الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 892/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 892/الكتب

بتاريخ: 07 - 08 - 1950


كتاب الأعوام الحاسمة

الفيلسوف الألماني أوزفالد شبنجلز

ترجمة الأستاذ علي بك حسن الهاكع

المراقب العام لمنطقة التعلم بالدقهلية

هذا كتاب نقله الأستاذ علي بك حسن الهاكع المراقب العام لمنطقة التعليم بالمنصور عن اللغة الألمانية إلى اللغة العربية وهو آخر كتاب أنتجه الفيلسوف الألماني شبنجلر قبل وفاته، وضعه سنة 1933 وتوفي سنة 1936 قبل اشتعال نار الحرب العالمية الماضية بثلاثة أعوام وتناول فيه قضايا العالم ومشكلاته وحضارته، فدرسها على ضوء الفلسفة الواقعية وصور الحاضر على أساس المشاهدة، وتنبأ بالمستقبل قياساً على الماضي. وعرض كله على الناس في وضع جلي واضح يفسر كل غامض، ويجلو كل مبهم. ويوضح نظراته في فكرة شاملة تنتظم كل مظاهر الحضارة وتختزلها في حيز محدود لا فخاء فيه ولا غموض.

وقد ضم الأستاذ الهاجع بك إلى المكتبة العربية بهذا العمل الجليل كتاباً يعتبر من انفس وأثمن ثروات الفكر الإنساني لا توزن بذهب الأرض، ولا تقوم بكنوز العالمين.

وكأني بالمترجم الفاضل، وقد رأى أن فلسفة شبنجلر ليست بالشيء الهين الذي يتناوله القارئ في يسر وسهوله، وأنها من العمق والأصالة بحيث تحتاج إلى مقدمة تقرب إلى الباحث مذهب شبنجلر ونظرياته الجريئة الجديدة، فوضع لهذا الكتاب مقدمة ضافية تعتبر كتابا بذاته، سماها (النظرة المصرية) أتاح فيها للقارئ أن يلم بمذهب الرجل وأن يدركه إلى الحد الذي يسمح له بتذوق ما يقرأ وفهمه على الوجه الذي قصده شبنجلر

وقد ذكر في هذه المقدمة أن كثيراً من المعاني السامية قد ابتذلت في هذه الأيام، ومنها الفلسفة، التي أصبحت إما نقلا أجوف لشتى المذاهب وفي مختلف الثقافات قديمها وحديثها، وهو نقل يقصى ما بينها وبين الإدراك السليم، ويجعل منها عبارات غامضة لا يتذوقها إلا طائفة محدودة تستأثر بها وبغوامضها، وإما لهواً ولعباً ينضم إلى سائر ضروب الشعوذة الأدبية التي ترمي إلى صرف النشاط الثقافي عن جوهر الأمر.

وإن هذا الذي يقوله الأستاذ الهاكع في مقدمته الرائعة ليذكرني بمحاضرته القيمة التي ألقاها عن شبنجلر قبل توزيع هذا الكتاب في قاعة المحاضرات بدار المركز الثقافي بالمنصورة وفيها بسط لنا معاني الفلسفة وقربها إلى أذهان المستمعين، وعرضها عرضاً مغريا جذاباً خالياً من التعقيدات، والمعميات،

وقال عن شبنجلر أنه ليس من هؤلاء المتفلسفين الذين جعلوا من الفلسفة عبارات غامضة تستأثر بتذوقها طائفة محدودة، وأنه ليس بالناقل وإلا باللاهي، وإنما هو مفكر أصيل جرئ حسن وأفكاره عصارة دمه قبل أن تكون وليدة فكره، ولذلك يعرضها عارية من كل ملطف، ويقذف بها في وجه العالم أجمع في صراحة مدهشة، وشجاعة عجيبة قلبت كثيراً من أوضاع الفكر المقرر. ومن أسس الفنون وسائر الاتجاهات العلمية والأدبية! فكم من هيكل فكري أو حكم راسخ حمته القداسة مئات أو آلاف من السنين قد انهار تحت معوله القاسي؛ وكفاك أنه حكم القضاء على المنطق المألوف - منطق العلمية - فنزع سلطانه وأخذ بمنطقه الخاص الذي أسماه منطق الحياة.

ولقد أحسن الأستاذ الهاكع بك كل الإحسان حين كشف لنا في مقدمته عن شخصية شبنجلر؛ وحدثنا عنه حديثاً مفصلا أظهرنا على مذهبه وفلسفته، واتجاهاته الفكرية؛ فقرأنا كتابه ونحن نعلم تمام العلم أن الرجل قد جاوز حد الإعجاز فيا كتبه وفيما وجهه إلى الحضارة الأوربية من لطمات، وأنه كشف لنا عن خفايا وأسرار هذه الحضارة وعوامل نهضتها وانحلالها ودورانها المحتومة، وأن تقديراته للمستقبل يلفت حد الروعة الفذه إذ أنه قدر الحرب الأخيرة قبل وقوعها وقدر نتائجها والساحة السياسية والحربية تقديراً عبقرياً. وإننا لنقرأ اليوم ما كتبه منذ سبعة عشر عاما كأننا نقرأ تصويراً للحاضر يستحيل على غير المعاصر أداؤه.

وأنا أعتقد أن الأستاذ الهاكع بك حين فكر في ترجمة شبنجلر عن الألمانية نفسها، فإنما ترجمه وهو متأثر به ومعجب بأفكاره ومذهبه إلى حد بعيد بالرغم من أنه احتاط لنفسه وقال: أنه لا يسلم بكل ما رآه، ولكن صراحته الألمانية الخشنة تفتح لنا فرجة إلى خفايا كلها فائدة وخير لنا.

ولذلك فقد أطال الكتابة عنه، ولم يترك ناحية تتصل بهذا الفيلسوف عن قرب أو عن بعد إلا عرضها على القارئ عرضاً نموذجياً ناجحاً يحبب إليه اعتناق مذهب شبنجلر والتأثر به قبل قراءته.

وهذا نوع عجيب من عبقرية القدرة على الدعاية للمذاهب الفلسفية التي يميل إليها الكاتب القدير.

ألا ترى أنه يصور لك آراء شبنجلر تصويراً بديعاً يملك عواطفك ويهز جوانحك ويتغلغل في صميم نفسك حين يقول لك: (إنه يرى أن كل ألوان القياس والقضايا تسند في النهاية إلى بدهيات هي في ذاتها قضايا؛ ولكنها قضايا مسلم بها لا تتسع لأن تبنى على قضايا أخرى. شوهنا يتساءل: أليس كل التفكير إذن مرتكزاً على الاعتقاد؟ وأليس كل ما تعارفنا عليه من نظريات وأسس علمية مهما تبلغ من الدقة مبنياً على مسلمات هي في ذاتها عقائد؟ فإن كان الفكر في ذاته مبنياً على المسلمات والعقائد فما الفارق إذن بين التفكير والاعتقاد؟

أليس هو في الدرجة فحسب؟ أي في أن الفكر المألوف أبعد عن العقيدة الأساسية التي تطالعك مباشرة، وبدون أدنى وسيط أو تسلسل؟ وبهذا حول العلوم في أسسها إلى عقائد وقال إن ما يأخذه العلماء على الدين إنما هو مبهم مردود إلى راميه.

وهكذا هدم العلية المألوفة وحصرها في حيز ضيق واهتدى إلى أن وراء الحوادث ما يعلو على الأسباب السطحية! وراءها منطق الحياة والزمن، وراءها القضاء أو المصير بالمعنى الألماني.

القضاء الذي يملي على الفرد وعلى النوع وعلى الحياة ألوان النمو والتطور مما لا يمت بأي وشيجة إلى السببية، فهو يعتنق جبرية من لون جديدة تتصل بالجبرية الإسلامية وتختلف عنها، تتصل بها من حيث الحتمية، وخلوها من التدبير، وتختلف عنها من حيث ردها إلى مقدر بصورته الفلسفية الألمانية ذلك القدر الذي تلعب فيه الإرادة البشرية الفردية دورها. ومن العسير على غير من تذوق الثقافة الألمانية أن يتصور كيف نتسق صور القدر مع فكرة إرادية ذاتية خارجة عن الروح الكونية)

وما كان لغير علي بك الهاكع الكاتب المسلم الفيلسوف أن يعلق على رأي شبنجلر مثل هذا التعليق، وأن يوازن بين الجبرية الإسلامية والجبرية التي يعتنقها الفيلسوف الألماني، ويبين الفوارق الدقيقة ووجوه الشبه بينهما بمثل التفصيل البديع الذي يعقب عليه بقوله: (ومهما يكن لون هذه الجبرية التي أتى بها شبنجلر فإنها مع غيرها من أركان مذهبه كانت معولا جباراً أصاب المادية الحديثة في أرسخ جذورها وأفسح الطريق لضرب جديد من الروحانية ينظر إلى المرحلة الحضارية الحالية في القرب نظرة فيها لنا نحن الشرقيين رضا وتأس وبسط للأمل في المستقبل: فهو روحا أصيل قد نفذ ببصره الثاقب إلى ما وراء المادة واهتدى إلى أن الروح هي جوهر الأمور لا المظاهر المادية التي تلعب بالأحاسيس فتخدعها وتصرفها عن الحقيقة (الكافية) هذا هو شبنجلر كما يصوره لنا أستاذنا الجليل علي بك الهاكع في مقدمته بعبارته الخلابة، ومنطقه الصحيح، وذوقه السليم

أما شبنجلر حين يصور نفسه في كتابه (الأعوام الحاسمة) فلي فيه كلمة أخرى أرجو أن أوفق في كتابتها إن شاء الله.

المنصورة

علي عبد الله