الثقافي بين البلاد العربية، وتنص المادة الثانية من المعاهدة الثقافية على أن (دول الجامعة توافق على تبادل المدرسين والأساتذة بين معاهدها العلمية بالشروط العامة والفردية التي يتفق عليها)
على أن ذلك التعاون الثقافي أقدم من جامعة الدول العربي، وآثاره ظاهرة في العلاقات التعليمية والأدبية الموطدة.
عباس خضر